الأحد 2021/03/21

آخر تحديث: 11:22 (بيروت)

أمهات أفريقيات محرومات من أطفالهن.. وعنصرية المهاجرين اللبنانيين

الأحد 2021/03/21
أمهات أفريقيات محرومات من أطفالهن.. وعنصرية المهاجرين اللبنانيين
أمهات سيراليونيات كثيرات، متزوجّات من لبنانيين، فقدن أبناءهن وبناتهن (Getty)
increase حجم الخط decrease
كلما أسمع أغنية "ستّ الحبايب يا حبيبة"، أتذكر جدّتي فقط. فهي كانت كأمي، بل أميّ. لستُ من اختار ذلك. ومن يختار أمه التي ولدته أصلًا؟! وما اخترت كذلك أن أكبر بعيدًا عن أمي، وأن أهدي الورود لسواها في عيد الأم.

تذكرني الحيرة في هذا العيد بليلة وفاة جدتي، عندما هاتفتني أمي من سيراليون، فرحت اهتف مرددة: "ماما، ماما"، وأبكي. وكانت هي تجيبي: "نعم، نعم". وكنت أقصد جدتي في هتافي، وليس أمي!

أمهات الفقد
واندلعت الحرب الأهلية في سيراليون سنة 1991. أمهات سيراليونيات كثيرات، متزوجّات من لبنانيين، فقدن أبناءهن وبناتهن، الذين واللواتي عاد بهم وبهن آباؤهم إلى لبنان، هاربين من الحرب الأهلية التي أرخت بظلالها الوحشيّة على سيراليون، وتاركين الأمهات السيرليونيات الشابّات حائرات عاجزات، وفي وحشة الفقد.

كان علي شقير، المولود في "كويندو- سيراليون"، في السنة الأولى ونيف من عمره، عندما جاء به والده إلى لبنان. كان صعباً قبول والدته إبعاد ولدها عنها. استمرت محاولات زوجها لإقناعها حوالى ثمانية أشهر. فرضخت أخيرًا، فيما كانت ضراوة الاقتتال تشتد في الشوارع، رافعةً وتيرة إصرار زوجها ومدّه بالحجج كي يحمل ولدها عائداً به إلى لبنان.

أبناء الدين والجذور
ويسمع الأبناء والبنات المولودين/ات من أب لبناني وأم أفريقية، الجواب نفسه على سؤالهم/هن: لمَ جئتم بنا إلى لبنان؟ لمَ أُبعدنا عن أمهاتنا؟ والجواب هو: "لتكتسبوا تعاليم الدين، لتتعلّموا لغتكم الأم". وهناك تتمة لهذا الجواب: لأن أمهاتكم نساء غير قادرات على تربيتكم في بلاد تعاني من الفقر والحرب. ولتكسبوا تعليمًا جيّدًا وكريمًا. لحمايتكن، أنتن الفتيات، من الانحراف...

وتصّب هذه الحجج كلها في نهاية المطاف في خانة واحدة: ربط الأولاد الخليط (من أم إفريقية ملونة، وأب لبناني مهاجر) بالجذور، بأصل عائلة الأب الموسعة وفصلها. ولكسب الاحترام بين أبناء الجالية اللبنانية.

هذا ما أراده والد علي ووالدي أنا أيضًا. لكن هذه الحجج حرمتنا أمهاتنا، ومن البلاد التي صرخنا فيها الصرخة الأولى، ومن لغتها وثقافتها. والأهم أنها حرّمت أمهاتنا من حقهن في الأمومة، وأحدثت شرخًا بيننا وبينهنّ، علينا وعليهن إعادة ترميمه بصعوبة، بعد سنوات طويلة من الاغتراب وفقدان الأم.

بلا أمهات
ويكشف علي عن خيط رفيع مشترك في كل قصصنا، نحن أبناء وبنات هذه الزيجات: "الأمل بالعودة" أو "الجهل بالفراق". ويقول علي: "عندما وافقت أمي على مغادرتي سيراليون مع أبي، كان من المفترض أن أعود ثانية إلى هناك مع أبي، لنعيش مع أمي بعد أن يبيع قطعة أرض في لبنان. ولكن هذا لم يحصل". وانقطع التواصل مع والدة علي. وحسبما روى له والده "انقطعت أخبار أمه، وظنّ أنها قُتلت في الحرب". وعاش علي مع جدّه وجدته لأبيه في بيروت. وعندما كان يُسأل عن والدته كان يجيب: "ماتت في الحرب الأهلية في سيراليون". ويضيف: "أخبرتني جدتي أنني كنتُ أبكي كثيرًا عندما كنت صغيرًا، مطالبًا بأمي، لكني رحت أنساها مع مرور الأيام".

وبعد 17 سنة يجمع القدر علي بأمّه، بواسطة صديق والده الذي التقى بها في سيراليون صدفة، وأخبر علياً أن والدته ما زالت على قيد الحياة. ويقول علي: "في بداية تواصلنا لم أشعر بأي لهفة تجاهها. كان الجمود يشوب علاقتنا. ومع مرور الوقت شعرت بالنقص، ورحت أبحث عن أمي".

بين الخجل والفرح
وتمّر السنوات، ورغبة علي بلقاء أمّه تزداد. أخيرًا سافر إلى سيراليون. أمضى معها أسبوعين "اشتعالاً لعاطفته" تجاه والدته، واكتشف أنها نذرت ألا تتزوج ليعود إليها وحيدها.

عاد علي إلى لبنان واتخذ قراراً بمغادرته للعيش مع أمه في سيراليون. وهو يعمل حارساً في إحدى الشركات اللبنانية، ويقضي أيّام عطلته مع والدته، محاولًا تعويضها ما فات من حقها في الأمومة، وحقه من حنان أمّه.

ويقول علي: "أعرف أحدهم يشعر بالخجل لأن أمّه أفريقية وملونة البشرة. لكنّي أفرح عندما أشعر بفخر أمي بي، عندما أذهب معها إلى الكنيسة".

صلوات وشهادات
كلما حادثت علياً يشجعّني على السفر إلى سيراليون. يقول لي "لازم تاخدي هالخطوة". وأنا غادرتُ سيراليون مع جدي وجدتي لأبي أثناء الحرب هناك. كنت في أسبوعي الأول في هذا العالم، عندما أخذتني جدتي لتربيتي. ومن زمان رحت أجمع الأخبار عن أمي وأفراد عائلتي، كأني أفكّك أحجية. أكتشف في كل مرة معلومة جديدة من شأنها أن تشعل غضبي أكثر فأكثر.

للأسباب نفسها جاؤوا بي إلى لبنان. لكنّي أتساءل: إلم يكن هناك من خيار آخر؟ تقول أمي: "لم أكن أعلم أنك في لبنان، كنت أبحث عنكِ هنا في سيراليون. لقد أخذوكِ منّي". وهذا الخبر يشتتني كثيرًا.

سمعت للمرّة الأولى صوت أمي في حرب تموز 2006. أذكر اليوم تلك المكالمة الهاتفية، فيضحكني المشهد من فرط غضبي الذي أخففه بالتهكّم. امرأة تبكي بكاءً هستيرياً وتردّد اسمي. وأنا مذهولة أبكي لبكائها مجيبةً: "نعم، نعم" فقط!

وكانت حشرية أفراد عائلة والدي الكبيرة، لمعرفة ما دار بيننا من كلام، أشد ما أزعجني. وانقطع تواصلي بأمي، فطلبت من عمّي أن يصلني بها، وكنت في سنتي الجامعية الثانية!

نضال طفلة سوداء
حتى اليوم ما زال الشرخ بيني وبين أمي قائمًا. لا نعرف عن بعضنا الكثير، رغم كل المحاولات. تحاول كل واحدة منّا إخفاء معاناة الانفصال والقطيعة القسرية بيننا. لم تكن أمي في حياتي من قبل سوى إنسان عليّ أن أدافع عنه لأنتزع احترامه من أبناء مجتمعي. وهو أمر أسمح لنفسي بأن أسمّيه نضالًا منذ الطفولة.

أذكر أنّي كنت صغيرة، ربّما في الثامنة، ألعب مع مجموعة من أقراني، عندما قال لي أحدهم: "أمك سوداء يا سوداء". أضحك اليوم من براءة جوابي: "هل ترضى أن أقول هذا الكلام عن أمك؟". ضحكوا جميعًا على إجابتي، كما أضحك اليوم على محاولات آبائنا في "لبننتنا" وتحويلنا إلى لبنانيين بترحيلنا القسري عن أمهاتنا.

أتفهّم أن الحياة هنا في لبنان هي ربّما أفضل من مستوى العيش والأمان مقارنة بسيراليون. ولكني لا أجد أن هذا من دوافع إبعادنا عن أمهاتنا. ولا يبرر ما حدث لأمهاتنا.

أمهات طُلِّقن غيابياً
من الأسئلة التي تدور في رأسي: ماذا لو كانت أمي بيضاء البشرة، وليست من طبقة دنيا مقارنة بالرجل الأبيض الذي "يستعبد" أبناء البلد الذي يكسب رزقه منه وفيه؟ هل كانت الأمور ستحدث بهذه الطريقة؟ هل حصلت أمهاتنا على حقوقهن من الزواج من رجل أبيض مسلم، مثل: المهر، الحضانة، حق الرؤية، إلخ.. لقد جرى غض البصر والضمير عن هذه الأمور، بسبب النظرة الفوقية تجاه المرأة الأفريقية. أعرف قصصاً عن إرغام أمهاتنا على تقديم تنازل عن الحضانة، مقابل مبلغ صغير يساعدهن على العيش، ولأنهن يعلمن أنهن لن يستطعن مواجهة سلطة الرجل الأبيض! وهناك أمهات طُلِّقن  غيابيًا بعد سلبهن أطفالهن.

أرحام سوداء
ألم تكن هناك من طريقة أخرى تمنع وقوع هذه المظالم على أمهاتنا وعلينا؟ نعم اكتسبنا الدين، اللغة، أصبحنا لبنانيين بسلوكنا وعلاقاتنا.. وهذا البلد موطننا حتمًا. موطننا الذي نواجه فيه العنصرية منذ طفولتنا بسبب لون بشرتنا. موطننا الذي نهمّش فيه لصلتنا بأرحام سوداء.

كلما أرى الطفل "لؤي" -وهو ابن السنوات العشر، من أم نيجيرية، ويقيم مع جديّه لأبيه في لبنان، فيما زوجة أبيه وإخوته غير السود يقيمون في منزل آخر، ويُعامل معاملة فوقيّة وعنصرية من زوجة أبيه وأخوته ذوي الشعر الأشقر- أشعر بغضب خانق. غضب على الظلم وسلطة الرجل الأبيض وتقاعس العدالة في بلاد أفريقيا. وعلى أحكام المجتمع القاسي التي أجبرت سيدة من أم أفريقية على المشاركة في ظلم سيدة أفريقية، لإنقاذي من وصمة العار التي يراها المجتمع فينا. تلّخص أمي حكاية الكثيرات من الأمهات الإفريقيات اللواتي حرمن من أولادهن. لقد قالت لي أمي في إحدى مكالماتنا: "أرغب بأن أرضعك من جديد، وأن أشعر بإحساس إرضاعك وحملك بين ذراعيّ". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها