السبت 2021/03/20

آخر تحديث: 11:58 (بيروت)

حافة الدانكن بالحمرا: ملتقى التائهين.. وسوريين هاربين من الأسد

السبت 2021/03/20
حافة الدانكن بالحمرا: ملتقى التائهين.. وسوريين هاربين من الأسد
على الحاوية المقابلة للحافة لا تزال بارزة عبارة "يلعن روحك يا حافظ" (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
وندور في دوّامة الأزمات التي نعيشها في لبنان. نمشي، فتظللنا هالات الإحباط في شوارع بيروت. حاملين حقائب أحلامنا ومخاوفنا وثورتنا على أنفسنا، نمشي. نهرب من الطاقة السلبية. نُخرس إشعارات هواتفنا، فيلاحقنا الواقع: الدولار، كورونا، البطالة، والثورة التي "مش ثورة"، المحلّات والمقاهي التي أُجبرت على الإقفال، الهجرة والمستقبل الغامض. تسوقنا أقدامنا بلا قرار مسبق لنرسو على حافة "الدانكن" في شارع الحمراء، والمشرّعة بلاطاتها لنا صباحًا مساءَ، لتنقذنا من رتابة أيامنا وغربتنا في بلادنا.

مساحة عامة تشبه مرتاديها
موقع الحافة المطّل على شارع الحمراء الرئيسي، جعلها محطّة استراحة لكترة من ساكني رأس بيروت وسواهم من شبان وشابات، بعد يوم عمل طويل. هنا يصنعون لأنفسهم مساحة تشبههم. هنا، في الجلوس على هذه الحافة، لست مضطرًا للدفع. يمكنك أن تبدأ يومك في جلسة عابرة عليها، وأن تسهر ليلاً بلا حرج. نتسابق للوصول إليها أحيانًا، لكن من اللطيف أن تفسح المجال لغيرك. هي تُعرف بـ"حافة الدانكن"، ومعظم روادها يفضلّون قهوة الإكسبرس القريبة منها.

تخرّج أحمد ديركي (56 سنة، من أب سوري وأم لبنانية) من الجامعة اللبنانية الأميركية بداية التسعينات. عمل في الحمراء قرب من مكتب جريدة السفير سابقًا، فباتت الحمراء جزءًا أساسيا من حياته اليومية. كان أحمد يقضي استراحته على الحافة. وفي استراحاته تعرّف على صديقه كرم، الذي كان يعمل في تلفزيون المستقبل أنذاك. وهكذا نشأ ملتقى "حافة الدانكن"، قبل أن يفتح مقهى "الدانكن دونات" أبوابه قرب الحافة.

ويقول أحمد: "في بداية لقاءاتنا، لم نكن نرى أشخاصًا يجلسون على الحافة. وربما كان العابرون ينظرون إلينا نظرة دونية، وكأنهم يتساءلون لما لا تجلسون في مقهى؟ البعض كانت تبدو على وجوههم نظرتهم المتعالية. آخرون يلقون علينا التحية، ويمضون في سبيلهم. ثم بدأ البعض يفعل مثلنا، فينشأ بيننا حديث عابر. لكن هناك من كان يتوقف وينظر إلينا تلك النظرة التي مفادها أن جلستنا على الحافة غير لبقة".

لاحقًا تعود كثيرون الجلوس على الحافة. فبدأت النظرة الدونية تخفت وتزول، وراح عدد الخلاس يزداد. ولأن النقاشات التي كانت تدور على الحافة تحاكي الواقع المعاش، وتعكس خلفية الأشخاص من صحافيين وفنانين طلّاب... أصبح الجلوس على الحافة، أشبه بلقاء فكري لأشخاص من أعمار مختلفة.

ليلة المصارف والتحدي
استضافت هذه الحافة قوافل الجلّاس أو النزلاء عليها. وعلى حائطها والرصيف أمامها تتبعثر ذكريات تشهد على أيّام بيروت في الشدّة والرخاء. لكن "ليلة المصارف" في الحمراء هي ذكرى غالية ومشتركة بين كثيرين من نزلائها. لمحمّد (26 سنة، لبناني) ليلة المصارف من أجمل لحظاته على الحافة. يقول: " كنا هنا على الحافة في تلك الليلة الضاجة بالمتظاهرين، وبدأت قوى مكافحة الشغب تطلق القنابل المسيّلة عليها".

ويقول أسمر (24 سنة، سوري): "بيروت تعني له الكثير، هي التي حمتني من نظام مجرم. وجدتني في شوارع هذه المدينة". وصارت الحافة لأسمر محطة وصل بين أصدقاء العالم الافتراضي. كثيرون توطدت علاقاتهم وصداقاتهم على حافة الدانكن. والجلسات عليها للبعض، تنطوي على تحدٍّ بسيط لبرجوازية بيروت للقوالب الاجتماعية الطبقية فيها: "هنا نكون على سجيتنا"، يقول أسمر.

جولة في باص أمني
في أيّام الإغلاق الشامل لعبت الحافة دورًا أساسيًا في الترفيه عن روادها. على الرغم من الدوريات المسيّرة لمنع التجوّل، كان أسمر يلجأ إليها، ليمضي ساعات بعيدًا عن الجدران. يخرق فيها القانون لجلسة قصيرة يراقب فيها الحمراء، هادئة وعلى غير ما عهدها. وينتظر روادها الفرج، ويدارون الحنين إلى ليالي السهر في زكريا ومترو المدينة.

لكن ليست ذكريات الجلوس على الحافة جميلة كلها. ميدو (28 سنة، سوري) تعود على بيع ما تصنعه أنامله من أساور ومنتجات يدوية الصنع على الحافة. يروي ذكرى مرعبة، عندما كان مرة برفقة أصدقائه: "اقترب منا باص أزرق كبير، وترجّل منه دركي برفقة مسؤوله وسأل عن صاحب البسطة. أجبته أنا، فطلب مني أن أصعد إلى الباص، من دون تحديد السبب والوجهة. صعدت، وخوفاً عليّ صعد معي بعض الأصحاب هلعين.

وظل رجال الأمن يتجولون بنا في شوارع بيروت، من الساعة التاسع ليلًا إلى الواحدة صباحًا. جمعوا في الباص باعة متجولين، ومتسولين وباعة بسطات الصغيرة من أمثالي. وبعد الجولة ساقونا إلى مخفر حبيش، ليدفع كل منا قيمة ضبط، ويوقع على تعهّد بعدم البيع في الشوارع مرة أخرى".

أحلام موسم الضياع
لبنانيون وسوريون وفلسطينون تجمعهم هنا على الحافة موسيقى الراب، يحاولون التمسّك ببذور أوطانهم مع أغاني بو كلثوم، وبعض أغاني الثورات وهتافاتها. يذكرون الشباب الفلسطيني مع أغاني"شبجديد" ، ومع "الطفار" يطلقون العنان للغضب الضاج في صدورهم. وفي سهراتهم يشتمون الحكّام والطغاة، يتهكمون على الطائفية والعنصرية الموروثتين. وعلى الحاوية المقابلة لحافة الدانكن، لا تزال بارزة عبارة: "يلعن روحك يا حافظ". وهي "تسطّر خلاصة أحاديثنا في كل مرة تُذكر فيها الثورة السورية"، يقول أحدهم. أجلس مع الرفاق على الحافة نميل برؤوسنا يمنةً نراقب سيّارات الأمن، ويسرةً لنتحزر على أنواع الكلاب التي تلفتنا في نزهاتها مع أصحابها، ونوجه أبصارنا نحو الكنيسة المقابلة، ثم نرفع رؤسنا محدقين في الطائرات المغادرة سماء البلاد، فنتنهد متحسرين.

وللحافة أدبياتها منذ زمن أحمد. البعض خرق تلك الأدبيات، فبتنا نرى اليوم نبيذًا يحتسى في أكواب بلاستيكية. وبات يخترق الجلسات وسردياتها بعض المتحرشّين السكارى، ومفتعلي القلق والاضطراب. ولكن القاعدة الأهم هي الحفاظ على نظافة الحافة والرصيف أمامها.
وهنا الحب يجمعنا، وإن بدت العبارة هذه رومانسية، يقول أحد الرواد، ويتابع: لكنه حبّ ممزوج برغبتنا في حياة كريمة وحرّة يجمعنا. تعني لي الحافة شخصيًا الكثير، هنا أنفث الأفكار السلبية من رأسي، وهنا أخفّف عن نفسي وطأة الإحباط، وهنا ألقي برأسي على كتف الحبيب.

على حافة ملتقى الدانكن نحرس جثامين بعض أحلامنا في موسم الضياع. وفي موسم الضياع تشرق أحداقنا، كما تقول أغنية "الراس". وكلنا امتنان لبيروت وأثرها في نفوسنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها