الأربعاء 2021/03/17

آخر تحديث: 13:20 (بيروت)

مستوعبات نفايات تحترق.. وتراب الأرز أغلى من الذهب

الأربعاء 2021/03/17
مستوعبات نفايات تحترق.. وتراب الأرز أغلى من الذهب
مدينة من نفايات ودخان وبضعة شبان متفرقين (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
أمضى أحدهم ساعة ونصف الساعة بعد ظهر أمس الثلاثاء 16 آذار الجاري في سيارته، للانتقال من السوديكو إلى مستديرة الكولا في بيروت. فالأوتوستراد بين المتحف والمبنى الرئيسي للمديرية العامة للأمن العام فالبريير، مروراً أمام المحكمة العسكرية، كان مقفلاً. فسلك سائق السيارة طريق المتحف في اتجاه بيت الطبيب، ثم سلك أوتوستراد سامي الصلح نحو مستديرة الطيونة، ومنها نحو البربير، فإذا الطريق مقفلة أيضاً. لكن بشرائط بلاستيكية صفراء تستعملها قوى الأمن الداخلي، ومن دون أن يظهر أي من المحتجين الذين يقومون بقطع الشوارع.

حيرة وفوضى
وانعطف سائق السيارة نحو شوارع رأس النبع الداخلية. واحتار بين أن يتجه إلى مستديرة بشارة الخوري، ومنها نحو البسطة التحتا فنفق سليم سلام ليصل إلى الكولا، وبين أن يخرج إلى أوتوستراد رأس النبع وصولاً إلى البربير، فكورنيش المزرعة فالكولا.

أخيراً، انعطف من أمام تمثال بشارة الخوري واجتاز الأوتوستراد نحو البربير. لكن زحمة السير وعدم تحرك السيارات، أرغماه على الدخول في شوارع محلة النويري الداخلية، ومنها إلى شارع بربور الموازي لكورنيش المزرعة. وما أن سار أمتاراً في شارع بربور حتى توقف السير، ورأى أمامه صفاً طويلاً من سيارات بالكاد تتحرك.

مشاهد وذكريات في بربور
استرسل سائق السيارة في خلط المشاهد التي يبصرها في شارع بربور بذكرياته القديمة التي تعود إلى بدايات الحرب الأهلية. على الرصيف، أمام البناية التي كان يسكن فيها نبيه برّي في بربور، أبصر رجل أمن يجلس على كرسي وتستريح على فخذيه بندقية رشاشة، كأنما منذ دهر. على جدار البناية صورة عتيقة لزاهر الخطيب في شبابه البهيج، لكن امحت ملامحها. بيوت تراثية قديمة مهجورة لأهالي المزرعة، فتخيّل أن وحداً منها قد يكون لأهل الممثلة المسرحية في الستينات، لكن اسمها امحى فجأة تماماً من ذاكرته.

فالذاكرة لها نظامها وسياقاتها أيضاً، فلا تستجيب لمستحثات استدعائها في لحظات الفوضى والتوتر الحسييّن اللذين يغرقان المرئيات والمسموعات والزمن والأماكن بمتاهة من الضياع. كمن استيقظ فجأة من نوم ثقيل، فلم يدر في أي مكان وزمان أخذته الغفوة، ولا في أي وقت ومكان هو الآن بعد يقظته.

شرائط صفراء ومستوعبات
والحقيقة، أن رجل السيارة لم يكن متوتراً، بل ساهمٌ أو خامل الحواس والذهن في مستنقع الذكريات والوقت وزحمة السير. وتنقل في شوارع فرعية كثيرة في محلة بربور، قبل وصوله أخيراً إلى شارع متصل بكورنيش المزرعة الذي وصل إليه.

الشرائط الصفراء نفسها ورجل أمن وفتى لا يتجاوز عمره 15 سنة، نصحاه بالعودة إلى حيث أتى. على مسافة مئة متر تقريباً أبصر أمام جامع عبد الناصر على الكورنيش مستوعبات نفايات ودخان وبضعة شبان متفرقين. استجاب لنصيحتهما، وعاد إلى شوارع بربور الداخلية. فجأة تذكر مشاهد لجموع مصلي ظهيرات الجُمع الفائضين عن سعة الجامع، قاعدين على رصيف الكورنيش. وأخيراً - بعدما صدم سهواً مقدم سيارته صدمة خفيفة مؤخرة سيارة أمامه- تمكن من الوصول إلى أوتوستراد سليم سلام، سلك الشارع تحت الجسر ووصل إلى مستديرة الكولا. المستوعبات مرمية في الشوارع ومتروكة نفاياتها تحترق، ولا أحد من شبان المحلة حولها. والسيارات العابرة تستدير وتتجه إلى الشوارع الفرعية السالكة والمزدحمة.

جبلنا بدمنا ترابو جبلنا
في العاشرة من صبيحة اليوم الأربعاء 17 آذار الربيعية المشمسة، المستوعبات تحترق أمام جامع عبد الناصر في الاتجاه المؤدي إلى البربير. بضعة شبان، بعضهم يدخنون واقفين وسط الكورنيش قرب رجل أمن في نوبته اليومية لتنظيم السير. لكنهم يسمحون للسيارات بالعبور.

على مسافة أمتار من اتجاه  الكورنيش الآتي من البربير، شريط الأمس الأصفر على حاله ممدوداً في الهواء بلا رجل أمن ولا فتى في الـ15 من عمره. والسيارات تعود تلقائياً أدراجها نحو البربير، أو تنعطف في اتجاه شوارع بربور الداخلية. سيارة سبور حمراء، زاهية ومكشوفة، تتهادى على الأتوستراد متجهة من البربير نحو المتحف. يقودها شاب بنظارة سوداء، ومن جهاز التسجيل في السيارة، تصدع عالياً موسيقى كارمينا بورانا. وبعد قليل صدح صوت وديع الصافي في بيت العتابا الشهير: "جبلنا بدمنا ترابو جبلنا/ مهما الدهر غضباتو جبلنا/ منبقى هون ما منترك جبلنا/ تراب الأرز أغلى من الذهب".

وتخيل مشاهدُ سيارة السبور الحمراء المكشوفة أن سائقها الشاب متجه إلى السفارة الفرنسية لملاحقة طلب فيزا أو هجرة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها