السبت 2021/03/13

آخر تحديث: 13:38 (بيروت)

سلمى مرشاق وأربعون لقمان سليم: سلالة "النهضة" والليبرالية المقتولة

السبت 2021/03/13
سلمى مرشاق وأربعون لقمان سليم: سلالة "النهضة" والليبرالية المقتولة
سليلة التواصل الشامي اللبناني الفلسطيني المصري (Getty)
increase حجم الخط decrease
في مكتب "دار الجديد" للنشر، بمنزلها في دارة أسرة والدها الراحل محسن، على مسافة خطواتٍ من جامع الغبيري، وبطرف حارة حريك الشمالي (عاصمة لبنان الأمنية - السياسية، على ما يردّد معلّقون صحافيون)، حضَّرت رشا الأمير لأربعينية غياب أخيها لقمان سليم اغتيالاً في جنوب لبنان مساء 4 شباط 2021. وفي حديقة الدارة، حول مدفن لقمان، كان قد أقيم احتفال مأتمي في 11 شباط، فتحلق مئات من أصدقاء/ات القتيل إعداماً في تلك الليلة. ولم يكن أي من المتحلقين لا تجمعه بلقمان ورشا صلة ما، عامة أو خاصة، نشأت على تعاون في إحياء نشاطات ثقافية وفنية وحقوقية، كانا واسطة عقدها، منذ عودتهما من باريس إلى بيروت في نهاية الثمانينات.

ماضٍ لا يمّحي
وكان الوقت صباحاً لما التقيت رشا ووالدتها السيدة التسعينية سلمى مرشاق سليم، المقيمة في الدارة إياها. في الحديقة امرأة وشاب يعتنيان بالنباتات المعرّشة، وبأكاليل الورود البيضاء حول المدفن وبلاطته الرخامية، المستديرة البيضاء البارزة قليلاً والمائلة قليلاً، فيلامس طرفها بلاطات ممرات صغيرة قديمة في الحديقة.

وكان كلبان يستلقيان باسترخاء وشرود على مدخل الدارة الرئيسي. وكل شيء بدا هادئاً وعلى حاله في المكان منذ زرتُ لقمان في مشغله/مكتبه في الطبقة الأرضية من الدارة، ربما في العام 2005. كأنما طيف ملامحه تتراءى في الهواء الصباحي، وعلى الأشياء الهادئة باسترخاء حزين.

وتستيقظ في البصر والحواس والخطوات حيرةٌ تشوبها في هذا السكون الصباحي الحزين، رهبةُ الغياب المسكون بحضور لقمان المقصوف. رهبة الموت اغتيالاً، لأن الغائب بيتُه هنا في هذا المكان، وحراً كان يتكلم ويكتب ويفكر ويعقد لقاءات، فأُلصقت على جدران حديقة بيته قصاصات ورقٍ بيضاء طُبعت عليها بالأسود البارز كلمات تهدّده بالقتل، إذا لم يصمت عن الكلام والتفكير، فلم يصمت، فأقيم مدفنه في حديقة بيته.

ومنذ العام 2005 على الأقل، جعل لقمان وشقيقته رشا وزوجته مونيكا بورغمان وأصدقاؤهم وصديقاتهم، هذه الدارة المقيمين فيها مشغلهم لأنواع من النشاطات الثقافية والفنية والتوثيقية والحقوقية والإعلامية. وكان ذلك قد بدأ بشغف لقمان ورشا باللغة العربية وإحيائها وتجديدها، أسلوباً وقولاً ونشراً. واستمر الشغف، تنوّع وتشعب، لكنه ظل عملاً وهوىً وأسلوب حياة، هنا في هذه الدارة التي تنتمي عمارتها المتقشفة، أهلها ونمط حياتهم وأعمالهم وعلاقاتهم كلها، إلى إرادة اسئناف الماضي وتجديده مبتكراً، متصلاً بالحاضر، ليستقبل الآتي، بلا قطيعة ولا انقلاب. فأهل هذه الدارة تتجاور وتتخالط في مسارات حياتهم وذائقاتهم وذكرياتهم أزمنة وأمزجة وثقافات ولغات كثيرة، لا تهوى، بل تنفر من التنكر للماضي ومن الانقلاب عليه انقلاباً عاصفاً، يبدده ويمحوه، كما يُمحق الحاضر بمسدس مكتوم الصوت، وكاتم للصوت. والأرجح أن هذه الإرادة أو السليقة التي لم تستجب للانقلاب والتبديد والمحق، كانت من العوامل البعيدة، الدفينة والمؤسِسة، لإعدام لقمان سليم.

الانقطاعات العربية
ومن ذلك الماضي ذكريات السيدة سلمى مرشاق سليم، التي تعود أصول عائلتها المسيحية إلى النبك الشامية قبل أن تصير سورية أو أردنية، وقبل هجرات "الشوام" إلى مصر الناهضة في نهايات القرن التاسع عشر. وهذه أيضاً حال عائلة أمها المسيحية، مصوبع، المهاجرة بدورها من قرية جون اللبنانية إلى مصر، حيث التقى في القاهرة والد سلمى ووالدتها واقترنا، ربما في مطالع القرن العشرين. وقبل ذلك كان والدها البروتستانتي من طلاب مدرسة برمانا في جبل لبنان، على عادة العائلات "الشامية" والعربية في تعليم أبنائها في تلك المدرسة المرموقة للبعثات البروتستانتية.

وكان والد سلمى مرشاق يصطاف مع أسرته في بيت مري، على عادة عائلات من المهاجرين "الشوام" والمتمصرين في مصر. فالسيدة مرشاق سليم تتحدث بلهجة قاهرية خالصة، كأنها من أمس غادرت القاهرة، بعد أكثر من ستين سنة على مغادرتها وصيرورتها لبنانية في حارة حريك وبيروت. وفي ضباب ذاكرتها يتراءى لها الصيف الأخير في بيت مري، صيف 1948، عندما جاء محسن سليم للقاء محامٍ لبناني صديق لأهلها. لكن ذاك اللقاء العابر انقضى وكاد يمحى، لو لم يتجدد في ظروف أخرى سنة 1957 في بيروت هذه المرة.

فالعام 1948 كان عام "نكبة" فلسطين التي أسست للقطيعة الأولى البرِّية بين لبنان ومصر. وهي القطيعة التي بترت الساحل والداخل الفلسطينيين والقدس عن سوريا ولبنان ومصر، بعدما كانت فلسطين محطة عبور وتواصل بين الإسكندرية والقاهرة وصيدا وبيروت ودمشق. وكانت مصر مهد "النهضة" الأدبية والفنية والصحافية العربية، مختبرها ومقصد لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشهدت انطلاقة جديدة أوسع بعد ثورة 1919 الديموقراطية المصرية.

وغداة تلك القطيعة (1948)، كانت الصبية سلمى مرشاق من الجيل الثاني أو الثالث لتلك النهضة في القاهرة والإسكندرية. فهي درست الصحافة والأدب في الجامعة الأميركية بالقاهرة. وكانت على صلات وثيقة بكتّاب وصحافيين من الشوام والمصريين. وفي أواسط الخمسينات بدأت نشاطها الصحافي والكتابي متدربة في مجلة "نيوزويك" الأميركية،  قبل تخرُّجِها من الجامعة، لتصير بعده من محرريها العاملين/ات. لكن القطيعة الثانية - المصرية هذه المرة - اقتلعت المجلة الأميركية وسلمى مرشاق من القاهرة، ويمّمت بها إلى بيروت. والقطيعة هذه أحدثتها ثورة، بل انقلاب من سموا "الضباط الأحرار" على النظام الملكي المصري سنة 1952. وهو الانقلاب الذي وضع بداية النهاية لـ"الليبرالية" الاجتماعية والثقافية الكوزموبوليتية وأخلاطها وجالياتها في القاهرة والإسكندرية. واستمرت القطيعة تعسُّ وتتفاقم حتى اكتملت غداة تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.

ومنذ القطيعة الفلسطينية الأولى، وبعدها المصرية وسواها من الانقطاعات التي أرستها الانقلابات العسكرية في سوريا والعراق طوال الخمسينات والستينات، راحت روافد الفارين من الاختناقات العربية تصب وتتجمع في نهضة بيروت الحرية الاجتماعية والمالية والسياسية والثقافية والصحافية. وهي الحريات التي محقتها في العواصم العربية الأخرى الديكتاتوريات العسكرية.

تآخي الانتماءات واتصالها
وانتقلت سلمى مرشاق مع مجلة "نيوزويك" من القاهرة إلى بيروت سنة 1957. تتذكر أنها نزلت في فندق برأس بيروت، بينما كانت مكاتب المجلة في القنطاري. ولأمثالها من جيلها والجيل الذي سبقها من المصريين والفلسطينيين والسوريين والعراقيين (ومنهم إدوار سعيد وهشام شرابي ويوسف شاهين وعمر الشريف، مثلاً)، كانوا من أجيال القطيعة "الليبرالية" العربية المتمادية، وكانت بيروت محطة في طريقهم إلى "الحلم الأميركي"، على ما شهد وصوّر يوسف شاهين في أكثر من فيلم من أفلامه السينمائية.

وعملت سلمى مرشاق في المجلة الأميركية معدّة تقارير صحافية متنوعة من الصحف والمجلات العربية في بيروت، لتترجمها إلى الإنكليزية. لكن المصادفات البيروتية شاءت أن يتجدد لقاءها بالمحامي والنائب اللبناني الشيعي عن "الكتلة الوطنية" في ساحل المتن الجنوبي، والمقيم في دارة أهله بين الغبيري وحارة حريك. فتجدد تعارفهما القديم العابر، واقترنا سنة 1957. وتقول السيدة مرشاق سليم إن بيروت كانت آنذاك قرية كبيرة، مقارنة بمدينتها الأولى القاهرة. لكنها تبنت انتماءها الجديد إلى تلك القرية المدينية، وإلى ضيعة حارة حريك وعائلاتها، فيما كان يُحتضر نمط حياتها الريفي الساحلي، ويأفل أمام زحف الإسمنت والبناء السريع الجاهز. تبنت هذه الانتماءات وأضافتها إلى قاهريتها وأصلها الشامي القديم، بلا تنكّر لأي منها أو انقلاب عليها. وعندما راح زحف الإسمنت واكتظاظه في قرى ساحل المتن الجنوبي، يحاصر بيروت ودور عائلاتها المحلية، راح أبناء الجيل الجديد من بعض تلك العائلات، أمثال سليم والخليل وعمّار، يتركون بيوت أهلهم ويقيمون في دور في الحازمية، مستفيدين من هبوب أسعار العقارات والأراضي الزراعية في تلك القرى التي اتصل العمران الجماهيري فيها، وصارت ضاحية بيروت الجنوبية.

لكن محسن سليم عاكس ذلك التيار الجارف. فطوّر دارة أهله، حدّثها وأضاف عليها طبقة، وظلَّ منزل شقيقه القاضي ومنزل شقيقته على حالهما مفتوحين على الحديقة المشتركة الفسيحة. وهي الحديقة التي كان محسن سليم يألف الجلوس فيها مع زواره وأقاربه وأصدقائه، فيتناولون الشاي في عصارى النهارات، تماماً حيث أقيم مدفن ابنه لقمان.

وأثناء اشتداد الحروب الأهلية وتماديها في مطلع الثمانينات - وهي القطيعة اللبنانية، بعد سابقاتها من الانقطاعات العربية - انتقل محسن سليم وأسرته إلى باريس. لكنه مع زوجته لم ينقطعا عن لبنان وبيروت وحارة حريك والغبيري. وفي نهاية الثمانينات عاد لقمان ورشا (الأمير) سليم إلى بيروت، وباشرا فيها حياتهما وعملهما في النشر وسواه من المنتديات الثقافية التي استقرت أخيراً في تلك الدارة القديمة، فصارت دارةً بمنازل ونشاطات وأمزجة كثيرة.

خنجر في القلب
وها هي السيدة سلمى مرشاق سليم، مقيمة في الطبقة العليا من الدارة، تستعيد من ضباب ذاكرتها محطات متشظية بين القاهرة وبيروت وباريس، مروراً بفلسطين وسوريا.. كأنها حارسة إرث من التواصل المحتضر بين ضفافٍ كثيرة، وفوق هوات الانقطاعات المتلاحقة، والتي كان آخرها ذلك "الخنجر الذي غرسوه في قلبي"، قالت: قتل ابنها لقمان الذي أقيم له مدفن في الحديقة أمام الدارة القديمة.

ولقمان سليم في حياته، هو ابن سلمى مرشاق ومحسن سليم ودارتهما وحديقتها، ومستأنف وصل الضفاف الكثيرة فوق هوات القطيعة المتكررة منذ "نكبة" فلسطين، وما تلاها من محق وتصحير ثقافي وسياسي، قوموي وإسلاموي عسكري وأمني، باسم "تحرير فلسطين والقدس"، ولتشريد ملايين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين، وتدمير لبنان وسوريا والعراق واليمن. وكل صوت يقول كلاماً معترضاً على القتل والتشريد والتدمير، يقال له: "المجد لكاتم الصوت".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها