الإثنين 2021/03/01

آخر تحديث: 16:03 (بيروت)

فشل اللبنانيين في خروجهم على الولاءات العصبية (2)

الإثنين 2021/03/01
فشل اللبنانيين في خروجهم على الولاءات العصبية (2)
من تظاهرات تشرين 2019 في زغرتا (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease
بعد حلقة أولى تقرأ في التاريخ السياسي والاجتماعي لبلدة زغرتا كنموذج لما حدث وتناسل في لبنان كله عندما بدأت حروبه الأهلية الملبننة سنة 1975. هنا حلقة ثانية:

قيل الكثير عن أن من هبّوا منتفضين في 17 تشرين 2019 في لبنان، انطوت مشاركتهم في الانتفاضة على هزال انضوائهم في شبكات أحزاب الجماعات اللبنانية وأجهزتها وعصبياتها، وعلى هزال ولائهم لزعمائها، إن لم تكن تنطوي مشاركتهم إياها على انعدام ذينك الانضواء والولاء. والأرجح أن الذين استمروا مواظبين حوالى شهرين على المشاركة في نشاطات تلك الانتفاضة، أكانوا مجموعات أو أفراداً، انطوت مواظبتهم ودلّت على خروجهم الإرادي المسبق على تلك العصبيات وأجهزتها وزعمائها، بل على نفورهم منها، وهم من سَمّوا ذاك المركب من الولاءات "المنظومة السلطوية الحاكمة" التي عليها قاموا وانتفضوا.

17 تشرين والشباب الزغرتاوي
لكن هذا الملمح الاجتماعي - السياسي الذي لابس انتفاضة 17 تشرين، قد لا تتفرد به وحدها. بل إن حضوره المتفاوت يتردّد في حركات اجتماعية - سياسية لبنانية عامة ومحلية عرفها لبنان طوال تاريخه الاجتماعي الحديث. وفي هذا السياق يمكن المقارنة بين 17 تشرين وسواها من الحركات الكثيرة السابقة عليها.

فالسيرة التي كتبها ميشال الدويهي لـ"حركة الشباب الزغرتاوي" البلدية، الناشئة في زغرتا ستينات القرن العشرين وسبعيناته، تغري كنموذج للمقارنة. والأرجح أن ميشال الدويهي - وهو سليل عائلة زغرتاوية وناشط في انتفاضة 17 تشرين، ووالده شارك في الحركة الشبابية الزغرتاوية - كان فيما هو يكتب سيرة تلك الحركة (نشرها في العدد 28-29 من مجلة "بدايات" أواخر سنة 2020) مهجوساً بالمقارنة بينها وبين 17 تشرين 2019، على الرغم من عدم إفصاحه عن ذلك وعدم إقدامه عليه.

ونوجز هنا سيرة الحركة الشبابية الزغرتاوية ونعرضها حسبما كتبها ميشال الدويهي. ولعل هذين الايجاز والعرض يفصحان عن وجوه الشبه بين الحركتين المتباعدتين زمناً، قبل الشروع بالمقارنة بينهما.

ستينات الشبيبة المسيحية المستقلة
نشأت الحركة الشبابية الزغرتاوية عقب توقف "حرب أهلية -عشائرية" في البلدة المارونية الشمالية، وبعدما استمرت تلك الحرب طوال عقد الخمسينات وبداية الستينات، فأودت بحياة مئات، وأدت إلى إقامة كل عائلة وانكفائها على حياتها في حارتها، وانعدام التواصل بين العائلات والحارات. وكان شبان الحركة الناشئة من المتعلمين التواقين إلى الخروج على العصبيات العائلية - العشائرية المتعادية والمقيمة على الاستنفار وتبادل الثارات الدامية. وتوقف هذه الأخيرة في العام 1964، سمح لشبان من البلدة بإنشاء حركتهم ومباشرتهم نشاطها في ما سمّي "مهرجانات إهدن السياحية". وإهدن هي بلدة أهالي زغرتا الصيفيّة. و"سيدات المجتمع" الزغرتاوي - الإهدني، أي نساء وجوه العائلات المقيمة في البلدتين وزعمائها، هنَّ اللواتي ترأسن لجنة إدارة المهرجانات، فيما انصرف رجالهن أو أزواجهن إلى تدبير شؤون "السياسة" وأحلافها العائلية الانتخابية. وكان الزغرتاويون قد تعارفوا طوال نزاعاتهم وثاراتهم الدموية، على عدم نقل الاستنفار والعنف والثأر إلى إهدن في مواسم الصيف.

وضمت "لجنة مهرجانات إهدن السياحية" الأب هيكتور الدويهي الذي كان دوره أساسياً في "خلق أجواء ثقافية في زغرتا"، واجتمع حوله في اللجنة شبان من عائلاتها "عملوا على توفير متطلبات الزائرين" والمهرجانات الإهدنية. والمعروف أن الستينات اللبنانية كانت عقد نهضة الفنون الفولكلورية والسياحية في مواسم الاصطياف، فتكاثرت الأندية الشبابية في البلدات والقرى اللبنانية، وأنشأت فرقاً محلية للرياضة والدبكة والأغاني الفولكلورية، على المثال الرحباني.

ويروي ميشال الدويهي أن شبان الحركة الناشئة البالغ عددهم نحو 20 شاباً لم يتجاوز أي منهم سن العشرين، كانوا تواقين إلى التعارف والتخالط، بعدما امتنع عليهم ذلك في بلدتهم طوال سنوات حربها الأهلية العشر. وفي لقاءاتهم كانوا يتذمرون من موات بلدتهم طوال تلك السنوات، جراء رحيل 400 أسرة منها للإقامة في مدينة طرابلس القريبة، سعياً للعمل وهرباً من دورات العنف والقتل فيها. وعندما احتاج الشبان إلى مكان للقاءاتهم، وجدوا أن زغرتا خالية من مقهىً، إلا تلك التي يرتادها الرجال المدمنون ألعاب الورق أو المقامرة. وهم كانوا من ما سمُّي "القوات الضاربة"، أي ميليشيات الأحلاف العائلية في "عُشرِية زغرتا السوداء". وهذا ما دفع الأب هيكتور الدويهي إلى جعل "بيت الكهنة" الملحق بكنيسة مار يوحنا، مقراً للقاءات شبان الحركة ونشاطاتهم الثقافية. وكان شطر منهم قد بدأ دراسته أواسط الستينات في الجامعة اللبنانية أو جامعة القديس يوسف في بيروت، ويعودون إلى بلدتهم في العطل وفي نهاية كل أسبوع.

وسرعان ما استراب مقدَّمو العائلات الزغرتاوية وأزلامهم من الحركة الشبابية ونشاطها، فبادروا إلى التصدي لها والضغط عليها، فانسحب منها بعض الشبان، وانكفأوا إلى عصبياتهم العائلية. وكانت الشائعات من وسائل الضغط عليهم. ومنها إثارة لغط عن شخصية الأب الدويهي وسلوكه، ورعايته شباناً من "ميول يسارية ملحدة". وشاركت في حملة الشائعات، إلى الزعامات العائلية ولفيفها في زغرتا، البطريركية المارونية التي أقفلت "بيت الكهنة"، ورحّلت الأب هيكتور الدويهي إلى  المكسيك، فعينته كاهن رعية هناك.

و"حركة الشباب الزغرتاوي" برعاية الأب الدويهي، كانت واحدة من الحركات الشبابية المسيحية الجديدة، والاجتماعية الطابع والنشاط في الستينات اللبنانية. مثل "الحركة الاجتماعية المسيحية" التي أسّسها المطرن غريغوار حداد سنة 1960، و"تجمع المسيحيين الملتزمين" التي كان الأب مكرم قزح أحد مؤسسيها، و"الشبيبة الطالبية المسيحية". ولاحقاً نشأت على منوال هذه الحركات ومثالها "حركة انطلياس الثقافية" و"حركة الوعي" و"اتحاد الشباب اللبناني". والأرجح أن الجامع المشترك بين هذه الحركات الشبابية، نشأتها في الستينات، وخروجها على الانتماءات السياسية الحزبية والعائلية التقليدية وعصبياتها في المجتمع المسيحي اللبناني، وعدم استساغة شبانها الانخراط في الأحزاب اليسارية والقومية.

تمهيداً لحرب أهلية عامة
قد يكون ما تعرّضت له "حركة الشباب الزغرتاوي" من ضغوط وشائعات وحصار، وترحيل مؤسّسها وراعيها الأب الدويهي، وكذلك توسّع النشاط والأيديولوجية اليساريّيَن في الأوساط الطلابية في الستينات والنصف الأول من السبعينات، من العوامل البارزة في دفع شبانها إلى الانتساب للحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان. ولتأطير نشاطهم المحلي في زغرتا، استأجروا في زغرتا بيتاً بمحلة التل. وشهروا مواقفهم وميولهم السياسية اليسارية والحزبية وشعاراتهم في بداية السبعينات: تغيير النظام السياسي اللبناني، مجابهة الإقطاع السياسي، ودعم المقاومة الفلسطينية. وكان من البديهي أن تثير هذه التوجهات نقمة العائلات الزغرتاوية وزعاماتها وعصبياتها، على شبان الحركة وانتماءاتهم الحزبية ومقرهم، فحدثت بعض المشاحنات والصدامات بينهم وبين مناوئيهم من الملتزمين والمنضوين في عصبياتهم العائلية. وسرعان ما شنّت العائلات الزغرتاوية حرباً دعائية على شبّان الحركة، فوسمتهم بالانحلال الأخلاقي، وأطلقت ضدهم شائعات تقول إن مقر الحركة مأوىً للقاءات شبان وشابات في غرف مقفلة. ولمّا مارس الأهالي ضغوطاً على بناتهم، قرّر شبان الحركة ألا ترتاد الشابات مقرّها. لذا بادرت العائلات إلى اتهام الشبان الحركيين بالعمالة لقوى خارجية تسعى إلى تقويض الثقافة اللبنانية المارونية، وإشاعة ثقافة هجينة، يسارية وعروبية، فيما تتلقى الحركة دعماً مالياً من الأحزاب اليسارية وكمال جنبلاط.

وفي عشايا الحرب الأهلية الملبننة البادئة سنة 1975، قارب عدد شبان الحركة الشبابية الزغرتاوية المنتمين إلى الأحزاب اليسارية نحو 60 عضواً. ولحصارهم أنشأت العائلات روابط ونواديَ شبابية: "النادي الاجتماعي" لآل فرنجية، "نادي الطلاب" لآل معوض، و"رابطة البطريرك أسطفان الدويهي" لآل الدويهي.

أما المشهد الختامي لهذا الصراع الزغرتاوي فلم يكن مسرحه زغرتا، بل طرابلس في العام 1973، إبان عهد الزعيم الزغرتاوي الرئاسي سليمان فرنجية (1970 - 1976)، وعقب حوادث نيسان الدامية بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية المسلحة. ففي نيسان 1973، نظّم الطلاب الزغرتاويون الكثيرون في مدارس طرابلس الإرسالية (الطليان، والفرير، وسواهما) تظاهرة حاشدة في شوارع طرابلس، بحماية مسلحة من زغرتاويين. وكان ذاك المشهد غير مسبوق في عاصمة الشمال، وفي علاقتها بزغرتا المجاورة لها، وفي استباقة اندلاع الحرب الزغرتاوية - الطرابلسية في خضم حروب لبنان الأهلية الملبننة في نيسان 1975. أما شبان الحركة الزغرتاوية اليساريون، فكان ردّهم على تلك التظاهرة، التحاق بعضهم بدورات تدريب عسكري في مخيم نهر البارد الفلسطيني، إلى جانب أمثالهم من شبان المنظمات اليسارية في شمال لبنان. هذا فيما أنشأت زعامة آل فرنجية مخيماً للتدريب العسكري في قرية بنشعي قرب زغرتا، تمهيداً لولادة تنظيم "المردة" الزغرتاوي.
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها