الأربعاء 2021/12/08

آخر تحديث: 12:13 (بيروت)

1970: السلاح الفلسطيني ينتشر.. والكتائب تحاصر أهواء المسيحيين الثقافية

الأربعاء 2021/12/08
1970: السلاح الفلسطيني ينتشر.. والكتائب تحاصر أهواء المسيحيين الثقافية
أطلقت المنظمات الفلسطينية تيارًا تعبويًا جارفًا أثار خوفًا بل هلعًا استدعى تعبئة مسيحية مضادة (Getty)
increase حجم الخط decrease
هذه حلقة أخيرة وختامية لشهادة عن حال الدكوانة وتل الزعتر وعين الرمانة في الستينات. وقد نشرتها "المدن" تباعًا (في 24 و26 تشرين الثاني المنصرم، وفي 1 و 3 كانون الأول الجاري). والحلقة هذه تنقل مناخ الخوف المسيحي من انتشار السلاح الفلسطيني، والتعبئة الكتائبية لمواجهته في مطلع السبعينات. وقد رواها الراوي نفسه المولود سنة 1952 في الدكوانة.

الموقف من السلاح الفلسطيني
أنا من عايشت في مراهقتي وبدايات شبابي في الستينات اللبنانية ميولَ وأهواء أمثالي من مراهقين وشبان مسيحيين على مقاعد الدراسة في الدكوانة حيث ولدت ونشأت، وفي الأشرفية وعين الرمانة حيث اجتزتُ مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي، أظن اليوم أن تلك الميولَ والأهواء، مثالاتها واتجاهاتها، أصيبتْ بارتجاج عنيف، سرعان ما انحرف بها وجرفها نحو الانصهار في بوتقاتٍ تعبوية حزبية متوترة ومحمومة، لجمت أو خنقت تنوع الخيارات والاختبارات والتجارب الشخصية والفردية المفتوحة لأولئك المراهقين والشبان، وخنقت تباينها، ودفعتها نحو تجانس عصبوي مشرّع على العنف.

والارتجاج ذاك أحدثه في المجتمع المسيحي واللبناني كله، ظهورُ المنظمات الفلسطينية المسلحة في مخيمات اللجوء الفلسطيني وفي جوارها السكني، حين أطلقت تلك المنظمات تيارات تعبوية جارفة، استقطبت فئات من المراهقين والشبان، وأثارت في فئات أخرى خوفًا بل هلعًا استدعى تعبئة مضادة. وهذا في خضم ما أشاعته تلك المنظمات وتعبئتها في بيئاتهم وأوساطهم الاجتماعية من فوضى أمنية واجتماعية وسياسية – طائفية، حملت كثيرين منهم على تغيير مثالاتهم وهواياتهم واتجاهاتها، وعلى الارتماء في تيارات حزبية متنابذة. فأدى ذلك الى تمزيق أوصال الاختلاط الاجتماعي الطائفي في دوائر السكن والعمل والتعليم، رغم  أن تلك الأوصال كانت لا تزال ضعيفة بعدُ وفي بدايات نشوئها وتوسعها في أوساط جيل الستينات اللبنانية الشاب.

وكان أن شهدتُ انقلاب تلك الميول والأهواء والمثالات وتقطع أوصالها في "ثانوية سعيد" الرسمية بعين الرمانة، التي صرت طالبًا فيها ما بين 1967 و1970، ورحت أجيء إليها يوميًا من الدكوانة، حيث بيت أهلي، فإذا بالطلاب المحازبين (كتائبيون ووطنيون أحرار من جهة، وشيوعيون ويساريون وقوميون سوريون من جهة أخرى)، يستغرقون في نقاشات حادة متوترة، سرعان ما تنقلب نزاعات وصدامات تنشب أحيانًا في ملعب الثانوية، وتنتقل إلى شوارع عين الرمانة القريبة منها، فتهيمن على الحياة الطلابية وتكاد تختصرها وتطفئ نشاطاتها واتجاهاتها الأخرى بين الطلاب في الثانوية. وكان العامل المستجد، الأقوى والحاسم، الذي يبعث الشقاق بين الطلاب المحازبين ويدفعهم إلى الصدام، هو ذلك الارتجاج العنيف الملازم لنهضة المنظمات الفلسطينية المسلحة ولدبيب تعبئتها الناشطة في بؤر واسعة وكثيرة من المجتمع الأهلي اللبناني، ومن الحياة الطلابية.

فمواقف أولئك الطلاب المحازبين الشديدة التباين من نهضة تلك المنظمات وتعبئتها واستقطاباتها وآثارها في حياتهم وعلى مجتمعاتهم الأهلية الطائفية، كانت المصدر الأبرز لشقاقاتهم وصداماتهم.

ذكورية طلابية خشنة
لكن يجب ألا نغمط دور عوامل أخرى "تحتية" كان لها دورها المساعد في إشاعة ذلك المناخ من الشقاق والصدام بين الطلاب في الثانوية. ومن تلك العوامل:

- مرحلة التعليم الثانوي، وما تبعثه المراهقة وبدايات الشباب من نزعات حامية تميل إلى تضخيم الذات والأنا والفعل، وتصور العالم كما لو أنه امتداد للذات والأنا النزّاعتين إلى الشخصنة والتفرّد في خضم رغبة الابتعاد أو الخروج من مجتمع العائلة والأهل وقيمه التقليدية. وهذا ما ينزع إليه اليوم طلاب وشبان "علمانيون"، بعد انتفاضة 17 تشرين 2019.

- لقاء عدد كبير من الطلاب المتبايني المصادر الاجتماعية والبيئات الطائفية والثقافية والمناطقية، في ثانوية رسمية واحدة، ويقتصر طلابها على الذكور. فالتعليم الرسمي اللبناني كان يعتمد في المرحلة الثانوية نظامًا يجعل لكل من الجنسين مدارس منفصلة ومستقلة. وهذا الفصل يجعل حياة الطلاب الذكور في غياب الفتيات، صاخبة ومتوترة ومندفعة في ذكوريتها وخشونتها على الغارب.

- خلو نظام التعليم الثانوي الرسمي ومنهاجه من نشاطات ثقافية وفنية وترفيهية ورياضية، كان يضاعف الخشونة الذكورية بين الطلاب وفي علاقاتهم. فلا تنشأ بينهم في الثانويات الرسمية علاقات تعارف وتبادل وتثاقف، يُفترض أن يكون ركنها ومدارها الهوايات والمثالات الثقافية والفنية والجمالية التي تتجاوز تلقي التعليم في قاعات الدرس، للنجاح في الامتحانات وحيازة شهادة التعليم الثانوي الرسمية، فينصب جهد الطلاب كله على الفوز في تلك الشهادة.

- ينجم عن ذلك كله نوع من الفراغ النفسي والروحي والأخلاقي والذهني، فيملأه طلابٌ كثيرون بتنافسهم الذكوري المحموم على الانخراط في الأنشطة الحزبية وسجالاتها وانقساماتها وصداماتها.

- وهناك أخيرًا انعدام الصلات الإدارية والاجتماعية بين أهالي الطلاب والجهاز الإداري والتعليمي في الثانويات الرسمية، إلا في حالات مخالفة هذا الطالب أو ذاك الأنظمة المدرسية. فآنذاك فقط، بل في حالات المخالفات القصوى، تستدعي إدارة الثانوية أولياء أمر الطالب فتطلعهم على المخالفة، وغالبًا ما تنذرهم وتهددهم بتوقيفه عن الدروس وفصله من الثانوية.

وفوق هذه العوامل كان يخيم في ثانوية عين الرمانة شقاق الارتجاج الداهم الذي بعثه بين طلابها وفي المجتمعات الأهلية اللبنانية، الموقف من المنظمات الفلسطينية وسلاحها ومن دبيب تعبئتها المحمومة في بؤر ودوائر كثيرة من المناطق اللبنانية.

إدوار أمين البستاني
لكنني تأخرت في الاستجابة لدبيب النشاطات الحزبية وانقساماتها في ثانوية عين الرمانة، حتى غادرتها سنة 1970 إلى مرحلة التعليم الجامعي. وغالبًا ما وقفت اتفرج مستمعُا متنبهًا إلى ما يدور حولي من مناقشات ومشاحنات، فلا أشارك فيها إلا نادرًا، فتترك في وعيي أسئلة وافكارًا كثيرة غائمة.

وقد تكون من أقوى الحوادث الشخصية المترسبة في ذاكرتي من حياتي الطلابية في الثانية، قبولي مرافقة زميل لي قوميّ سوري في زيارته خاله في السجن. وعلمت لاحقًا أن السجين كان عميد الدفاع في الحزب السوري القومي آنذاك. وبهرني أسلوب الخال في كلامه الخطابي ولجته الآمرة الحاسمة، الخالية من العاطفة والود، مع ابن أخته الزائر، كأنه كان يلقي عليه دروسًا في القوة والصلابة. وبعد تلك الزيارة أعطاني زميلي كتابًا عن العقيدة السورية القومية، فقرأته وترك فيَّ بعض التأثير، لكنني سرعان ما نسيته في غمرة شغفي بأستاذ الفلسفة في الثانوية: إدوار أمين البستاني.

لقد سحرني ذلك الأستاذ وبهرني وسحر أمثالي من طلاب الصف وبهرهم. كان قصير القامة خفيف الظل، ومقبلًا على إنشاء علاقة مع الطلاب تتجاوز المنهاج التعليمي المقرر. وربما كانت مادة التعليم، أي الفلسفة، تسمح له بذلك التجاوز والتوسع، وكذلك طبعه المختلف عن سواه من الأساتذة، وثقافته الواسعة.

فور دخوله للمرة الأولى إلى الصف، قال لنا إنه في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الدراسي سوف يلقِّننا ويشرح لنا "الكور" المقرر والمطلوب رسميًا في مادة الفلسفة، ليتفرغ في الأشهر التالية لتعليمنا الفلسفة على حقيقتها، فننخرط في مناقشة موضوعاتها الأساسية والفعلية: الحرية، العدالة، الجنس، الزمن، الحقيقة، التاريخ، الاجتماع، والميول والأهواء الإنسانية.. ثم راح يوزع علينا كتبًا أدبية وثقافية متنوعة لنقرأها ونتحادث في موضوعاتها. وأذكر من تلك الكتب: "هل كان أبو العلاء المعري يعاني من عقدة أوديب؟".

سنة الشغف بالمسرح
لكن الأقوى فاعلية من ذلك كله في مجموعة منا نحن الطلاب غير المحازبين، هو إقدام إداور أمين البستاني على الطلب من الراغبين الانتساب إلى نادي المسرح في الحركة الاجتماعية المسيحية، التي كان قد أسسها المطران غريغوار حداد. ولقاء دفع كل طالب 10 ليرات تجعله مشتركًا في النادي، يحصل على بطاقة سنوية خاصة تخوله حضور عروض المسرح اللبناني كلها في نهضته منذ مطالع الستينات. وذلك في عروضها التجريبية الأولى السابقة على الحفلات الافتتاحية، على أن يشارك الطلاب المنتسبون إلى النادي في مناقشة الأعمال المسرحية بعد عرضها في الصالات، ثم في الصف أثناء دروس الفلسفة.

نحن مجموعة الطلاب غير المحازبين الذين لم يتجاوز عددنا أصابع اليدين في الصف، وصرنا أعضاء في نادي المسرح، علمنا أن أستاذنا البستاني يميل إلى يسارية ماركسية، لكن هذا لم يعنِ لنا الكثير، قياسًا إلى ما استجد في حياتنا وحساسيتنا وذائقتنا، وتجاوز بأشواط الحياة الطلابية في الثانوية: لقد أنشأت تلك البطاقة التي وُزعت علينا علاقة جديدة بيننا وبين المدينة والمسرح والثقافة والسينما والشعر والصحافة اليومية وملاحقها الثقافية الأسبوعية، ثم غيرت حياتنا وعلاقاتنا وفتحتها على أفق واسع، لم تكن توفره الحياة الطلابية في السنة الدراسية 1969-1970.

لقد حضرنا العروض المسرحية اللبنانية التي عُرضت في صالات بيروت في تلك السنة، فلم نفوت أيًا منها، وشاركنا في مناقشتها مع ممثليها وممثلاتها ومخرجيها وكتابها أو مترجميها إلى العربية الفصحى أو المحكية اللبنانية، وكان استاذنا البستاني من مترجمي بعضها. وصارت أسماء نجوم المسرح ونجماته ومخرجيه، وسواهم من المساهمين في أعمال المسرح اللبنانية والفاعلين فيه، أليفة في أسماعنا وتتردد على ألسنتنا في أحاديثنا اليومية: نضال أشقر، مادونا غازي، رضى خوري، رينه الديك، روجيه عساف، جلال خوري، يعقوب الشدراوي، أندريه جدعون، ريمون جبارة، عصام محفوظ، وأنسي الحاج.. وإلى جانب هذا الافتتان بالمسرح وُلِدَ لدينا اهتمام بالشعر والسينما، فقرأنا أشعارًا لأنسي الحاج وسعيد عقل ومحمود درويش، وشغفنا بالسينما الأميركية. وأذكر أن موقفي كان سلبيًا من الشعر الحديث وقصيدة النثر، إلى أن قرأت مرة كتاب محمد الماغوط "حزن في ضوء القمر"، فتبدل موقفي ذاك وتغير. وفي غمرة ذلك الشغف بالثقافة وفنون المسرح والشعر والسينما والاستغراق في مناقشة بعض أعمالها، أطلق عليّ بعض أقراني الطلاب في الدكوانة لقب الفيلسوف.

دبيب الخوف والحصار
وفيما كان شغفي بالمسرح والثقافة يتصاعد في تلك السنة، ولم أعد آبه لما يدور من مناقشات ونزاعات حزبية محمومة بين طلاب الثانوية في عين الرمانة، كانت الحياة الطلابية والشبابية في الدكوانة تغرق في تعبئة حزبية متصاعدة للكتائب والوطنيين الأحرار على إيقاع الخوف الأهلي المسيحي من السلاح المنتشر بكثافة على حدودهما في مخيم تل الزعتر الفلسطيني، حيث تكاثرت الحواجز المسلحة، مثيرة حوادث وصدامات شبه يومية. فالسلاح جذب كثرة من الشبان المسلمين الشيعة، على تخوم تل الزعتر وفي رأس الدكوانة، فعبأهم واستقووا به، وكانت بينهم قلة من المحازبين الشيوعيين. وتلك التعبئة المتقابلة حزبيًا وطائفيًا، خنقت ميولَ طلاب وشبان كثيرين وأهواءَهم التي لم تكن تستجيب لها ولا تنخرط فيها. فالخوف المسيحي الأهلي من التعبئة والسلاح الفلسطينيين، تصدّره وحمل رايته الكتائبيون والوطنيون الأحرار في الدكوانة، فأهاب بهم وحملهم حتى على النفور من كل طالب أو شاب مسيحي لا يستجيب لتعبئتهم، ولديه ميلٌ ثقافي خاص يعلنه ويناقش فيه، فيعتبرونه مخالفًا لتوجهاتهم ويتهمونه بأنه يساري أو شيوعي، وخارج على الإجماع الأهلي المسيحي المشحون بالتهديد والخوف من الفلسطينيين والشيوعيين، ومن المسلمين عمومًا.

وفي حمأة حوادث أمنية متناسلة بين الدكوانة وتل الزعتر، وغالبًا ما كان باعثها انتشار السلاح الفلسطيني وفوضاه وخوف المسيحيين منه، أخذ شبان مسيحيون يتعرضون إلى حملاتٍ كتائبية تتهمهم بأنهم يساريون، لأن لديهم نزعات ثقافية متفتحة على قراءات أدبية متنوعة، وبعضهم يهوى الشعر ويكتبه. فأحدهم مثلًا حمله الحصار الذي تعرض له على أن يصير يساريًا بالفعل، بعدما كان يميل إلى الكتائب ميلًا عامًا، غير متوتر ولا جارف. وكان غضب الكتائبيين يتصاعد في حلقات المناقشة المحلية بين شبان الدكوانة من كل شاب مسيحي يظهر أنه يقيم في كلامه وزنًا للمسألة الاجتماعية أو للتفاوت الطبقي، فيتهمونه باليسارية والشيوعية ويحاصرونه.

حتى أستاذ الفلسفة في "ثانوية سعيد" بعين الرمانة، إدوار أمين البستاني، والذي كانت ثقافته تميل إلى يسارية ماركسية، علمت سنة 1973 أنه صار رئيس مصلحة الرقابة في وزارة الإعلام، ومنع عروض مسرحية "وصية كلب" باللغة الأرمنية، فاتصلت به هاتفيًا وذكّرته بانه هو من بعث شغفي بالمسرح والثقافة قبل سنوات ثلاث. لكنني بعد سنوات، وفي غمرة حروبنا الأهلية، علمت أن البستاني صار مسؤولًا ثقافيًا في القوات اللبنانية.

وفي مطلع التسعينات، زرت للمرة الأولى بلدة والدي في جرود جبيل بعد توقف الحرب، فإذا بالغالبية الساحقة من أقاربي يوالون القوات اللبنانية أو الكتائب، ومنهم من ينتمي تنظيميًا إليهما.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها