الجمعة 2021/12/03

آخر تحديث: 15:00 (بيروت)

عين الرمانة: الحرب الأهلية بدأت طلابيّة نهاية الستينات

الجمعة 2021/12/03
عين الرمانة: الحرب الأهلية بدأت طلابيّة نهاية الستينات
تفاقمت الحساسيات الطائفية-الحزبية عقب حرب 1967، ومع ظهور العمل الفلسطيني المسلح (Getty)
increase حجم الخط decrease
عطفاً على شهادة عن الدكوانة وتل الزعتر نشرتها "المدن" تباعًا (في 24 و26 تشرين الثاني المنصرم، وفي 1 كانون الأول الجاري)، هنا شهادة عن الحياة الطلابية والحزبية في "ثانوية سعيد" الرسمية بعين الرمانة نهاية الستينات. وقد رواها الراوي نفسه المولود سنة 1952 في الدكوانة.

منعطف نهاية الستينات
حين أستعيد اليوم ما تبقى في ذاكرتي من حياتي الطلابية لسنواتٍ ثلاثٍ (1967-1970) في "ثانوية سعيد" الرسمية في عين الرمانة، يتهيأ لي أن تكويني الشخصي الفردي والاجتماعي العام، وعيي ومسار حياتي وخياراتي، بدأت ملامحها ترتسم وتظهر في تلك السنوات الثلاث. وهي كانت عاصفة، كثيفة الميول والأهواء المتدافعة والمتنازعة أمامي على مسرح الحياة الطلابية، الضيّق والمشحون بالتوتر، والفسيح المفتوح على الاختلاط وأهواء المدينة والمثاقفة والتحزب العصبي والعصبوي العنيف، في وقتٍ واحد.

نعم، هكذا كان وقع سنوات نهاية الستينات على طالبٍ ثانوي مراهق، أو في مطلع شبابه. وكان استمد وعيه الذهني السابق وقيمه السابقة في الدكوانة، من متوسط الوعي والقيم العامة السائدة آنذاك في المجتمع المسيحي. لكنني لم أكن مؤمنًا أو متدينًا في مسيحيتي الموروثة، بل كانت اجتماعية لبنانية عامة. وربما لم تكن مسيحية طائفية، إلا على نحو خافتٍ. وقد تكون طائفيتها غير مدركة ولا معلنة، بل مستبطنة وتتماشى مع قيم الاجتماع اللبناني العام وإملاءاته السلوكية الملتبسة والمركبة، والتي تتفاوت وتتقطع طائفيتها، تخفت وتستتر وتختفي، تبرز وتتوتر، حسب المواضع والأوقات ودوائر السكن والعلاقات والاختلاط في الحياة اليومية.

أما ميولي السياسية إلى الأحزاب، فكانت في الدرجة صفر تقريبًا في الدكوانة حيث بيت أهلي، وفي بدايات سنواتي الثلاث طالبًا في "ثانوية سعيد" بعين الرمانة. وهذا وقتما كانت الأحزاب المسيحية حاضرة بقوة في دوائر المجتمع المسيحي: الكتائب في الدرجة الأولى، الأحرار في الدرجة الثانية، ثم الكتلة الوطنية التي صارت ضعيفة الحضور في الوسط الشبابي والطلابي آنذاك. وفي الثانوية، كان هناك حضور منظور للشيوعيين والسوريين القوميين بين الطلاب. ورغم قلة عددهم كانوا نشيطين، ويستفز حضورهم ونشاطهم الكتائب والأحرار.

ويتحدر الشيوعيون والقوميون السوريون تاريخًا، وفي أجيال سابقة ترقى إلى الثلاثينات، من صلب اجتماعي هامشي في المجتمع المسيحي وفي سائر الطوائف اللبنانية. وهامشيتهم تزايدت وحوصروا مسحيًا وسلطويًا في أوقات وظروف وأجيال سبقت تغير مصادرهم الاجتماعية، الطائفية والمناطقية في الستينات، وتحديدًا مع ظهور العمل الفلسطيني المسلح وتوسُّعه منذ العام 1968. وهذا ما نظّر له جناح الشيوعيين الشباب آنذاك، تحت عنوان "الصراع/النضال الطبقي في مرحلة التحرر الوطني". و"التحرر هذا طليعته أو تقوده حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة"، حسب مقولات أحد مثقفي الحزب الشيوعي.

أحزاب وطائفية
وفي سنواتي الطلابية الثلاث شهدتُ وعايشتُ تنامي الأهواء والميول الحزبية المتوترة بين طلاب الثانوية، إبان طفرة الإقبال على التعليم في ضواحي بيروت "الشعبية" التي تزايدت فيها الثانويات الرسمية، ومنها ضاحية عين الرمانة المسيحية السكان الوافدين بكثافة من أرياف مسيحية، منذ مطلع عهد فؤاد شهاب الرئاسي سنة 1958. وقد خالطتْهم السكنَ فيها قلة قليلة من وافدين مسلمين (دروز، شيعة، وسنة)، غالبًا ما كانوا موظفين في مؤسسات حكومية، وخصوصًا في السلك العسكري.

وطلاب الثانوية الجديدة في عين الرمانة كان عددهم يتجاوز 500 طالب على وجه التقريب. وكانوا في غالبيتهم الساحقة من المسيحيين، ومقيمين في عين الرمانة وفرن الشباك وحارة حريك والمريجة وسواها من أحياء ضواحي بيروت الشرقية والشمالية. وبينهم مسيحيون يقيمون في أحياء الضاحية الجنوبية، كالشياح والغبيري وبرج البراجنة، التي تكاثفت موجات الوافدين الشيعة الجنوبيين إليها، قبل البعلبكيين. ثم خلت من السكان المسيحيين في سني الحروب الأهلية البادئة سنة 1975. أما الأقلية المسلمة من طلاب "ثانوية سعيد" فكانوا شيعة وسنة من مصادر ريفية ويقيمون في أحياء الضاحية الجنوبية.

وتفاقمت الحساسيات الطائفية-الحزبية بين طلاب الثانوية عقب حرب 1967، وفي خضم ظهور العمل الفلسطيني المسلح في لبنان، ونشوء حلف الأحزاب المسيحية الثلاثي سنة 1968. لكن التوتر والعداوات والصدامات بين الطلاب المحازبين، كانت حزبيتها تستبطن طائفية مترسِّبة، وسرعان ما انتعشت وطفت على مسرح الحياة والعلاقات الطلابية اليومية، في خضم سني نهاية الستينات وتلك الحوادث اللبنانية والملبننة التي تخالطت فيها الارتجاجات والانشطارات والاصطفافات السياسية بالاجتماعية الطبقية وبالطائفية والحزبية.

فمحازبو الكتائب والأحرار في الثانوية (وهم الأكثرية الحزبية)، لم يكن بينهم مسلم واحد. أما الشيوعيون والقوميون والسوريون (وهم أقلية حزبية ناشطة)، فكانوا خليطًا مسيحيًا - مسلمًا، لكن أكثريتهم مسيحيون، وربما كان القوميون السوريون مسيحيين كلهم. وكانت العداوات القديمة بين الشيوعيين والقوميين السوريين في المجتمع المسيحي قد انطفأت، لتنبعث عنيفةً آنذاك بين الأكثرية الحزبية المسيحية "اليمينية" والأقلية الحزبية "اليسارية" المختلطة طائفيًا اختلاطًا نسبيًا. وكان الموقف من السلاح الفلسطيني، ومن دبيب التعبئة الواسعة لمنظماته المتكاثرة في الجغرافيا المناطقية والطائفية اللبنانية، هو العامل الأبرز والأشد حيوية وقوة في تلك العداوات والصدامات الطلابية العنيفة، من دون أن تُعدمَ مددًا من إرثها القديم: العداوة بين الكتائب والسوريين القوميين والشيوعيين في الديار المسيحية، فيما ترسب وتخثر إرث العداوة بين الشيوعيين والقوميين السوريين في تلك الديار، ومنها عين الرمانة وثانويتها الرسمية.

ضغائن وعداوات أهلية
أما أنا فكنت مشاهدًا متفرجًا وشبه محايد، ومستمعًا للمناقشات والمشاحنات التي تبدأ في ملعب الثانوية بين طرفي المحازبين، وغالبًا ما تنتهي إلى عراك في شوارع عين الرمانة، حيث يتبادل المحازبون الأعداء التربص والتكامن والثأر، فيشتبكون مستعملين "السلاح الابيض" أحيانًا. لكن الكتائب والأحرار كانوا هم الغالبون في جولات العراك، ليس لأنهم الأكثرية في الثانوية فحسب، بل لشعورهم فوق ذلك بأن أكثرية أهالي عين الرمانة تميل ميلهم إلى معاداة الشيوعية والشيوعيين وأقرانهم القوميين السوريين، المناصرين للفدائيين الفلسطينيين ومنظماتهم المسلحة الناشطة.

ورغم جسارتهم في المجابهات، غالبًا ما كان يشعر الطلاب الشيوعيون والقوميون السوريون، وخصوصًا المسيحيين والمقيمين في عين الرمانة، أنهم مستضعفون ومحاصرون ومطاردون في ديارهم، وأن الكتائب والأحرار يستقوون عليهم ويعاملونهم كمنشقين عن الجماعة وصراطها المستقيم.

أما القلة المسلمون من الشيوعيين أو اليساريين المقيمين خارج عين الرمانة، وفي الشياح والغبيري غالبًا، فكانوا يعيشون حياتهم الطلابية على قلق وتهديد دائمين، في بيئة أهلية معادية لهم، فأخذوا ينفرون منها ومن أهلها، ويُكِنّون لها ولهم الضغينة والعداء. والأرجح أن هذا أدى إلى مضاعفة نُصرتِهم المنظمات الفلسطينية المسلحة واستقوائهم بها. وأدى أيضًا إلى إحياء شعورهم بالانتماء إلى بيئتهم الأهلية المسلمة، ودفعهم إلى الالتصاق والالتحام بها، بعدما كانوا يبتعدون عنها ويقيمون مع ثقافتها وقيمها مسافةً أتاحت استقبالهم ثقافة أخرى. فبعضهم كان قد اختار تلقي تعليمه في "ثانوية سعيد" بعين الرمانة، بناء على اعتبار أن التعليم  فيها أكثر جدية وانتظامًا من ما في سواها، ولأن طلابها من بيئة مسيحية، وتختارهم إدارتهما من المتفوقين دراسيًا.

أليست هذه الحال من العوامل المؤسسة للحرب الأهلية ودبيبها قبل سنوات سبع من بدئها في الشياح-عين الرمانة سنة 1975؟

وليس من المبالغة أو الشطط استباق ما حدث بعد العام 1982 في البيئة الشيعية في لبنان: قيام حركة أمل وحزب الله بعملية تطهير منظم لبيئتهم من الشيوعيين واليسارييين والبعثيين العراقيين الشيعة واجتثاثهم؛ ومقارنة هذه العملية الدموية الواسعة بما حدث على نحو بطيء وبقدر أقل من العنف والدم في عين الرمانة وسواها من مناطق مسيحية في نهاية الستينات والنصف الأول من السبعينات، وامتدادًا إلى حرب السنتين (1975 - 1976): إقدام حزبيّ الكتائب والأحرار على مطاردة الشيوعيين واليساريين والقوميين السوريين، حصارهم وطردهم وتهجيرهم من ديارهم، قبل اجتثاثهم اجتثاثًا كاملًا. ذلك لأنهم "أعداء الداخل"، أو "عملاء أعداء الخارج"، حسب رطانة الحروب الأهلية المقدسة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها