الأربعاء 2021/12/15

آخر تحديث: 12:00 (بيروت)

حلب وسيارات ضباط الأسد المسروقة من لبنان

الأربعاء 2021/12/15
حلب وسيارات ضباط الأسد المسروقة من لبنان
شهدت مطالع القرن العشرين انصراف أبناء المشايخ عن علوم الدين (Getty)
increase حجم الخط decrease
حلقة ثانية من سيرة عائلية حلبية روى مادتها الأولية أو الأساسية سلام الكواكبي (راجع "المدن")، وتليها حلقة ثالثة. وقد كُتِبت بصيغة  المتكلم، وأُضيفت إلى مادتها الأساسية هوامشُ وتعليقاتٍ وملاحظات، ربما توسّع إطارها وأفقها الاجتماعي.

من الدين إلى الدنيا
وُلِدَ أيّاد الكواكبي، والدي، سنة 1928 في حلب. وعمره اليوم 93 سنة، ويقيم في باريس هاربًا من الكارثة الأسدية التي عمَّت سوريا كلها، ولا يزالُ يساريَّ الأفكار والتوجّه. فهو كان في فتوّته وشبابه عضوًا فاعلًا أو ناشطًا في الحزب الشيوعي السوري في حلب، شأن إخوته، سوى أحدهم الذي كان إسلاميًا، فعُيِّن وزيرًا للأوقاف في حكومة الرئيس نور الدين الأتاسي. وكان جدّي لوالدي مهندسًا زراعيًا تلقى العلم في اسطنبول مع أخويه اللذين درسا الطب والصيدلة. وهم أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي المولود سنة 1855 في حلب، والقتيل مسمومًا في القاهرة سنة 1902، بعدما رفض منصبًا دينيًا رفيعًا عرضه عليه السلطان عبدالحميد الثاني في اسطنبول، كي يبعده عن الحركة التحررية والإصلاحية التي كان من أركانها ودعاتها في حلب.

واقتفاء أنواع التعلُّم والمهن والميول وتغيراتها على هذا النحو من جيل إلى جيل، في عائلةٍ جدّها الأول رجل دين معمّم وإصلاحي الميل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، قد يكون مرآة لتحوّلات اجتماعية وثقافية وسياسية في المجتمع المديني السوري، وأصابت أبناء عائلاته في القرن العشرين العاصف. فالسلسلة العائلية الكواكبية هذه، تشير إلى أن أبناء رجال دين وعلمائه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تعلّموا علومًا عصرية دنيوية أدت إلى عملهم في مهن حرة متنوعة. وإذا وسَّعنا الدائرة العائلية إلى عائلات أخرى، لا بد أن نعثر على رجال دين وأبنائهم عملوا في التجارة وفي وظائف إدارية في النصف الأول من القرن العشرين. ولا بد من الملاحظة أيضًا أن أيًا من أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، لم يرث والده في المشيخة الدينية أو مال إلى علوم الدين. وقد سار على نهجهم هذا أبناؤهم، فتوجّهوا إلى علوم ومهن عصرية ودنيوية، ليبدو أن إرث المشيخة الدينية انقطع تمامًا في عائلة الكواكبي. والاستثناء الوحيد الذي يمثله عمي أو شقيق والدي في إسلاميته، قد يثبت القاعدة. فإسلاميّته دينيّتها محدثة وليست تقليدية. والدليل أنه عُيّن وزير أوقافٍ في حكومةٍ مدنية، من دون أن يكون شيخًا معمّمًا.

قطيعة العصاميين
أما القطيعة التي تمثلت في انصراف أبناء مشايخ عن علوم الدين، فملأت ما تخلف عنها من فراغ اجتماعي وسياسي حركاتُ وأحزاب محدثة، من وطنية وقومية وشيوعية ودينية إسلامية (الإخوان المسلمون) في حقبتي الانتداب الفرنسي والاستقلال الذي تلاه.

وإذا كان أبناء الشيخ عبد الرحمن الكواكبي شبانًا إبان الحرب العالمية الأولى وحكومة الأمير فيصل العربية في دمشق، وعاشوا في خضم كوارث تلك الحرب ومآسيها، وأصاب حياتهم الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الكبير الذي عصف بديار المشرق العربي كلها، في عشيات انهيار السلطنة الإمبراطورية العثمانية وغداته، فإن أبناءهم ومنهم والدي وإخوته، ورثوا ذلك الاضطراب الكبير الذي راح يتناسل في الدولة السورية المعتلّة الولادة -شأن سواها من الدول العربية- فنشأوا عصاميين متعاونين عائليًا، يعيل كبيرهم الذي يعمل ويتعلم كي يتفرّغ صغارهم للتعليم.

وقد تكون حالهم هذه هي التي مالت بهم إلى العقيدة الشيوعية، التي كان حزبها يسمى في الأربعينات حركة السلام. أما الذي كان إسلاميًا منهم، فقد يجعل عائلتهم شبيهة بعائلة أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الروائية الشهيرة: أحد أبنائه إسلامي إخواني، وآخر وطني مصري، وثالث يساري شيوعي.

بين الشيوعية والقومية
وقد تكمّل والدتي هذا التنوّع في الميول السياسية العائلية في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته في سوريا. فهي من عائلة غنّام الإقطاعية، وأرسلها والدها مطلع الخمسينات من حلب إلى دمشق لتدرس في جامعتها. فنزلت في سكن جامعي للطالبات يسمى دوحة الأدب، واشتهر بطالباته الميّالات إلى الأدب والثقافة. وهي عايشت الحركة الوطنية والقومية في جامعة دمشق، فمالت إلى اليسار القومي العربي، وانخرطت في تيارٍ من تياراته وخرجت في تظاهراته، أيام كانت جامعة دمشق صغيرة بعدُ وطلاب الطب والحقوق والآداب فيها يجمعهم التعارف والتماثل العائلي والنشاط السياسي. لذا عرفت والدتي كثرة من زعماء سوريا السياسيين لاحقًا، منهم نور الدين الأتاسي وإبراهيم ماخوس ويوسف الزعيّن.

وحين كان والدي شيوعيًا، سافر في مطلع شبابه إلى بولونيا في بعثة إلى مهرجان أوندل للشباب والسلام سنة 1955. وقُبض عليه في عهد نظام الوحدة الناصرية السورية- المصرية (1958- 1961) وحلِّهِ الأحزاب وتعطيله الحياةَ السياسية والرأي السياسي والصحافة، وإطلاقه سلطان جهاز عبد الحميد السراج الأمني. وقبل نظام الوحدة الناصرية، كانت المخابرات تقتصر على جهاز المكتب الثاني التابع للجيش السوري، لكن النظام الناصري الجديد بدأ بوضع الركائز الأولى لدولة الحزب الواحد الأمنية، ولاضطلاع جهازها الأمني في ترويض المجتمع السياسي وقمعه وتحطيمه. وطوّر نظام البعث تلك الدولة التي تغوّلت نسختها الأسدية وأوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم.

وبعد إطلاق سراحه كفَّ والدي نهائيًا عن النشاط السياسي في مطلع الستينات، وظل يساريّ الثقافة والهوى، وانصرف إلى حياته العائلية والمهنية.

مثاليةٌ في واقعٍ مرير
بدأ والدي عمله موظفًا في سلك الجمارك في حلب سنة 1951، وعملت والدتي في إدارة الاتصالات الهاتفية في المدينة. وفي سنة 1961 ابتُعِث والدي إلى باريس، فدرس هناك في مدرسة الجمارك العليا، وترقى في سلكه الوظيفي، فصار مديرًا للجمارك في حلب سنة 1970. وكانت أسرتنا من الفئة الاجتماعية العليا في الطبقة السورية المتوسطة، فيسافر والداي إلى أوروبا مرة في السنة في إجازاتهما، ويتركاننا نحن أطفالهما في رعاية راهبات دير الفرنسيسكان الحلبي، وأحيانًا في دير لليسوعيين في ريفون اللبنانية. ولما سيطر النظام البعثي وانهار الاقتصاد والعملة السوريان، توقفا عن السفر وتغير نمط حياتنا.

كان والداي مثاليين ومستقيمين في عملهما وسلوكهما، وديموقراطيّين في حياتهما البيتية وتربيتنا، فامتنعا امتناعًا أخلاقيًا عن الانخراط في علاقات الولاء والمحسوبيات والفساد والرشوة التي بدأ يرسيها النظام البعثي في الإدارات والمؤسسات العامة. وكان بعض أترابي في فتوّتي المدرسية يقولون لي: والدك غشيم، لأنه لم يغتنِ ويثرِ من عمله في سلك الجمارك الذي كان سلكًا رحبًا لتحصيل الرشاوى والأتوات. وكنت في طفولتي أتساءل أحيانًا: لماذا ليس لدى والدي سيارة خاصة كسواه من أمثاله ومعارفه في عمله؟! وخصوصًا لما كنتُ أراه، فور وصوله إلى البيت في سيارة السلك الوظيفي، يصرف سائقها ليعود بها إلى دائرة الجمارك. وغالبًا ما كنتُ أسمع أناسًا في دائرة علاقاتنا البيتية من جيران ومعارف يقولون إن والدي شخص محترم ومستقيم وحسن السمعة. وكانت هذه الوقائع تثير فيَّ شعورًا مزدوجًا أو متناقضًا وملتبسًا يكتنفه الغموض، فلا أدري لماذا يكتنفني شيء من انقباض وضيق يخالطه شيء من سرور وفخر غامضين. لكنني بعدما كبرتُ واتسعت مداركي امّحا الانقباض والضيق تمامًا، وحلّ مكانهما الاعتزاز والفخر بوالدي، سوى أنني ظللت أعتُب عليه وعلى والدتي لأنهما ربّيانا تربية مثالية منفصلة عن الواقع السوري المرير من حولنا، كأنهما أرادا أن يقيما بيننا وبينه عازلًا يفصلنا عنه ويحمينا منه.

الغشيم المستقيم
وكانت المصالح الجمركية مشتركة بين سوريا ولبنان، قبل إقدام الرئيس السوري خالد العظم على فصلها في الخمسينات. ولما هرب أصحاب رؤوس أموال وصناعيون سوريون إلى لبنان كان بينهم صناعي من أقارب والدي الذي زوّده برسالة شفوية لأحد أصدقائه اللبنانيين في سلك الجمارك، كي يساعده في إنجاز المعاملات الإدارية المطلوبة لافتتاح مصنع له في الشويفات. وفي سهرة جمعت والدي بصديقه اللبناني في منزلنا بحلب بعد حوالى 10 سنوات، سمعت صديقه يسأله عن المبلغ المالي الذي تقاضاه من صاحب المصنع لقاء التوصية أو الرسالة التي زوّده بها وساعدته في إنشاء مصنعه. فاستغرب والدي السؤال، وسأل صديقه اللبناني: لماذا آخذ منه مالًا؟! هو قريبي وأنت صديقي، وطلبتُ منك طلب صديق لصديق أن تساعده مساعدة إنسانية عادية. ضرب صديق والدي كفًا بكف قائلًا: لو كنتُ أعلم أنك لم تأخذ منه شيئًا لطلبتُ منه أنا المبلغ المرقوم، فصناعته تطورت في لبنان وصار مليونيرًا.

وكنت في الثانية عشرة من عمري سنة 1977، عندما بدأت تتكاثر في "سوريا الأسد" السيارات التي كان يسرقها الضباط السوريون من الديار اللبنانية، ويقودونها متفاخرين بفخامتها في الديار السورية. كان والدي آنذاك مدير الجمارك في حلب. ولا أزال أذكر ليلة إصداره أمرًا بمصادرة السيارات التي تحمل لوحات لبنانية ويقودها عسكريون سوريون في حلب. أثار الأمر وإجراءاته العملية لغطًا وتوترات في المدينة، فاستدعى والدي إلى دمشق رئيسُ الأركان حكمت الشهابي ورئيس جهاز المخابرات العسكرية علي دوبا، وطلبا منه إلغاء القرار الذي اتخذه والكف عن تنفيذه. فما كان منه إلا أن طلب منهما الطلب من الحكومة إصدار قانون ينص على السماح للضباط السوريين العائدين من لبنان، أن يقودوا على الأراضي السورية سيارات لبنانية مسروقة، فيقوم هو بتنفيذه في حلب، ويرفع بذلك المسؤولية عن نفسه. كان والدي على ما روى لي، يعلم أنه يحرج الرجلين على نحوٍ كوميدي في ما طلبه منهما. وبعد أيام صدر قرار بتعيين أياد الكواكبي مديرًا عامًا للجمارك في سوريا كلها. فأدرك والدي إن ذلك القرار يعني أن عليه أن يستقيل من وظيفته، لأن قرارات الترفيع الوظيفي على هذا النحو لم تكن تعني في "سوريا الأسد" سوى أن يعلنَ الموظفُ استقالته ويذهب إلى بيته. وهذا ما فعله والدي، وكان لا يزال عمره 52 سنة، وأمامه سنوات كثيرة بعدُ كي يتقاعد. وروى له لاحقًا أحد الوزراء أن وضعه نوقش في اجتماع وزاري، قال فيه رئيس الوزراء: أياد الكواكبي حمارٌ، لا يعرف كيف يعيش ويرتشي، فماذا نفعل به؟!

وسنة 1980 كنتُ عائدًا من بلجيكا إلى مطار دمشق، فقال مفتش الجمارك في المطار لعنصر في السلك أن يفتش حقيبتي. ولما قرأ المفتش اسمي في جواز سفري، قال للعنصر الجمركي: لا، لا لزوم لتفتيش حقيبته. هذا ابن مدير الجمارك في حلب أياد الكواكبي الذي ظل فقيرًا، وابنه مثله "فقري". وفي تلك اللحظة اعترتني الحيرة والاضطراب إياهما اللذان كنت أشعر بهما صغيرًا عندما كان يقال إن والدي غشيم ومستقيم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها