الأربعاء 2021/12/01

آخر تحديث: 12:07 (بيروت)

الدكوانة–عين الرمانة: السلاح الفلسطيني والحلف الثلاثي المسيحي

الأربعاء 2021/12/01
الدكوانة–عين الرمانة: السلاح الفلسطيني والحلف الثلاثي المسيحي
هلع مسيحي عارم وعام من انفلات السلاح الفلسطيني مطلع السبعينات (Getty)
increase حجم الخط decrease
بعد حلقة أولى من هذه الشهادة عن الدكوانة ومجتمعها المحلي في الخمسينات والستينات "المدن" 24 تشرين الثاني الجاري، وثانية عن الدكوانة وتل الزعتر نشرت في 26 من الشهر نفسه، هنا حلقة ثالثة. والراوي هو واحد من أبناء الدكزانة مولود سنة 1952، وننقل هنا روايته بصيغة المتكلم.

الاجتماع البلدي وطيف السياسة
في فتوتي وبداية مراهقتي في أواسط الستينات، لم تكن دوائر حياتي اليومية تتجاوز بيتنا الأسري، مدرستي ودوامي ورفاقي في مدرسة راهبات في الدكوانة الضيعة أولًا، وفي الأشرفية تاليًا، ودروسي في البيت، وزيارة بيوت أقارب والدتي من إحدى عائلات الضيعة المحليين أو "الأصليين"، تميزًا لهم عن الوافدين الجدد. وهذا، يضاف إليه قليل من أوقات اللقاءات واللعب مع أولاد الجيران في الحي، ومشاوير أسرية في سيارة والدي في عطل نهايات الأسبوع. فالتعليم وطلبه والاجتهاد والارتقاء فيه، كانت الباب الأول الأساسي المشرع على أفقٍ ووعدٍ مستقبليين لأسرتي، ولمعظم أسر الضيعة تقريبًا وعلى وجه الإجمال.

أما السياسة، بحوادثها وعلاقاتها، بكلماتها وأوقاتها، بشؤونها وشجونها، فكانت أقرب إلى طيف متقطع الحضور ومتباعدة في نسيج الحياة البلدية، وربما على جنباتها وهوامشها. وقد تصل أصداء ذلك الطيف من حوادث عامة بعيدة في البلاد إلى الضيعة، فيما كانت تتحول بطيئًا ضاحيةً تقترب من بيروت العاصمة. لكن الاهتمامات والشواغل السياسية، ما كانت في الحالات كلها لتملأ على الأهلين حياتهم وتستفرقها، ولا لتنتصب فيها قطبًا جامعًا يوحدهم في بوتقة قضيّة واحدة جامعة، لتبعث فيهم حميّة أو قلقًا أو قوة تخيّم على وجودهم، وتجرفهم في تيارٍ كيانيّ واحدٍ موحّدٍ صلب في تماسكه. فهم، أي أهالي الضيعة- الضاحية، كانوا عائلاتٍ بلدية متوطّنة فيها ووافدة إليها، ودائمًا على نحو متفاوت زمنًا في التوطن والوفادة، وفي المكانة والمرتبة، من دون أن تكون للمكانات والمراتب والوجاهات العائلية غالبًا، سطوة قطبية مستقلة قاهرة، تعلو الاجتماع البلدي المحلي، لتؤجج انقساماته على نحوٍ مرسل، أو تكتمها وتلغيها ليصير المجتمع البلدي كيانًا مرصوصًا في مواجهةٍ عامةٍ مع كيانٍ أو كيانات أخرى مقابلة.

أما الحزبيات المحدثة (الكتلة الوطنية، الوطنيون الأحرار، الكتائب اللبنانية) التي كانت أوسع من الولاءات العائلية المحلية في الضيعة– الضاحية، وتستقطب أفرادًا أو شطورًا من عائلات، فلم تكن تنتزع المستقطَبين من عائلاتهم وولاءاتها، بل تتعايش معها، فلا يُخرِجُ الاستقطاب الحزبي محازبيه من دوائر الاجتماع البلدي، ولا يجرّدهم منها، ولا من الأعراف والتقاليد والعلاقات الأهلية والمحلية، إلا في أوقاتٍ ومناسباتٍ قليلة متباعدة.

السلاح الفلسطيني والحلف الثلاثي
أُصِيب هذا كله بارتجاجٍ قوي راح يكبر ويتصاعد في الدكوانة الضيعة ورأس الدكوانة أثناء صيرورتهما ضاحيةً تقترب سريعًا من بيروت في نهايات الستينات.

وقد بعثَ ذلك الارتجاجَ الكبير، منذ العام 1968، مخيّمُ تل الزعتر الفلسطيني المجاور للدكوانة ورأسها، عندما تكاثر في المخيّم سلاح الفدائيين الفلسطينيين الذي "حرَّره" من سطوة أجهزة الأمن اللبنانية الرسمية، فصيّره معقلًا–معسكرًا للتعبئة والتأطير والتنظيم والتدريب على السلاح، في سبيل قضية العرب الأولى: تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، غداة هزيمة الجيوش العربية المدوية في حزيران 1967 أمام الجيش الإسرائيلي.

وكانت تلك الهزيمة قد أراحتْ جمهورًا واسعًا من مسيحيي لبنان، وخصوصًا محازبي الحلف الثلاثي: الكتلويون، الوطنيون الأحرار، والكتائبيون، فأفرحتهم فرحًا شبه ثأري من عروبة الوحدة المصرية–السورية الناصرية (1958 – 1961)، والتي كان قد أقلقهم وأخافهم طلبُ جمهور من مسلمي لبنان الانضمام إليها، فـ"ثار" ذلك الجمهور سنة 1958 على سياسات كميل شمعون المناوئة في نهاية عهده الرئاسي للوحدة العربية الناصرية. وشمل فرحُ الحلف الثلاثي المسيحي الوليد سنة 68، توقَ زعمائه (ريمون إدة، كميل شمعون، وبيار الجميل)، المعلن والمبيّت، إلى الخلاص من إرث الشهابية وجهاز مكتبها الثاني الأمني. وهما كانا حريصين على مواءمة سياسة لبنان الخارجية مع السياسة الناصرية، وعلى لجم شعبية أو شعبوية أولئك الزعماء المسيحيين الثلاثة في نزعاتهم لتقاسم النفوذ والقوة في الشارع المسيحي وفي أجهزة الحكم والدولة ومؤسساتهما في لبنان.

وعلى خلاف ما يفترضه حلف أولئك الزعماء الثلاثة وأحزابهم من وئامٍ بين محازبيهم وأنصارهم، بعث الحلفُ نزعاتٍ استقطابية في ما بينهم، ظهرت ملامحها في الدكوانة ورأسها. وكان محازبو الكتائب الشبان والطلاب، الأقوى والأكثر تنظيمًا ونشاطًا وتنوعًا طبقيًا وعائليًا من أقرانهما في الحلف. وهذا ما أدى سريعًا إلى تصدُّرِ الكتائبيين حملَ راية قلق أهالي الدكوانة الضيعة ورأس الدكوانة وخوفهم من سطوة سلاح مخيم تل الزعتر الفلسطيني المتاخم لبلدتهم، وثقله عليهم وعلى مجتمعهم البلدي، في غمرة ذلك الارتجاج/الشرخ العميق والعنيف الذي أحدثه السلاح إياه في المجتمع اللبناني وبين جماعاته الطائفية.

أحزاب "ثانوية سعيد"
والحق أنني لم أعش الوقائع اليومية لذلك الارتجاج/الشرخ في الدكوانة، إلا على نحوِ هامشي طفيف وبعيد، على الرغم ن استمرار إقامتي في بيتنا الأسري فيها. فقد كنتُ أغادره صباحًا في السابعة والنصف صباحًا، ابتداءً من سنة 1967، إلى مدرستي الثانوية –ثانوية فرن الشباك الرسمية الجديدة في عين الرمانة، والمعروفة بلديًا وفي الوسط الطلابي والأهلي باسم مديرها شفيق سعيد، أكثر من اسمها الرسمي- وأعود منها إلى بيتنا في الدكوانة في الخامسة مساءً. وهذا ما أبعدني عن وقائع الحياة اليومية وحوادثها في الدكوانة، بل فصلني عنها تقريبًا ما أن تفتّح وعيي في مطلع شبابي.

ثم أنني كنتُ قبل ذلك غير منغمسٍ، ولا والدي كان منغمسًا في شؤون ذلك المجتمع المحلي وشجونه، ولا في ولاءاته العائلية أو الحزبية المحدثة. بل كان والدي على خلافِ ذلك، ينفر من تلك الولاءات نفورًا يبلغ حدود التطيّر، ويمنح ولاءه كله للدولة، بوصفه "ابن حكومة" على ما كان يُقالُ عن الموظفين الحكوميين والمنخرطين في الأسلاك الأمنية والعسكرية الرسمية. وهذا ما أهاب بي، بل منعني في طفولتي ومراهقتي في الدكوانة من أن أرتاد وآلف حياة الشارع في الحي.

لكن هذا ما بدأ ينكسرُ شيئًا فشيئًا في حياتي طالبًا ثانويًا في "ثانوية سعيد"، حيث كانت الحياة الطلابية فيها بعين الرمانة مشرعةً في السنوات الثلاث (1967–1970) من مرحلة تعليمي الثانوي، لأشكال وألوانٍ من الحساسيات والانتماءات والولاءات والمناقشات والمنازعات الحزبية المحدثة، من دون أن تخلو من العراك والعنف في أوقاتٍ كثيرة: بين الطلاب الكتائبيين والوطنيين الأحرار (وهم الكثرة الغالبة، يتصدرها الكتائبيون) من جهة، وسواهم من السوريين القوميين والشيوعيين (وهم قلة منظورة وفاعلة) من جهة أخرى. أما محازبو الكتلة الوطنية فكانوا قلةً ضعيفة في حضورها وفي ترفُّعها عن المشاحنات والعراك والعنف، في ذلك المناخ الطلابي المتوتر والمشحون في الثانوية. وياما كانت تبدأ في ملعب الثانوية حوادثُ العراك بين الطلاب المحازبين من الطرفين المتعاديين. وياما كانت تمتد إلى شوارع عين الرمانه القريبة، وتُستعمل فيها الأحزمة الجلدية والعصي ومقابض أو "بونات" معدنية تُشبَك في أصابع أكف من يتبادلون بها لكمات يثقب معدنها المسنن وجوههم ويدميها.

أما أنا الآتي من الدكوانة –بلا أي ميل أو هوىً حزبي أو سياسي، سوى ذلك الميل الفطري المسيحي العام والموروث إلى الغرب وأميركا تحديدًا– فقد وقفت متفرجًا على ذلك المسرح من المناقشات والمشاحنات شبه اليومية، ومندهشًا به. وغالبًا ما كان الكتائبيون والأحرار الكثيرون والأشداء هم الغالبون أو المنتصرون على الشيوعيين والسوريين القوميين القلة عددًا، لكن الحاضرين الأشداء والجسورين في تلك المجابهات.

ولم يكن هذا المسرح الطلابي المشرع للسياسات الحزبية ومناقشاتها المشحونة المتوترة، والمشرعة على العنف اللفظي والجسماني، مستجدة كلها، بل تستأنف تراثًا مديدًا من النزاعات والعداوات العنيفة يرقى، أقله، إلى ثلاثينات القرن العشرين اللبناني، وخصوصًا في جبل لبنان المسيحي ببلداته وقراه: بين السوريين القوميين والشيوعيين، وبين الكتائبيين والشيوعيين، وبين السوريين القوميين والكتائبيين. ولم تكن هذه العداوات المتأرِّثة المتناسلة والمتجددة، تخلو من تقاطعها أو تمفصلها على السياسات الطائفية في المجتمع المسيحي، واللبناني على وجه العموم.

أما المستجد على ذاك التراث، ما بعد هزيمة حزيران 1967، فهو ظهور حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وما بعثه تمددها خارج المخيمات من ارتجاج داهم وسريع في التركيبة السياسية والأهلية اللبنانية ونسيجها الاجتماعي: خوفٌ، بل هلع مسيحي عارم وعام من ذالك السلاح، وحمل رايته حزبا الكتائب والوطنيين الأحرار، وسكوتٌ مسلم عام عن السلاح إياه، ثم التضامن معه ونصرته.
هل نقول ما أشبه اليوم بالأمس البعيد؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها