الأربعاء 2021/01/27

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

الطلاب المستقلون العلمانيون في "مسيرتهم العاطفية الكبرى"

الأربعاء 2021/01/27
الطلاب المستقلون العلمانيون في "مسيرتهم العاطفية الكبرى"
"لا نعلم كم نحن قادرين على تغيير المعادلات الكبرى في البلد" (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
حلقة ثالثة وأخيرة من  سيرة شابة علمانية، كانت من مؤسسي "حركة طالب" وإعادة إحياء"النادي العلماني" في جامعة القديس يوسف، اليسوعية.

سمات شباب 17 تشرين
مرت سنواتٌ عشر على "واسطة عقد" ثورات "الربيع العربي"، ثورة 25 يناير المصرية. وهي أطلقها عشرات ألوف من شبان مصر، المحطمين اليوم في السجون والمنافي والإحباط الكبير. فماذا وكيف نروي هنا قصةً ما عن شباب انتفاضة أو حركة 17 تشرين 2019 في لبنان؟

هم من ساهموا، طلاباً وطالبات خصوصاً، مساهمة واسعة في تلك الانتفاضة، فكانوا حاضرين/ات (ونحذف في الأسطر التالية تاء التأنيث ونون النسوة، تسهيلاً للكتابة والقراءة)، فاعلين ومنظمين في شوارعها وساحاتها. منهم كانت له تجاربه ومشاركته السابقة في النشاط الاحتجاجي، في أوقات ومحطات لبنانية من عقد "الربيع العربي". ومنهم كانت 17 تشرين فاتحة نشاطه ذاك. أما السمة الغالبة على جيل 17 تشرين الشاب، فهي عدم انضوائه في أطر ومنظمات وأجهزة وعصبيات الجماعات الحزبية المعروفة، والتي تقاسم زعماؤها ومقدّميهم وخواصّهم وبطاناتهم السلطات والمناصب في الحكم والإدارة والمؤسسات العامة في الدولة. وكان العامة من جماعاتهم يوالونهم ولاءً عصبياً في المدن والبلدات والمناطق اللبنانية.

وكان جيل 17 تشرين الشاب، الطلابي في معظمه ربما، يعي أنه ينتفض على أولئك الزعماء وأجهزتهم المحازبة، ويرغب في أن ينفك عنهم وعنها مواليهم، فيخرجوا وينتفضوا عليهم وعليها. لكن كانت بينهم فئات واسعة ربما، ممن تربطهم صلات وشبكات هامشية وواهية، معقدة وملتبسة، بالجماعات وعصبياتها. وهؤلاء لم يكن يستهان بهم عدداً وفاعلية وحضوراً في "مجموعات 17 تشرين"، وفي يومياتها، إقبالاً عليها وانكفاءً عنها، وارتداداً مشاكساً لمجموعات أخرى، وأحياناً عنيفاً ضدها.

شباب المسيرة الكبرى التشرينية
أظن أن الطلاب المستقلين الناشطين في 17 تشرين، هم من قادتهم إلى الانتفاضة وفي دروبها "مسيرتهم الكبرى" الشبابية، "العاطفية والغنائية". و"المسيرة الكبرى" الشبابية العاطفية، تبلور مفهومها في الأدبيات اليسارية الأوروبية في حقبة ما بين الحربين العالميتين، وبعدها في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. وقد يكون رائد تلك البلورة الروائي الفرنسي التشيكي الأصل، والأوروبي الثقافة والفكر والهوى، ميلان كونديرا. وهو نسج مادة شخصيات كثيرة من رواياته وحوادثها من روح تلك المسيرة العاطفية الكبرى، التي يغالب تعاطفه معها وحنينه المكتوم والمرير إليها، قدر ما يطلق نفوره التهكمي "العقلاني" منها.

وقد يُفسَّر تأويل ما ينفر منه كونديرا في هذه المسيرة، ما الذي تعنيه وتنطوي عليه: محرّك شباب المسيرة الثورية ودافعها الأساسي، ينطلقان من طاقة عاطفية شخصانية وجودية، شعرية وغنائية، تلابس سن الشبان، وغالباً ما تخلو من الفهم أو الحس السياسي الناضج. أي أن سياسة تلك المسيرة، غير سياسية في الأصل والأساس. ولذا غالباً ما تفضي إلى احباط يشوبه الحنين والحداد، أو التخلي والانصراف عن السياسة، بعد تجاوز سن الشباب إلى النضج.

لكن شباب 17 تشرين الطلاب المستقلين، ما زالوا يعيشون في ذروة مسيرتهم الكبرى ربما. فمن بدأوها منهم قبل سنوات قليلة من 17 تشرين 2019، كان بعضهم يعيش حالاً من انتظار محبط، لكنه ينطوي على إصرار واندفاع إلى الاستمرار. وهذه حال فيرينا الشابة وبعض من صحبها في كلية الحقوق بالجامعة اليسوعية. وها هي تقول في روايتها محطات من "مسيرتها الكبرى": "17 تشرين بعثت الروح من جديد في تجربتنا السابقة المحبطة. التغيير تراكمٌ، ولا يحدث في كل يوم. والخبرة والنضوج السياسيين يتحصلان بالتجربة والاختيار".

أفق مشرع بعد اختناق
وكانت فيرينا تشاهد التلفزيون ليلة 17 تشرين 2019. لفتتها مشاهد المنتفضين التلفزيونية، فاتصلت ببعض أصدقائها وصديقاتها، وتواعدوا على اللقاء في ساحة الشهداء، وبدأت يوماً بعد يوم تتصاعد مسيرتهم الكبرى نحو ذروتها: "شعرنا بقوة الغضب في الناس. وسرعان ما صارت لقاءاتنا، نحن طلاب وطالبات اليسوعية، تلقائية في الشوارع والساحات. أنا وقلة من أمثالي كنا في حال انتظار الثورة والتغيير. وجاءت الثورة. وكانت عفوية. وهي تكونت بالتراكم من روافد غضب فئات وقضايا ومعاناة متباينة ومتفاوتة. لكنها تزامنت في انفجارها في تلك اللحظة"، قالت فيرينا.

النادي العلماني للمستقلين في حقوق اليسوعية، انبعث نشاطه مجدداً، بعدما كان يحتضر. ومَن كانت فيرينا تبذل جهداً كبيراً كي تحضّهم على الاستمرار في مسيرتهم الكبرى في الكلية والجامعة، أخذت تصادفهم كل يوم في الشوارع والساحات. وصار سهلاً وتلقائياً أن ينضووا في مجموعات ناشطة تتواصل عبر تطبيق "واتساب"، وسرعان ما صاروا مئات، ويتواعدون كمجموعات واسعة للمشاركة في التظاهرات والتحركات اليومية. وبدأت مرحلة التشبيك الكبرى بين الناشطين المستقلين والعلمانيين في الجامعات الأخرى، وفي طليعتها الجامعة الأميركية. وشبكة مدى الطلابية، دبَّ فيها كل من الحياة والنشاط، بعدما كانت قد همدت وأصابها شيء من الوهن.

وروت فيرينا أن مسؤول الهيئة الطلابية في كليتها (الحقوق)، وهو محازب في القوات اللبنانية، قال لها في اليوم الثالث أو الرابع من الانتفاضة، إن طلاب القوات كانوا مزمعين على المشاركة لكنهم ينتظرون أن يعلموا من يحركها وما هي أهدافها. وقالت فيرينا إنها كانت تعلم إن ذلك التريث كان ينطوي على انتظار قرار حزبي من قيادة القوات يجيز لطلابها المشاركة في التحرك. وينطوي أيضاً على رغبة حزبية في تصدر الانتفاضة وقيادتها. والأرجح أن تقدير فيرينا أو يقينها هذا لم يكن صائباً أو في محله، لأن محازبي القوات اللبنانية، ظلوا حريصين، علنياً أقله، على عدم إشهار حزبيتهم أثناء مشاركتهم في الانتفاضة.

ووصفت فيرينا مشاعرها وأمثالها في أيام 17 تشرين المتتالية، على النحو الآتي: "امتلأنا بالأمل والثقة بالنفس. لم يعد حضورنا ونشاطنا خافتاً وبلا أصداء. أخذتنا الحمية والحماسة. وانفتح الأفق أمامنا، بعدما كان مقفلاً أو منغلقاً. كثيرون كانوا محبطين وفقدوا إيمانهم وثقتهم بالبلد ومستقبله، تحمسوا واندفعوا في المسيرة. وأخذوا يرتادون مخيمات الانتفاضة في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، يحضرون المناقشات ويشاركون فيها بمداخلات. ودعونا أساتذتنا في الجامعة للمشاركة في الرأي والمناقشة. وبدأت المبادرات تتناسل وتتكاثر. وتفتحت العلاقات واتسعت بين الطلاب، وصارت لها مواعيدها وأماكنها المعروفة والمكرسة. واتخذت الاتصالات والصلات اليومية طابعاً عفوياً سائلاً، مثل الكلام وإطلاق النشاطات والمبادرات. وسرعان ما صارت كل مجموعة طالبية ناشطة تضم عشرات. والكلام في السياسة صار مشرعاً على التبادل وطرح الأفكار. وامتد التشبيك إلى طلاب المناطق. وبادرت مجموعات اليسوعية الناشطة للدعوة إلى مسيرة طلابية مشتركة، حاشدة وجامعة، انطلقت من أمام جامعتنا، وشارك فيها طلاب من كلياتها المختلفة، ومن سائر الجامعات. وكانت روافد تلك المسيرة قد انطلقت روافدها بالسيارات، وصولاً إلى اليسوعية قبل سيرها الكبير إلى ساحة الشهداء. وهذا ما أمدنا بزخم جديد.

ثمار 17 تشرين
ودخلت السياسة بقوة في الحياة الطلابية التي صارت مشرّعة على الكلام السياسي، بعدما كان يحتكره الحزبيون الذين خمد حضورهم وانكفأوا، وخصوصاً الجماعات العونية منهم في اليسوعية. وصار يراودهم شعور أنهم محاصرون ومنبوذون، وأخذوا يخجلون من إشهار حزبيتهم، بعدما كانوا مفتونين بها وبقوتها وسلطانها. وبعضهم أخذوا يوهمون الآخرين أنهم مستقلون وغير حزبيين، لكن المستقلين كانوا يعرفونهم ويكشفون عن هوياتهم الحزبية التي يتسترون عليها.

ونحن كطلاب- قالت فيرينا- "لا نعلم كم نحن قادرين على تغيير المعادلات الكبرى في البلد. ووجود حزب مثل حزب الله وبارتباطاته وقوته الاقليمية، يجعل تلك المعادلات صعبة التغيير. لكننا كمواطنين نستطيع أن ننشط لتغيير نوعية الحياة في البلد. فنركز نشاطنا على قضايا النهب والفساد والسرقة السائدة في الحكم والمؤسسات التي تتصدرها المنظومة المسيطرة. لا نشعر أننا أقوياء بالقدر الذي يمكّننا من تغيير الأمور دفعة واحدة. ولسنا نحن من يتحمل مسؤولية الإرث السياسي الثقيل الذي تخلّف عن نزاعات القوى السياسية منذ أزمنة الحروب في لبنان. نستطيع خطوة خطوة وبطيئاً بالتراكم أن نغيّر، ونطور وننمي تجاربنا في انتظار لحظة سياسية مناسبة للتغيير الكبير. وليس عدلاً تحميلنا تاريخ البلد السيء الثقيل".

وأثمرت انتفاضة 17 تشرين في الوسط الطلابي: المستقلون والعلمانيون تكاثروا وصار لهم وزنهم الراجح. نشأت شبكات ولجان واسعة من المستقلين. وقد أعدّت برامج ورسمت مهاماً للعمل والنشاط. وهذا ما أدى إلى فوزهم الكاسح في انتخابات الهيئات الطلابية في جامعات وكليات كثيرة. قبل 17 تشرين كانت القاعدة العامة السائدة بين الطلاب أن الغلبة للناشطين الحزبيين في المنظومة. اليوم صار الحزبي يتبرأ من حزبيته. ونجاح المستقلين العلمانيين في الهيئات الطلابية يحملهم على التفكير في عمل وتنظيم نقابيين خارج الجامعات. في النقابات المهنية والبلديات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها