الأحد 2021/01/24

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

المستقلّون العلمانيون في "اليسوعية": "أفراد" خارج قبائل جماعاتهم

الأحد 2021/01/24
المستقلّون العلمانيون في "اليسوعية": "أفراد" خارج قبائل جماعاتهم
المستقلون متحررون من ربقة الحزبيات ومعسكراتها واستقطاباتها الخانقة في الحياة الطلابية (خليل حسن)
increase حجم الخط decrease
نستكمل هنا سيرة شابة علمانية، كانت من مؤسسي "حركة طالب" ومن ثم إعادة إحياء "النادي العلماني" في جامعة القديس يوسف، اليسوعية. هنا جزء ثانٍ: 

كانت فيرينا في الثامنة من عمرها لما سبقت أسرتها في العودة من ألمانيا إلى لبنان سنة 2004. وفي سنة 2014 بدأت دراستها الجامعية بكلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف ببيروت. وسرعان ما انتبهت أنها غريبة عن أجواء الحزبيات الطالبية، بنشاطاتها وشقاقاتها العصبوية السائدة في الجامعة، وعلى نفور منها.

ففي حياتها الأسرية والمدرسية السابقة - هي المتحدرة من بيئة أسرية مسيحية متوسطة - لم تكن تشعر بانتمائها أو ميلها إلى أي من بيئتي الحزبيتين الغالبتين الناشطتين في المجتمع المسيحي (القوات اللبنانية، والتيار العوني). فلا أهلها كانت تعنيهم السياسة على معناها الحزبي السائد في لبنان، ولا هي خاطبتها أو استمالتها واستقطبتها طبيعة الدعاوى والنشاطات الحزبية، لا في المدرسة ولا في الجامعة وخارجهما. وهذا على الرغم من ميلها ورغبتها الحماسية إلى النشاط والعمل السياسيين المستقلين المتحررين من ربقة الحزبيات ومعسكراتها واستقطاباتها الخانقة في الحياة الطلابية.

وهي في روايتها محطات من سيرتها ونشاطها السياسي الطلابي الجامعي، قالت: كنا - نحن القلة النادرة من الراغبين في نشاط سياسي مستقل - نريد إعادة تعريف السياسة والتفكير في سبيل يخرجها من استنقاعها في الانتماءات الغرائزية، ومن العصبويات الأهلية الطائفية والولاءات الحزبية للزعماء.

بروفيل اجتماعي للمستقلين
كانت فيرينا المبادِرة الأولى إلى هذين الدعوة والنشاط، منذ سنتها الدراسية الجامعية الأولى في كلية الحقوق "اليسوعية"، ووقعت على شاب مثلها من زغرتا، كان أهله يقيمون ويعملون خارج لبنان، شأن والدّي فيرينا، قبل أن ترغمهما هي على العودة من ألمانيا إلى لبنان، بعد إصابتها بنوبات بكاء مرير متواصل في طفولتها، تعبيراً منها عن رغبتها الجامحة في تلك العودة، واستنفادها طاقتها على تحملها العيش في ألمانيا.

وهي تعرّف نفسها بأنها نشأت "مشاكسة" منذ طفولتها المدرسية في لبنان. ومن محاور أو موضوعات مشاكستها، بحسبها: نزعات التمييز العنصري العرقي والديني، والتمييز ضد النساء، على أساس شرعة حقوق الإنسان. أما محرك مثل هذه المشاكسة فكان على الأرجح مشاعر شخصية وفردية، قد تكون اكتسبتها من إدمانها القراءة في مراهقتها، ومن أصداء حياتها المدرسية طفلةً في ألمانيا. وهي كانت تجادل في مشاعرها هذه والديها اللذين لم يكونا يوافقان على حماستها لمثل هذه الأفكار أو المشاعر، فيقولان لها إنها "تحمل السُّلَم بالعرض". وفي مراهقتها وصباها الأول بلبنان نمت مشاكستها واتسعت في المدرسة، فصارت تقول وتعلن: نريد ثورة بلا قائد أو زعيم، وثورة على زعماء الحرب الأهلية والطائفية، وعلى التمييز العنصري وضد النساء. واستجابة منها لرغبتها أو إرادتها هاتين، رغبت أن تكون الصحافة أو الحقوق والمحاماة وحقوق الإنسان مجال دراستها الجامعية. وفي سنتها الجامعية الأولى (1914-1915) في كلية الحقوق، عملت ضمن فريق صحافي شاب في صحيفة "النهار"، وشاركت في احتجاجات "طلعت ريحتكن" في بيروت.

الشاب الزغرتاوي الذي شارك فيرينا في مبادرتها ودعوتها إلى نشاط سياسي مستقل في الجامعة، كانت ميوله وأفكاره يسارية من دون أن ينتمي إلى أي من الأحزاب. أما الشابة الأخرى التي انضمت إلى المبادرة، فكانت أمها لبنانية ووالدها تونسي، وتقيم مع أمها منفصلة عن والدها، وعلى ميل إلى العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وكان هؤلاء الثلاثة وحدهم المبادرين في البداية إلى ذلك النشاط السياسي المستقل في كلية الحقوق "اليسوعية"، من دون أية خبرة وبرنامج عملي لنشاطهم، قبل أن يصيروا سنة 2017 ثمانية طلاب/ات.

وتقول فيرينا إن "البروفيل" العائلي والاجتماعي للطلاب/ات الثمانية، متشابه تقريباً: أسرهم من الفئات الوسطى، وغير مشدودة إلى ولاء عصبي أهلي وطائفي، وبلا انتماء حزبي أو نشاط سياسي، والآباء والأمهات في أسرهم من طوائف ومناطق، وأحياناً جنسيات، متنوعة. وبعضهم أهله مقيم أو أقام خارج لبنان.

بدايات التيار العلماني
على الرغم من افتقاد الثمانية إلى خبرات سياسية ودعوية وتنظيمية، ومن عدم امتلاكهم لفكرتهم ومبادرتهم المستقلتين أطراً وأشكالاً عملية، قرروا الترشح إلى عضوية الهيئة الطلابية في كلية الحقوق في السنة الدراسية (2016-2017). وكانت قوى 8 آذار في تلك السنة، وغالبيتها من العونيين، قد عزفت عن ترشيح طلاب من محازبيها في تلك الانتخابات، لإدراكها المسبق أن الفوز فيها معقود لمحازبي 14 آذار، وللقوات اللبنانية تحديداً. وقد ترسّخ عزوف 8 آذار عن الترشح، لمّا ترشّح المستقلون، فقرروا دعمهم ضد 14 آذار والقوات، ففاز المستقلون بمندوبين/ات خمسة في من أصل 11 مندوباً.

قبل فوزهم في تلك الانتخابات، كان الطلاب المحازبون في الكلية ينظرون إلى أصحاب الدعوة السياسية المستقلة نظرتهم إلى طلاب "غرباء" بلا انتماء، و"متفلتين وبايعينها"، أي غير منتمين ولا جديين، وأهواؤهم غامضة أو مريبة. لكن دعوتهم، هم الثلاثة الأوائل، استمالت طلاباً خمسة، كانوا من مؤيدي القوات اللبنانية، فتحمسوا لفكرة التيار الطلابي السياسي المستقل. ولما ترشح هذا التيار للانتخابات، وفاز بالمقاعد الخمسة، فوجئوا هم أنفسهم لأنهم ما كانوا يتوقعون الفوز، ولم يترشحوا أصلاً ليفوزوا، بل ليعلنوا حضورهم فحسب.

أطلق المستقلون الفائزون الخمسة تسمية "حركة طالب" على مجموعتهم الناشطة. ولما علموا أن مجموعة طلاب سابقين ومتخرجين من كليتهم أسسوا في العام 2011 نادياً طلابياً علمانياً في الكلية تأثراً بمثيله في الجامعة الأميركية، قرروا إحياء ذاك النادي الذي كان توقّف عن النشاط وهاجر مؤسسوه من لبنان لمتابعة دراساتهم العليا في الخارج. وكان ينضوي في النادي طلاب من الأحزاب، واقتصر نشاطه على تنظيم محاضرات عن التسامح الديني، وغالباً ما يُدعى رجال دين من أديان مختلفة للمشاركة في محاضراته. لكن المستقلين الذين باشروا إحياء النادي وجعلوه إطاراً لنشاطاتهم السياسية، بعثوا فيه توجهاً جديداً تحت عنوان العلمانية بصفتها "ضد الطائفية، وضد حزبياتها الغالبة على النشاط السياسي في الكلية"، قالت فيرينا التي تعرّف العلمانية على النحو التالي: "الديمقراطية التشاركية، والعدالة الاجتماعية، وسواها من العناوين والمبادئ الفرعية".

العلمانية بين النشاط والإحباط
ودبّت حماسة في المستقلين الفائزين بمقاعد خمسة في الهيئة الطالبية للعام الدراسي 2016-2017، وسموا أنفسهم التيار العلماني. وشاركت فيرينا مع مجموعة من علمانيي التيار والنادي في نشاطات "بيروت مدينتي" أثناء انتخابات بلدية بيروت سنة 2016. ولما برز نشاطهم في كلية الحقوق، أخذت قوى 14 آذار، والقوات اللبنانية تحديداً والأقوى في الكلية، تتهمهم بأنهم ينسقون مع قوى 8 آذار، بل هم واجهة علنية لها للفوز في الهيئة الطلابية. وفي ذاك العام الدراسي (2016-2017) والذي تلاه (2017-2918)، انهمك علمانيو كلية الحقوق في اليسوعية بإعداد برنامجهم السياسي وكتابته وتوزيعه على الطلاب، ووسّعوا نشاطهم إلى كليات أخرى في اليسوعية، واتصلوا بالعلمانيين في الجامعة الأميركية في إطار "شبكة مدى" الناشئة لتنسيق الأنشطة الطلابية في جامعات لبنان المختلفة.

وحين تعرّف فيرينا الناشطين في التيار العلماني في كليتها، ترى أن حساسية أو نزعة "يسارية ما" تساورهم، قوامها "العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان، والخروج على الولاءات الطائفية وأحزابها". وهم من منابت طائفية متباينة. وبينهم من هم أبناء وبنات زواجات مختلطة. وبعضٌ منهم أهلهم من المهاجرين العائدين مثلها، أو المستمرين في هجرتهم. وقد تكون هذه العوامل مؤثرة في عدم انضوائهم في العصبيات الطائفية وحزبياتها، وابتعادهم عنها أو خروجهم عليها. وهم في خضم نشاطهم السياسي الطلابي وإعداد برامجهم، مال بعضهم إلى قراءة شيء من تاريخ لبنان السياسي الاجتماعي. وأخذوا ينظمون اجتماعات للمناقشات السياسية، فتوسع التعارف والتخالط في ما بينهم.

لكن هذا كله لم يستمر على وتيرة متصاعدة، بل أخذ يخفت ويتراجع في العام الدراسي 2017-2018. فبعضهم لم تكن دوافعه تحفِّزه على الاستمرار. وآخرون اكتفوا بالفوز في الانتخابات وعزفوا عن متابعة النشاط. وهناك من انصرف إلى الاهتمام بدراسته الجامعية وقلّص نشاطه في النادي والحركة. وحدها فيرينا وقلة من أمثالها كانت لديهم حمية المتابعة والإصرار. وهذا ما كلفها الرسوب في امتحاناتها الجامعية وخسارة سنة من دراستها، وعرّضها ذلك إلى ملامة من أهلها. وكان دافعها إلى ذلك إصرارها وإيمانها وإرادتها على نحو "عاطفي" بضرورة "التغيير والتحرر والعدالة في لبنان"، حسبما تقول.

وتصاعدت موجة الإحباط واشتدت بين الناشطين المستقلين العلمانيين في اليسوعية أثناء الانتخابات النيابية سنة 2018. ففي حومة تلك الانتخابات والنشاط الجارف لأجهزة الأحزاب والطوائف حتى في أوساط الشباب والطلاب، وجد المستقلون العلمانيون أنهم على هامش تلك الموجة ودبيبها الكبير في البلاد. وبعد الانتخابات قرروا إغلاق النادي العلماني في الكلية، والتوقف عن النشاط السياسي. لكن فيرينا وحدها ظلت تميل إلى الاستمرار والمتابعة، وكانت نائبة رئيس النادي، ودافعها إلى ذلك "إحساس بالمسؤولية" على ما تقول. فهي كانت أيضاً من مؤسسي "شبكة مدى" الطلابية، وراحت تنشط بإصرار لتوسِّع رقعة الحركة وشبكاتها إلى كليات أخرى في اليسوعية، والتواصل مع مجموعات طلابية في الجامعة الأميركية.

لكن إصرار فيرينا المتواصل هذا ضد الإحباط سرعان ما اسعفته انتفاضة 17 تشرين 2019 التي بعثت روحاً وحمية جديدتين في نشاط الطلاب المستقلين، وخصوصاً في اليسوعية والأميركية.
(يتبع حلقة أخيرة)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها