يوميات الخوف والعزلة.. حياة كلبنان ومستقبل لبنان

بأسماعنا نلمسُ أصواتهم وأسماءهم وظلال وجوههم. صارت الأصواتُ وجوهاً. أصواتٌ بلا وجوه. أصواتٌ مبنّجة. مثل الماضي المتجمِّد في الزمن. مثل جمود الحاضر في ساعةٍ معطلة.
******

الوقت صلبٌ كحجر في رجمة حجارة. كبيروت نُبصرها من نافذة طائرة، من تلة عالية قريبة، من برج شاهق في وسطها. كبقايا إهراءات لمرفأ في صورة بانورامية.

وقتٌ كالقطنِ عقيمٌ أملسَ، وينقضي سريعاً، عدمياً، ثقيلاً كطابة معدنية في العدم، في فراغٍ أفرِغتْ منه قوة الجاذبية. فراغ ضبابي نمكثُ فيه، ونتحرك بطيئاً بطيئاً حركاتٍ آلية. لا صوت، لا صدىً، لا أحد، ولا شيء. ظلالُ وجوه هاربة وتتبدد في الفراغ والعدم.

وقتٌ قليل وضئيل. بليدٌ وبارد كجثة. جثة غير مادية. فكرة جثة. جثة لم تمت. جثة حيّة، تسعى، تفكّر، تبصر وتسمع، تأكل وتقضي حاجاتها، تنام وتحلم وتستيقظ وتغسلُ وجهها وأسنانها، تشرب القهوة والشاي، تدخن، وتبعثُ رسائل صوتية ونصيّة. وفي آخر المساء تستحم وتأوي إلى النوم. تأرقُ أحياناً، فتتخيل أنها تتناول كأساً من الحليب الصباحي على شاطئ بحيرة ساكنة.
******

نعم، هذا هو الوقت. جدارية وقتنا. جدار الوقت الذي نرميه بطاباتٍ معدنية تتلقفها أكوام من القطن.

من قال إن الوقت بطيء في العزلة؟!

الوقتُ في العزلة ليس وقتاً. وقتٌ قبل أن يعي الإنسان الوقت. قبل أن يُكتشفَ الوقت أو يخترع الوقت. وقتٌ صامتٌ تقريباً. كهواءٍ قطنيّ. كالصمت في الزجاج، كصمت زجاجي.

لا، ليس الوقتُ بطيئاً في الصمت والعزلة، بل خاطفٌ كمنام. وحين نصحو من النوم يصير البيت آلة وقت معطلة، صدئة، ومليئة بالنسيان. بلا ألم ولا ندمٍ. بلا مصادفة ولا حادثة. مثل ثيابنا في الخزانة، على المشاجب وحبال الغسيل. مثل أحذيتنا الفارغة. مثل أيدينا الكفيفة العسراء، نتركها إلى جانبنا مستوحشةً خاوية. مثل أصواتنا القليلة، كلماتنا القليلة، حركاتنا القليلة في مرآةٍ ضخمة مُكَبِرة.
******

كأنما صار البشر جميعاً في أعمار متساوية. كائناتٌ بلا أعمار. كائناتٌ مسنّة بلا ماضٍ ولا أعمار ولا ذكريات، ومتجمدة في الحاضر.

بشرٌ شبحيون في عالم شبحي.

بشرٌ منسيون يصنعون أخباراً عن الخوف والعزلة والوباء والموتى اختناقاً في الصمت والعزلة على أسرّة المستشفيات. أخباراً عن الزحام على أسرّة المستشفيات. عن الموتى الأرقام. عن الحياة وقد صارت إحصاءاتٍ يومية. عن موتى يُدفنون بصمتٍ، في الصمت، بلا عزاء ولا حداد. عن حياة صارت كلها وراءنا وانقطعت أخبارها وامّحت.
******

حياة مثل لبنان ومستقبل لبنان.

مثل كلمات جبران باسيل، وعصبة الفتيان الذين يتحلقون حوله، فيما هو يطلق الكلمات مفتوناً بنفسه، كطفل معجزة.

كـ"بعدِ ظهر نبيذ أحمر وخطأ كبير" (محمد العبدالله).

مثل بيروت في صباح بعد ليلة من القصف العشوائي الكثيف.

مثل صيف 1982. وحرب تموز 2006.

حياة كصخرة في الرأس

كأفعى في الظلام.