وراحت عليا تقلب الأمر في رأسها، وتحاول إقناعه بالبقاء في مدرسته الرسمية، رغم اقتناعها المزمن بأن لا عام دراسياً في هذه المدارس، أسوة بالسنتين الماضيتين. ففقر الحال هو دافع الأم الأول في محاولتها ثني عيسى عن أفكاره "الشيطانية" في هذا الصباح الباكر. وهي في قرارة نفسها مقتنعة بأن قراره صائب، وينم عن ذكاء وحسن تدبر. فهو في الصف الثالث ثانوي، ويخاف ضياع هذا العام عليه وعدم التحاقه بالجامعة.
ومنذ سنوات عدة تعاني عليا من الاضرابات التي يقوم بها أساتذة التعليم الرسمي. وقد مرت أكثر من سنة لم يتعلم فيها الطلاب إلا القليل. ومنذ سنتين لم يتعلم أولادها في المدرسة الرسمية (ثانوية البزري في صيدا) شيئاً، أسوة بباقي المدارس والطلاب. وقد استفاقت في الصيف الفائت على كارثة عدم تمكن ولديها من التعليم من بعد، عندما بدءا بالاستعداد لإجراء الامتحانات. لذا استعانت بأستاذين خصوصيين لتعليم أولادها ما فاتهم من دورس، لتكتشف أن الولدين سيرسبان حتماً. وحاول الأستاذان ما بوسعهما لإنقاذ ولديها، فرسب واحد ونجح عيسى.
لكن نجاح عيسى وذكاءه تحول إلى مصيبة على عليا. فذكاؤه قاده إلى التفكير بحنكة للخلاص من المدرسة الرسمية والذهاب إلى مدرسة خاصة، كي ينجح ويحقق علامات عالية في الامتحانات الرسمية. وقد سبقه معظم رفاقه في الصف في هذا الخيار، فتسجلوا في أكثر من مدرسة خاصة في صيدا.
في البداية كان ينظر إلى نفسه ووضع عائلته ويصمت. عاش صراعاً في التفكير بمستقبله. وردد في قرارة نفسه: "سنة واحدة وأنتهي". وقرر مفاتحة والدته بما يفكر، ودار شجار بينهما.
وما تعانيه عليا في منزلها ليس حالة فردية. فقد تبين أن جميع رفاق ولدها انتقلوا إلى مدارس خاصة، رغم أن الأوضاع المادية للبنانيين تدفعهم إلى هجرة معاكسة من التعليم الخاص إلى الرسمي. لكن الوضع في الصف الثالث ثانوي مختلف، لأنه المرحلة الانتقالية إلى الجامعة. وهذا ما دفع هؤلاء الطلاب إلى التفكير بهذه الحيلة للخلاص من مصير مجهول هذا العام. فهم خائفون من عدم انتظام العام الدراسي في المدارس الرسمية وأن يمضي الأساتذة العام المقبل بإضرابات لا تنتهي، في ظل الانهيار الحالي وعدم قدرة الدولة على تحسين رواتبهم.
ولعليا أخت معلمة في القطاع الرسمي بإحدى الثانويات في بيروت. وراحت عليا تؤنب شقيقتها على تعطيل الأساتذة المستمر في المدارس الرسمية، والذي أضاع على ولديها عامين دراسيين.
"القطاع العام، القطاع العام، ما بالكم يا موظفي القطاع العام، تعلمون أولادكم في المدارس الخاصة وتضربون عن تعليم أولادنا"، قالت عليا لشقيقتها المعلمة. وأمطرتها بسيل من الأسئلة حول المنح الدراسية التي تلقوها وسلسلة الرتب والرواتب والأمان الوظيفي وزبائنية التوظيف وعشوائيته في دولة منهوبة ومفلسة لا موارد فيها. ثم أضافت: لماذا تعلمون في المدارس الخاصة ساعاتكم الإضافية ولا تريدون العودة إلى الصفوف لتعليم أولادنا؟ لماذا تقبلون التعليم في المدارس الخاصة بلا أي زيادة على ساعات عملكم، وترفضون التعليم في المدارس الرسمية، حيث وظيفتكم الأساسية؟
وما تقوله عليا يشي أن الصراع الذي يفترض أن يكون بين الأهل والسلطة وأحزابها، انتقل ليصبح صراعاً بين الأهل والأساتذة. فبعد سنتين من إقفال المدارس وخوف الأهل على أولادهم بات الأستاذ عدوهم الأول، لا السلطة السياسية وأحزابها التي دمرت القطاع العام والتعليم الرسمي بالتوظيفات العشوائية والزبائنية وشراء الذمم والولاءات. وهي تعتقد أن الأساتذة هواة تعطيل وعطالة لأنهم موظفون في القطاع العام.
وطوال السنوات الفائتة كانت تفتتح مدارس في مناطق نائية بملايين الدولارات، بني معظمها لبضعة طلاب في تلك القرى، من أجل الهدر والفساد. فترى مدرسة بطبقات أربع وملاعب ضخمة في قرية صغيرة ليس فيها أكثر خمسين طالباً، ويوظف لتعليمهم خمسون أستاذاً. وهذا جزء بسيط من الهدر والفساد في قطاع التعليم.
وفي السابق لم يكن ظهر لبنان مكشوفاً كما حصل في السنتين الفائتتين، عندما استفاق الجميع على حقيقة الدولة -الأحزاب التي كانت تستدين من المصارف، وبالتواطؤ معها، لتنفق على هدرها وفسادها وعشوائية توظيفاتها.
ولم تلتفت عليا إلى أن الأستاذ مجرد موظف وبات راتبه لا يكفي لإعالة أولاده ويستحيل عليه الذهاب إلى المدرسة في ظل غلاء المحروقات. لكن عليا معذورة كأم ترى أبناءها إلى جانبها في البيت بلا علم، فيما أولاد أساتذة القطاع العام بدأوا دراستهم في المدراس الخاصة. فكيف لا يصبح الأستاذ عدوها؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها