منذ سنة أطلقتم صرخة أن التعليم العالي في خطر. والتقيتم كبار المسؤولين. ثم لجأتم إلى قرارات "غير شعبية" في موضوع التقشف والأقساط. وبعد تفاقم الأزمة والانهيار، أين أصبح التعليم العالي؟
اليوم بات الوطن كله في خطر. التعليم بكل مندرجاته في خطر. والصحة في خطر. ولا معنى للبنان من دون علم وثقافة وصحة. انهارت المصارف، لكن لبنان ليس مصارف، بل جامعة الشرق ومستشفاه. وهذا رصيده المتبقي، وإذا انتهى ينتهي كل شيء.
أطلقنا صرختنا ولم يتحرك أحد، فتحملنا المسؤولية كرابطة جامعات خاصة أمام الخطر الذي يحيق بالتعليم العالي في ظل عدم اهتمام الحكومة والمسؤولين. أدركنا منذ البداية أن قدرة اللبنانيين على تحمل الأعباء المعيشية باتت صعبة جداً، قبل مسألة دفع الأقساط الجامعية. ولأننا نظاميون، أردنا التعامل مع الواقع بشكل نظامي وعدم ترك الأمور تتفاقم. وهذا من خلال تحركنا نحو الحكومة والمعنيين لمعالجة أسعار الأقساط. فسّرنا للرئيس حسان دياب ووزير المالية المشاكل، كي يصار إلى إلزام المواطنين الذين يعملون في الخارج بالدفع بالدولار، ومن هم في البلد يدفعون بالليرة اللبنانية. بمعنى آخر، دعونا إلى اتخاذ قرار للوصول إلى حل نظامي. لكن للأسف لم يتحرك أحد. فقررنا اعتماد سعر صرف المنصة للأقساط.
أما في ما يتعلق باللقاءات مع المسؤولين، فتوقفت عنها منذ سنة تقريباً. اعتقد أنها مضيعة للوقت. نلتقط الصور معهم ولا يحركون ساكناً بعدها.
نحن في غنى عن التقاط صور لاقتناص الفرص. نعمل بما يمليه علينا واجبنا. نتعاون مع كل الذين يأتون إلى الحكم حتى لو كانوا مخلصين للبلد بنسبة عشرة في المئة. وتعاونا بشكل كامل مع وزارات الصحة والدفاع والداخلية في حملة التلقيح وفي تلقيح السجناء ونجحنا. ولدينا القدرة والطاقة ونرغب بخدمة البلد ونساعد عندما يطلب منّا. وها نحن نجري حالياً دراسات لمساعدة طلاب أبناء القوى الأمنية في مجال التعليم.
لكن إلى أين نحن ذاهبون في لبنان؟
اعتقد أن الدولة تخلت كلياً عن مسؤوليتها. خارج موضوع الأمن، الدولة غير موجودة. ولا يمكن أن ندير وطناً من دون دولة. نريد الدولة لكن على المسؤولين التعامل بمرونة لتحقيق حلم الدولة. فثمة طاقة إنسانية هائلة لم تهاجر البلد. رغم الذل والمهانة اليومية ترفض هذه الطاقات ترك البلد. نعم لقد خسرنا خيرة الكفاءات من أساتذتنا، لكن الأغلبية ونخبة النخبة ما زالت متمسكة بالبلد. والمطلوب أن نعمل على انقاذ ما تبقى.
كنتم أول جامعة تلجأ إلى خطة تقشف قاسية، وصرفتم من العمل عدداً كبيراً من الموظفين. اليوم الوضع إلى مزيد من الانهيار. هل من خطط تقشفية إضافية؟ ماذا ستفعلون؟
عندما لجأنا إلى ذلك القرار الصعب، لم نكن مسرورين. كنا نعمل على مشروع المستشفى الجديد ووظفنا كثيرين في السنوات السابقة في انتظار الانتهاء من هذا المشروع الواعد. لكن أدركنا منذ نهاية العام 2019 و2020 أن انهاء هذا المشروع بات صعباً للغاية في ظل الانهيار. لقد صرفنا 600 موظف و240 خرجوا إلى التقاعد المبكر بالتفاوض مع الإدارة، أو لم نتمكن من تجديد العقود لهم. لكن لا أحد يلتفت إلى أن عدد الذين خسرتهم الجامعة بعد انفجار المرفأ أكبر بكثير. لقد خسرت الجامعة نحو 200 أستاذ وطبيب من الكفاءات العليا، تركوا الجامعة نهائياً أو طلبوا إجازات غير مدفوعة بعد انفجار المرفأ، لأنهم فقدوا الثقة نهائياً بالبلد. وهذا يعني أن أثر الانفجار على الجامعة والضرر الذي خلفه أكبر بكثير من خطة التقشف التي لجأنا إليها. أجرينا حسابات كثيرة لخطة التقشف، ولم نحسب للانفجار أي حساب. فنحن لم نكن نعلم بوجود النيترات في المرفأ، مثل غيرنا.
لكن سنعمل على إعادة من يرغب من الأساتذة لأننا لا نستطيع أن نعطي إجازات مفتوحة إلى أبد الآبدين. ووضعنا مشروعاً ممولاً بـ150 مليون دولار على ثلاث سنوات لرفع رواتب الأساتذة وتخصيص جزء بالدولار وأعلناه سابقاً. هي خطة مستدامة لثلاث سنوات. ونتطلع إلى مشاريع خارج لبنان كي نبقى في هذا البلد. ولن نترك لبنان. نحن راسخون فيه. نحن أقدم وأهم قيمة مضافة معنوية وأخلاقية للبنان من كل الأحزاب مجتمعة. ليتركوا هم البلد ونحن باقون. ولن يدفعنا الإرهاب والزعرانات وقلة المسؤولية إلى ترك البلد. وسنستمر في تعليم أبنائهم مهما قالوا عنا.
كنتم أول جامعة تلجأ إلى رفع الأقساط من خلال اعتماد سعر صرف 3900 ليرة. ولجأ طلاب إلى القضاء وحصلت إشكاليات قانونية بينكم وبينهم في سابقة تاريخية. كيف أثر رفع الأقساط على الاطلاب وعلى التسجيل في الجامعة؟
ما حصل مع بعض الطلاب كان زوبعة في فنجان ليس أكثر. بعض الطلاب أقوياء ولديهم معنويات مرتفعة. لكن 99 في المئة من طلاب الجامعة دفعوا الأقساط على سعر 3900 ليرة للدولار. أي أقل من مئة طالب لم يدفعوا من أصل 8500 طالب. علماً أن كثراً منهم أهلهم مرتاحون مادياً. لقد لجأوا إلى تلك الخطوات عن قناعة. وهذا حقهم، رغم أنها معيبة. لم يسألوا أنفسهم ماذا يمكن أن يشتري المواطن بـ1500 ليرة اليوم.
كل الطلاب سددوا الأقساط. وارتفع عدد الطلاب المسجلين هذه السنة، ورفعنا عدد المنح والمستفيدين. لقد رفعنا الدعم للطلاب إلى أكثر من تسعين مليون دولار. و60 في المئة من طلابنا لديهم منح، وبمعدل وسطي يصل إلى نحو خمسين بالمئة من قيمة الأقساط. والأخيرة كانت في السابق تساوي نحو 229 مليون دولار وباتت حالياً نحو 29 مليون دولار فقط. وبمعزل عن هذا الأمر، رفع الأقساط ساهم في تمويل رفع رواتب الأساتذة والموظفين. وقد لا يعلم البعض، لكن يجب أن تقال: الدولة اللبنانية أكبر موظّف من خلال الجامعة اللبنانية، والجامعة الأميركية هي ثاني أكبر موظّف في لبنان. وتساهم الرواتب التي تقدمها الجامعة ليس بإعالة الموظفين وابنائهم، بل عائلاتهم الكبيرة، في وقت بات أكثر من 60 في المئة من الشعب اللبناني تحت خط الفقر.
وعلينا أن لا ننسى أن نحو 30 في المئة من طلاب الأميركية يأتون من خارج لبنان بين أجانب ولبنانيين، ويعمل أهلهم في الخارج. مدخولهم بالدولار لكن يدفعون الأقساط على سعر الصرف الرسمي. طلبنا منهم أن يدفعوا بالدولار كي يساهموا في مساعدة أقرانهم اللبنانيين، لكن نحو واحد في المئة منهم التزم. لذا ستكون هذه السنة الأخيرة، ويجب عليهم المساهمة ودفع القسط بالدولار. هناك فرق بين أهالي الطلاب الذين يعيشون في لبنان ورواتبهم باتت متدنية، وبين الذين يعملون في الخارج. سنفرض عليهم الدفع بالدولار.
قمتم بتلقيح الطلاب وأهل الجامعة للذهاب نحو التعليم الحضوري. لكن يوجد أزمة محروقات تنعكس على الجامعة والطلاب. هل أنتم مستمرون بخطط التعليم الحضوري؟
العودة للتعليم الحضوري لا يأتي خبط عشواء. علينا أن نكون واقعيين كي تعود الحياة إلى طبيعتها. لا يمكن العودة إلى الصفوف قبل تحقيق نسبة مناعة تفوق 85 بالمئة، كي لا نقع في مشكلة صحية كبيرة. فعدد الطلاب كبير ولدينا مجمع جامعي واحد. ولدينا عدد موظفين أكبر من أي جامعة أخرى بمرات عدة. ندرك أن العودة للتعليم الحضوري ضرورية بعد سنتين من التعليم من بعد. لكن الطلاب ليسوا بمأمن عن الأعراض الخطرة لكورونا، وعلينا تحمل المسؤولية وتخفيف الخطر على الجميع.
تعليم حضوري متدرج
وترك خوري الكلام لوكيل الشؤون الأكاديمية في الجامعة البروفسور زاهر ضاوي لشرح خطة العودة إلى التعليم. وأكد ضاوي أن الجامعة اعتمدت طريقة تدرجية في العودة إلى التعليم الحضوري في الفصل الحالي، موضحاً أنه قبل أن تستفحل أزمة المحروقات اتخذت الجامعة قراراً بالعودة التدريجية لدواعي صحية بما يتعلق بوباء كورونا.
وشرح أن الجامعة لجأت إلى تلقيح الأساتذة والطلاب والموظفين لتكون العودة آمنة. وقضت الخطة بانتظار تلقيح أكثر من تسعين بالمئة من أهل الجامعة وعدم المخاطرة في فتح الصفوف قبل الوصول إلى هذه النسبة من المناعة. وذلك في غضون نهاية شهر آب. وتقرر أن يكون شهر أيلول للتعليم من بعد. وأتت أزمة المحروقات لتبرهن أن القرار كان صائباً في هذا الشأن أيضاً.
لكن هل يتكمن الطلاب من المتابعة في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت؟
أكد ضاوي أن المحاضرات خلال أيلول كلها من بعد وستكون مسجلة كي يتسنى للطلاب العودة إليها في حال لم يتمكن أي طالب بسبب الكهرباء والإنترنت من المتابعة مباشرة. لكن بما يتعلق بالمحاضرات التطبيقية في كليات الطب والهندسة وغيرها التعليم حضوري. والامتحانات حضورية في الجامعة. ويستطيع الطلاب الحضور إلى الجامعة لمتابعة الدروس من بعد لأننا خصصنا أماكن للدرس لتجنب مشاكل الكهرباء والانترنت في بيوتهم. لكن في مطلع تشرين يعود التعليم حضوري. ووفق تحرك أزمة المحروقات سنتخذ القرارات المناسبة. لقد مرت الجامعة بأسبوع من دون وجود محروقات وأوقفنا المكيفات. وفي حال صادفنا الأزمة عينها لاحقاً ننتقل إلى التعليم من بعد موقتاً. أي سنتأقلم مع الواقع. لكن لن نستسلم وسنعمل المستحيل لأن الجامعة ليست محاضرات ودروس، بل علاقات وتجارب وتفاعل الطالب مع محيطه.
ختاماً، يبدو أن لبنان لن يخرج من أزمته في السنوات العشر المقبلة. ولن تعود مداخيل المواطنين كافية لتعليم الأبناء. ويقال إن البعثات قد تلجأ إلى تقليص حجمها بما يتماشى مع واقع اللبنانيين. هل تقلص الأميركية حضورها وتفتح أبوابها للقادرين على دفع الأقساط بالدولار حصراً؟
بداية، البنك الدولي يقدر أن قيمة الدولار في لبنان تتراوح بين ست وسبعة آلاف ليرة لبنانية. لكن حالياً نحن في انهيار مالي واقتصادي ولا ثقة بالدولة، وهذا ما يجعل سعر الليرة غير مستقر. أما في حال شكلت حكومة وعمل المسؤولون بإخلاص للبلد سترتفع قيمة الليرة.
لا يمكن أن أتخيل أن نكون الجامعة الأولى في لبنان ونحصر دورنا في الطلاب اللذين يدفعون بالدولار. نحن لا نفضل أبن الأمير على بنت الفقير. نريد أن نعلم الجميع. لكن من يحصّل مداخيل بالدولار عليه دفع الأقساط بالدولار، كي نحافظ على التوازن في المجتمع. في أي مجتمع ديموقراطي لا يمكن فرض الضريبة عينها على الفقراء والأغنياء. حافظنا على مستوى الجامعة في العالم العربي والعالم وسنستمر ونعلم الجميع.
نحن وجامعة القديس يوسف علينا أن نفكر ماذا يعني أن نقلص حجمنا ودورنا ونتخلص من أكثر من نصف الطلاب. هذا يعني أن أيماننا بلبنان خفت.
نحن نعتقد أن إيماننا في البلد أقوى من غيرنا. وعزيمتنا في البقاء أيضاً. وبرهنا عن هذا الأمر. لقد مرت على الجامعة كل الحروب والصرعات الأهلية منذ ما قبل نشوء لبنان، واستمرينا في أداء رسالتنا في هذا البلد. وطببنا وعلمنا الجميع. وسنستمر في تأدية دورنا ونوسع حضورنا، وسنفتح مجمعات جامعية في الخارج تكون على تواصل مع لبنان، تمكننا من مواجهة الأزمات.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها