الأحد 2020/08/30

آخر تحديث: 17:59 (بيروت)

عُظامُ القوة الشِّيعي وغضب السّنّة الخاوي والهوس المسيحي بالرئاسة

الأحد 2020/08/30
عُظامُ القوة الشِّيعي وغضب السّنّة الخاوي والهوس المسيحي بالرئاسة
هل اكتملت فصول الكارثة اللبنانية؟ (Getty)
increase حجم الخط decrease
كان شاب من زمرة سلاح "الثنائي الشيعي" للدراجات النارية، يقود دراجته بسرعةٍ عاصفة في شارع داخلي من شوارع زقاق البلاط، فصدم بدراجته سيارتي وتحطّم جراء الصدمة القوية دفاعا كلٍّ من السيارة والدراجة الأماميين. وسرعان ما التمَّ حولي ما يزيد على 15 شاباً من شبان ذلك السلاح، الذي يعلم سكان بيروت وخبروا منذ سنين ماذا يفعلون وما هي المهام التي توكل اليهم في الأحياء والشوارع. وبعد نحو ربع ساعة من تحلّق شبان الزمرة حولي واحتجازي في سيارتي، لم أصدّق وما أدركتُ لماذا اكتفى شاب الصدم والأوشام على صدره وكتفيه وساعديه، بأن يطلق سراحي لقاء أن أدفع له مئتي ألف ليرة فقط. وأمر فتىً من زمرته أن يتبعني بدراجته النارية لأسحب له المبلغ الذي لم يكن بحوزتي، من صراف آلي لفرع مصرف فوق نفق سليم سلام القريب من زقاق البلاط.

انقلاب الأدوار والمعاني
صعدتُ إلى سيارتي وشغّلت محركها وانطلقت بها متمهلاً، غير مصدقٍ أن ورطتي انتهت بهذه السهولة، وموقناً أن فصلاً آخر منها غامضاً سيفاجئني قبل خروجي من زقاق البلاط.

محدقاً في مرآة السيارة الصغيرة العليا أمامي، رحتُ استطلع سَيْر فتى الدراجة خلفي في منعطفات الشوارع. مشاعر وأحساسيس متدافعة ومتناقضة تنتابني: تجربة ممضّة قد تشرف على نهايةٍ لم أكن أتوقعها بهذه السهولة. بقايا توتر وخوف ومهانة لا تزال قوتها تنهك جسمي. وفتىً لا أعرفه وبالكاد لمحت وجهه، يسير خلفي على دراجته، وأسير أمامه بسيارتي صاغراً، أخشاه وأتواطأ معه على ما يشبه اعتقالي، لأدفع له مئتي ألف ليرة، كي ينصرف عني ويعتقني ويخلي سبيلي.

وانعطفت بسيارتي نحو الأوتوستراد الصاعد من وسط بيروت، في اتجاه نفق سليم سلام، ثم تفقدت في المرآة أمامي فتى الدراجة خلفي، فأبصرته ينعطف ويتبعني، وأبصرت فوهة النفق أمامي خالية من السيارات تقريباً. فجأة، وبلا قرارٍ مسبق، وجدتني أنطلق بسرعة هائلة نحو الفوهة، بدل أن التزم السير بطيئاً إلى يمين الأوتوستراد، لأصعد في الشارع المتفرع منه والصاعد فوق النفق. ها أنا أفرُّ، إذاً، فرار من اقترف ذنباً أو فعلة شائنة، وكأنما فتى الدراجة النارية هو سيف الحق والعدل اللذين أفرُّ منهما. ولاحت مني – أنا المتهم الهارب - التفاتةٌ أخيرة إلى مرآة السيارة أمامي، لأبصر إن كان فتى الحق والعدل وسيفهما يطاردني. لكنني أبصرتُه ينعطف بدراجته، ويعود أدراجه عازفاً عن مطاردتي، فتوغلتُ في النفق بسرعةٍ عاصفة، فيما عصفت بجسمي وحواسي موجة من التوتر الصاخب العنيف يمازجها خوف، جراء انقلاب شعوري بأنني معتقلٌ صاغرٌ ومستسلم بلا مقاومة، إلى صيرورتي هارباً مطارداً، ليس تهرباً من دفع خوّة المئتي ألف ليرة، ولا عن إرادة مبيّتة في الفرار. بل ربما عن دافعٍ تلقائي مفاجئ بالانتقام لنفسي من مهانة الاعتقال التي تورطتُ فيها. وقد تكون عزّزت هذا الدافع السرعةُ التلقائية المعتادة في قيادة السيارات على الطرق السريعة التي تبعث شعوراً بالتحرر من البطء والوقت والمكان والظروف الوضعية في الطرق الداخلية، والانشداد إليها.

وما إن خرجتْ سيارتي من النفق في اتجاه المدينة الرياضية، حتى ضاعفتُ سرعتها على الجسر المتحلق فوق مستديرة الكولا، فلم يخمد شعوري بالخوف وبأنني مطاردٌ، وبالفرار تحرّرتُ من المطاردة. وقرب المدينة الرياضية انعطفت على الأتوستراد عائداً في اتجاه الكولا، فركنت سيارتي في موقفها العمومي المشترِك فيه منذ سنوات كثيرة، خلف محطة للمحروقات، على مسافة مئة متر من بيتي ومن جامعة بيروت العربية، في طرف الطريق الجديدة الغربي.

طمأنينة شقاق الهويات
ما إن أطفأت محرّك سيارتي حتى حلّ علي شعور مفاجئ بالأمان، فاسترخيتُ قليلاً، وتلاشى بعضٌ من ذلك التوتر الشديد الذي كان يتشبث بي قبل هنيهات في هروبي من فتى الدراجة النارية، الذي عاد خائباً إلى ديرته في زقاق البلاط. وانتبهتُ إلى أن عزوفه عن مطادرتي وخيبته، مصدرهما يقينه وأمثاله أنهم لا يقوون على اللحاق بطرائدهم إلى ديار الأعداء في الطريق الجديدة.

ربما للمرة الأولى يراودني مثل هذا الشعور المفاجئ، الغريب والفياض، بالطمأنينة، فور وصولي إلى المنطقة التي أقيم فيها منذ العام 1982. كأنما ذلك الزمن المديد من الإقامة لم يمنحني مثل هذا الشعور الذي أعيشه الآن، ولم يحدث إن عشته قط في تلك السنين الطويلة، فور وصولي المعتاد إلى موقف سيارتي. ولربما كان ذاك الشعور يراودني من دون أن انتبه إليه، كأنه عادة منسيّةٌ. لكن الآن، بعد تلك الحادثة في زقاق البلاط وفراري من تبعاتها، صار لشعوري بالأمن والطمأنينة في منطقة إقامتي، طعمٌ ومعنىً آخران مختلفان تماماً.

كأنني للمرة الأولى أنتبه إلى أن أهل هذه المنطقة والشارع الذين أعرفُ بعضهم معرفة عابرة لا تتجاوز تبادل التحيات العابرة، يمنحونني وتمنحني هويتهم الأهلية والطائفية الحمايةَ والأمان. وكأنني إليهم كنت أفرُّ مطارَداً خائفاً من فتيان الدراجات النارية في زقاق البلاط.

وترجلتُ من سيارتي، وسرت خطوات في موقف السيارات، منتبهاً إلى أنني استمدُّ شعوري بالأمان والحماية من شِقاق الهويات الطائفية وعداواتها المقيمة بين أحياء بيروت. لكن هيهات أن يطوي شعوري المفاجئ هذا نفوري المزمن، الدفين والمنسي، من إقامتي في الطريق الجديدة ومن هويتها الأهلية الطائفية. وهو نفور حيّ وعقيم يلازمني، فأداريه وأطويه على مضض، وصار أخيراً مثل نفوري من لبنان وحياتي القدرية فيه، لكن ليس هنا مجال الكشف عنه وعرض معايشي إياه كجمرة خبيئة في وعيي وحواسي. جمرة تخبو أحياناً وتنطفئ، ثم تشتعل فجأة تحت رماد حياتي اليومية. وها حادثة زقاق البلاط الصغيرة العابرة، وسلاح فرسان دراجاتها النارية، والحدود الطائفية الصلبة بين ذاك الحي الشيعي ومنطقة إقامتي في الطريق الجديدة السنّية، تقلبُ لهنيهات عابرة ذلك النفور ومعاييره لديْ، أنا غريب الهويات وطريدها في لبنان. فإذا بي أجدني، من دون سابق إرادة وتصميم مني، أشعر بالأمان والحماية، فور وصولي إلى ديرةٍ وحمىً طائفيين، فاراً من ديرة وحمى طائفيين آخرين معاديين، ولا تتجاوز المسافة بينما عشرات الأمتار.

يا لهذه المفارقات القدرية العبثية التي تتشبث بالحياة اللبنانية.

هذا هو لبنان والعيش في لبنان الذي جعل أهله الفسوخ والشقوق والحدود والتنافر والعداوة والتسويات الموقتة بين هوياتهم المتنافرة، سبيلهم الممكن والوحيد إلى عيشهم وتعايشهم في دولة قد تكون الوحيدة بين الدول المجاورة، استمرت على الاعتراف بتلك الفسوخ والشقوق والحدود بين الهويات الأهلية والطائفية، وكرّستها دستوراً للتعايش "الوطني" الصعب، وبيّنت الظروف والحوادث أنه عقيم إن لم يكن مستحيلاً.

لبنان هانوي الأسد وحزب الله
كانت تلك الفسوخ والشقوق والحدود اللبنانية، قد أخذت تنزاح جانباً بفعل عوامل الاختلاط الطائفي المديني البيروتي ما بعد حوادث 1958 وحتى غداة حرب حزيران 1967 العربية - الإسرائيلية. لكنها سرعان ما راحت تنبعث وتتضخم وتتصلب بعد هزيمة العروبة الناصرية في تلك الحرب، فبلغت ذروتها إبان تدفق السلاح والمال العربيين على الفلسطينيين في مخيمات لجوئهم البائسة بلبنان، تكفيراً عن تلك الهزيمة وانتقاماً أو ثأراً منها، مخاتلاً ومراوغاً في لبنان ومن لبنان، لأنه دولة هشّة وضعيفة في معايير القوة العروبية وقيمها، ولم يشارك مسيحيوه - الذين قال أحد زعمائهم اللبنانيين مرة حكمته الشهيرة: "قوة لبنان في ضعفه" - العربَ المسلمين شعورهم بـ"المظلومية التاريخية" التي حلت بهم منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، وبلغت ذروتها إيان "نكبة فلسطين" سنة 1948، ثم في حزيران 1967.

وبعدما أنشأ الفلسطينيون منظماتهم المسلحة في الديار اللبنانية، ووالاهم المسلمون اللبنانيون وآزروهم في ذلك، وانخرط بعض شبانهم في تلك المنظمات، صارت منطقة الطريق الجديدة وجامعة بيروت العربية عقب "اتفاق القاهرة" في العام 1969، كعبة الثورة الفلسطينية ومحجّتها العربية والدولية. وسرعان ما انفجرت في لبنان حروب أهلية إقليمية - دولية متقطعة دامت 15 سنة.

وفي أيار 1973، كنتُ واحداً من مئات الفتيان والشبان والطلاب المسلمين السنة والشيعة والمسيحيين اللبنانيين اليساريين الثوريين المشاركين في تحرير الأحياء الإسلامية البيروتية من سلطة الدولة اللبنانية وجيشها "العميلين للاستعمار والرجعية"، كي يتحرر لبنان من المقولة المسيحية "قوة لبنان في ضعفه"، فيصير قوياً باستيلاء المنظمات الفلسطينية المسلحة الفوضوية على تلك الأحياء، وعلى قرار الدولة اللبنانية السياسي والأمني، ليصير "هانوي العرب". لكنه بعد 15 سنة صار مرتعاً لنظام حافظ الأسد السوري، فأرسى فيه نظام حرب أهلية باردة، بناء على "اتفاق الطائف" الذي راح النظام الأمني الأسدي يُديره إدارة خبيثة ولئيمة، ساعدته في تمويل نظامه وحمايته واستمراره في سوريا، وتوريثه لابنه من بعده.

وعاش اللبنانيون عقوداً على شقاقهم الذي عمّقه بينهم نظام الأسد الغاشم: طوائف منهم وفئات أذعنت له ووالته على مضض، وأخرى حاولت مقاومته واستقوت عليه وعلى المنظمات الفلسطينية بالجيش الاسرائيلي. وبعد احتلال ذاك الجيش بيروت صيف 1982، أنشأ نظام الأسد بالتكافل والتضامن مع إيران الشيعية الخمينية أشرس منظمة توتاليتارية عسكرية وأمنية شيعية في تاريخ لبنان الحديث. وطوال 15 سنة ما بين العام 1990 و 2005، واظب اللبنانيون على شقاقهم صاغرين. فتسابق كثيرون منهم على الإذعان للأسد والتمسُّح على أعتاب سلطان ضباطه الأمنيين، لنيل حظوتهم والاستقواء بهم على منافسيهم اللبنانيين في التمسح والحظوة. ولما أُخرج الأسد وجيشه وأجهزته الأمنية من لبنان في العام 2005، سلكت المنظمة الأمنية والعسكرية الشيعية الخمينية سلوكه في الترويع والإخضاع، فاستطاعت أن تبزّه وتتفوق عليه في لبنان، بعدما ساعدته بقوة في تحويل ثورة السوريين على نظامه الأمني إلى مذبحةٍ قُتِل فيها مئات الألوف وشُرّد الملايين ودُمرت ديارهم.

وها هي المنظمة الشيعية الإيرانية في لبنان ترث منفردة إدارة شقاق اللبنانيين، وتتعملق وتصبح منظمة إقليمية ودولية عُظامية، وتصدّر خبراتها ومقاتليها إلى حطام الدول والبلدان المجاورة وركامها، مزهوةً ببطولاتها وصلفها ومقاتِلها على الركام اللبناني وخوائه.

هوس طفلي مسيحي بالرئاسة
وحين أفلس لبنان مالياً واقتصادياً في العام 2019، ذهبت المنظمة إياها بعيداً في عُظام انتصاراتها، فدعى مرشدُها التلفزيوني اللبنانيين إلى علاج فقرهم وبؤسهم الزاحفين بـ"الجهاد الزراعي"، ليتفرغ جيشه السري إلى جهاد فارسي دولي، وحده جهاد الحق الإلهي الصرف، تاركاً لسائر خلق الله جهاد النساء والحريم البيولوجي في سبيل المأكل والملبس وسائر الحاجات الدنيوية التافهة.

أما صاحب "ورقة التفاهم" المسيحي مع المنظمة الشيعية الفارسية لخدمة جهادها، فكان في مقابل تحقيق هوسه الطفلي برئاسة الجمهورية اللبنانية، ليغفو على كرسيِّها في خريف عمره ويستريح في نهاية مسيرته المجيدة المدمرة، ويورِّث ذلك الهوس المديد لصهره.

وها هو الصهر ذاك الذي يحسب أنه وُلِد وفي فمه ملعقة من ذهب، يُطلق لسانه داعياً أهل الدساكر المسيحية إلى تقطير وطنيتهم اللبنانية التاريخية عرقاً ونبيذاً من كرومهم، لانتشال اقتصادهم ودولتهم من الإفلاس والزوال. وما كان منه إلا أن حمل معولاً وراح ينكش به أرضاً بائرة في صيف قائظ. والتقط لمشهده هذا صورة ظهر فيها متدلهاً يتدلع على مثال فنانات الفيديو كليب. وكان زميلٌ له في رهطه قد دعا أهل الأشرفية إلى تربية طيور الفرّي في بيوتهم، لتبيض لفطورهم الصباحي المرفّه بيوضاً طازجة، فيساهمون بذلك في الانتقال من الاقتصاد الريعي الاستهلاكي المقيت، إلى الاقتصاد الوطني المنتج.

ثم وزّع الصهر الرئاسي، وفلاح منتجعات فقرا، صورته على وسائل التواصل، داعياً مشاهديه المفلسين الخائفين إلى أن يحذوا حذوه، ويحملون معاولهم مثله متدليهن في استنبات أرضهم مثل أجدادهم في الجبل، قمحاً وشعيراً وذرةً لإطعام أبنائهم خبز التعاسة والفقر. وهذا كي يتركوه مع رهطه يتنعمون بما حصّلوه من حقوق المسيحيين التي استعادوها من رفيق الحريري ووزعوها في ما بينهم حتى آخر معملٍ لتوليد الطاقة وسدّ وشركة اتصالات ونفط، وحتى أصغر مياوم في القطاع الحكومي ومأمور أحراج في البلديات.

ولا ضير من أن تنهار الدولة وتفلس وينفر منها العالم ويشفق عليها ويعزلها عزلة المصاب بالجذام، ما دامت مقاومة أشرف الناس تقاوم بالمال والسلاح الإيرانيين شيطانها الأكبر، وتمكّنُ مستعيدي حقوق المسيحيين من ثاراتهم التي ربوها في أنفسهم طوال عشرين سنة على الحريرية وانجازاتها المحلية والإقليمية والدولية، تلك التي لم تنجزها إلا بالتواطؤ الصبور والتقيّة مع نظام حافظ الأسد، قبل أن يذهب رفيق الحريري ضحية تواطؤه وتقيّته، ويستسلم ابنه البريء لقدره التعس بين من ثأروا من والده: واحد بالقتل وآخر بالاستيلاء على إرثه في الدولة اللبنانية، فيما هي تفلس وتنهار.

الغضب السني الخاوي
وعلى مدخل موقف السيارت قرب بيتي في طرف منطقة الطريق الجديدة، وقفتُ في تلك الأمسية مستطلعاً ما يحدث في الشارع النازل من جامعة بيروت العربية إلى مستديرة الكولا: جمعٌ من شبان المحلة - أولئك الذين أشاهد بعضهم من سنين على الرصيف وألقي عليهم تحيات عابرة - يدفعون مستوعبات النفايات إلى وسط الشارع، فيقلبونها على جنباتها، ثم يُشعلون النار فيها على الإسفلت الذي سالت على سخامه عصارتُها. أنهم يحتجون على انقطاع التيار الكهربائي منذ أيام. وقال أحدهم: ماذا فعل وزراء الطاقة بالأربعين مليار دولار التي نهبوها، وأين الكهرباء؟! وهو قصد جبران باسيل ورهطه من وزراء الطاقة المتعاقبين.

وكان شبان المحلة وفتيانها وسواها من أحياء الطريق الجديدة - المعتزين المتباهين بأنها وحدها من أحياء بيروت السنية، لم يتجرأ مقاتلو حزب الله وأعوانه على دخولها في 7 أيار 2008 - قد انتظروا استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة في تشرين الأول 2019، للتعبير عن غضبهم وسخطهم من السياسات الحكومية والانهيار المالي. فلم يشاركوا في احتجاجات 17 تشرين المديدة، إلا في ليلة إذاعة زعيم تيار المستقبل السني بيان استقالته. ومع  أمثالهم من شبان أحياء الطريق الجديدة وسواها من الأحياء البيروتية السنية، اجتمع في أمسية تلك الليلة شملهم زمراً في أماكن محددة، تعودوا في مناسبات كثيرة على التجمهر فيها بدراجاتهم النارية في أحيائهم. وبعدما اكتمل عديدهم، امتطوا الدراجات وساروا بها في مواكب جابت أحياءهم. كانت مواكبهم صاخبةً بهدير الدراجات وأبواقها المختلطة بصرخاتهم الطويلة التي لا يدري سامعها أهي عويلُ استياءٍ وغضب أم صرخاتُ ابتهاج بالولاء للزعيم ونصرته. والأرجح أنها تعبر عن الحالتين معاً، وعن فرحتهم الصاخبة بطقس تجمهرهم المهتاج في الشوارع.

وفي أمسية النهار الذي تلا ليلة مواكبهم تلك، علّقوا على واجهة محلٍ مهجور من سنين صورة كبيرة لسعد الحريري، مذيلة بعبارة "نحن معك في الحلوة والمرة - شبان منطقة الكولا".

يرعى تجمع "شبان الكولا" هؤلاء صاحب محل لبيع الدراجات النارية الجديدة في الشارع، فيلتئم شملهم في مضافة دائمة على الرصيف أمام محله، وخصوصاً في الأمسيات. وحسب المواسم يلتهمون أحياناً في سهراتهم الرصيفية كيلوغرامات من اللوز الأخضر، أو بطيختين ضخمتين، فيتركون قشورها مكومة على الرصيف حتى الصباح. وعلى الرصيف إياه يمدون في أمسيات رمضانية مضارب إفطاراتهم الجماعية.

وصاحب محل الدراجات النارية يعود بمنبته وجذوره إلى بلدة سنية جنوبية. وقبالة مدخل جامعة بيروت العربية مكتبة كبرى للطباعة صاحبها من العائلة نفسها، وهو منسق تيار المستقبل. وفي زاوية من المكتبة الكبيرة، مكتب مخصص لمختار بلدة صاحبها، يخلّص معاملات لأهل بلدته الذين تقيم كثرة منهم في أحياء الطريق الجديدة. وفي صبيحة نهار الخميس 30 تموز 2020، الذي سبق عيد الأضحى، كان صاحب المكتبة يقف مزهواً على الرصيف أمام مدخل مكتبته، مشرفاً على وضع مجسّم كبير من الورق المقوى للكعبة، على مؤخرة شاحنة، لتسييرها في موكب احتفالي بالعيد في شوارع الأحياء البيروتية. وتتولى هذه الشبكة العائلية والقرابية غير البيروتية الأصل والمنبت، الأعمال الدعائية واللوجستية لتسيير مواكب تيار المستقبل وعراضاته في أحياء الطريق الجديدة، أقله منذ اغتيال رفيق الحريري.

لكن الغضب السني في هذه الأحياء وسواها البيروتية الأخرى، خاوٍ وذاوٍ وضعيف. وأين منه ذاك الغضب العُظامي الصلف الموتور والمنظم الذي يطلقه سلاح فرسان الثنائي الشيعي للدراجات النارية. ولربما لحسن حظ شبان الأحياء السنية وقدرهم الاجتماعي، أن يكون غضبهم خاوياً ذاوياً وضعيفاً، بعدما أدت أجيال سابقة قسطها للعلى في الحقبة الفلسطينية المسلحة الراحلة.

تاريخ عبثي عقيم
يا لفصول هذا التاريخ اللبناني العبثي السقيم!

وأي تاريخ هذا الذي لا ينبض ولا يتحرك، إلا إذا نفخت فيه الهويات العمياء والشِّقاقَ والعداوات والأحقاد والثارات والمكائد والحروب والاغتيالات؟!

وهو أيضاً ينبض بالتبجح والفصام والعظام والذل والمهانات التي تتحول تشاطراً مزهواً في تحيّن الفرص والصفقات والتباهي باستعراض الأزياء والسلع الفاخرة، وبسيارات الدفع والهامر والمرسيدس والجاغوار. وهذا في جزرٍ سكنية ومنتجعات خاصة مغلقة، وفي أبراج (تورات) شاهقة تتعملق على واجهات بيروت البحرية. وخلفها مباشرة تغرق شوارع أحياء المدينة بالنفايات وعصارتها السائلة على إسفلت متآكل، وتخوض فيه عجلات سيارات فحمية الزجاج الذي يحجب ركابها المسترسلين في صلفهم الباذخ عن عيون العابرين...

وأفلس لبنان، ودوّى انفجار مرفأ بيروت الكارثي مساء 4 آب.

هل اكتملت فصول الكارثة اللبنانية؟

ربما لا تزال في بدايتها: فعظام السلاح الشيعي لا يهاب الكوارث ويعبد الكوارث. والغضب السني الخاوي لا يهابُه أحد. أما الهوس المسيحي الطفلي بالرئاسة فيزهو في الخواء ويزدهر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها