الإثنين 2020/08/24

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

حينما انهالت آيات الله على الإمبريالية والجامعة وزقاق البلاط

الإثنين 2020/08/24
حينما انهالت آيات الله على الإمبريالية والجامعة وزقاق البلاط
عصبة من فتيان سلاح الدراجات النارية (Getty)
increase حجم الخط decrease
كنت أقود سيارتي متمهلاً في شارع داخلي في محلة زقاق البلاط، لما صدم مقدمَها بدراجته النارية شابٌ يقودها بسرعة جنونية. وكان الشاب من فرسان سلاح دراجات "الثنائي الشيعي" النارية في أحياء بيروتية كثيرة وضاحية بيروت الجنوبية.

أسير "السّلْبطة"
وبعدما رمت قوةُ الاصطدام الشابَ أرضاً عن دراجته التي تحطم مقدمها، تحلّق سريعاً حولنا حوالى 15 شاباً وفتى من أمثال الشاب في زقاق البلاط.

وأنا من أعلم ما تفعله زمر فتيان هذا السلاح منذ سنوات في المدينة، كان عليّ أن أسعى مرغماً وجاهداً لإيجاد وسيلة أو سبيل ما، يفكُّ أسري من اغتنام الزمرةِ الحادثةَ ذريعةً لاسترسال شبانها في "السّلْبطة" والتسلط عليّ. فهم تعودوا على ذلك وجعلوه عملهم ومهنتهم في الشوارع، مستقوين بالمنظمتين الحزبيتين اللتين جمعتا شملهم ونظمتاهم، وتستعملانهم، كلما شاءتا ترويع الأحياء السكنية وأهلها، والجماعات والمجموعات المعترضة على الحكم وسياساته في لبنان.

والمنظمتان إياهما تعدّان من لا يسبّح باسم "المقاومة" وحزبها وسيّدها ورئيس المنظمة الأخرى ثنائيتها، يمجدّهم ويدين لهم بالولاء والطاعة، ليس سوى متآمر وعدو يتوجب قصاصه والاقتصاص منه ميدانياً. وتعوّدت قيادة المنظمتين على اعتبار كل ما تقوم به هذه الزمر من هجمات وهرجات واعتداءات، ردَّ فعل عادي وطبيعي، أو فورة غضب شعبي أو جماهيري يصدر عمن سماهم سيّد "المقاومة" ومرشدها أشرف الناس واتقاهم وأطهرهم في الخلق وبين العالمين.

الجامعة وطائفيّة ما بعد حرب السنتين
وكنتُ قد شهدتُ وعشتُ فصولاً كثيرة، قديمة ومتجددة ومتعاقبة، من تكوّن الهوية الجديدة للمنظمتين الشيعيتين، تقلبها وتصلّبها في أوقاتٍ وظروف وأحياء ومواقع متباعدة ومتداخلة، طوال سني الحروب (1975-1990) وبعدها.

ففي أثناء جولات حرب السنتين (1975 - 1976)، انتظم الشبان والطلاب الشيعة في الشياح (مهد الحرب الأهلية الأول)، وسواها من أحياء ضاحية بيروت الجنوبية، في منظمات الحرب اليسارية اللبنانية والفلسطينية. وفي نهاية تلك الجولات ومنعطفها (دخول الجيش السوري إلى بيروت، تحت ما سمي قوات الردع العربية)، بدأتْ تتقطّع إقامتي وصلتي مع بعض أبناء جيلي الشاب آنذاك، بالشياح وبفصول حروبها الأهلية مع عين الرمانة. وقد تزامن ذلك مع مباشرة جيل شيعي شاب جديد انخراطه في حروب الشياح وسواها من الأحياء والمناطق، منتمياً إلى "حركة المحرومين - أفواج المقاومة اللبنانية" المتديّنة تديّناً أهلياً طائفياً، بعدما "غُيّبَ" مؤسسها وإمامها موسى الصدر، وأمعنت في ولائها الكامل للقيادة السورية الأسدية، وبدأت تتملل من سيطرة المنظمات الفلسطينية واليسارية اللبنانية وتشتبك معها في بلدات جنوب لبنان وأحياء الضاحية الجنوبية.

أما نحن شلة الطلاب اليساريين القانطين واليائسين من اليسارية وحروبها الفلسطينية، فقد التقينا طلاباً في معهد العلوم الاجتماعية التابع للجامعة اللبنانية التي بدأت تنقسم كلياتها فروعاً، حسب المناطق الطائفية التي تباعدت وصارت الطرق بينها خطوط تماس وجبهات حربية. وبعدما دخلت وحدات الجيش السوري الأسدي إلى لبنان بذريعة إيقاف الحرب، سرعان ما تجددت الحرب، وانتقلت المنظمات اليسارية اللبنانية من ولائها الحربي للقيادة الفلسطينية التي كانت تمولها، إلى موالاة القيادة السورية وإمرتها.

ومعهد العلوم الاجتماعية الذي كان قبل الحرب - مثل سائر كليات الجامعة اللبنانية - واحداً موحداً في منطقة الأونيسكو ببيروت، ويلتقي فيه طلاب من جهات لبنان كلها ويتعارفون، نُقِل ما صار فرعه الأول في بيروت الغربية إلى بناية سكنية في أعالي منطقة الروشة المتصلة بساقية الجنزير. وسيطرت عليه، طلاباً وهيئة تدريس وإدارة، مذاهب ومنظمات يسارية وعروبية، متنابذة ومتشاحنة ويتربّص كل منها بالأخرى. وأُنشئت في بيروت الشرقية فروع ثانية لكليات ومعاهد الجامعة، وربما سيطر عليها ما كان يسمى "اليمين المسيحي" آنذاك.

وهكذا تحولت الجامعة اللبنانية وسواها من الجامعات الخاصة في لبنان، جامعات راحت تهيمن عليها هويات ومنظمات وأجهزة أهلية وطائفية، حسب المناطق والأحياء.

من اليسار العروبي إلى الخمينيّة
وما بين العام 1977 والعام 1981، كان قنوطُنا ويأسنا من الحرب والطوبى والتهاويم اليسارية التي تمزقت، هما ما جمع شمل شلتنا في المعهد الجامعي. وهي طوبى وتهاويم كانت قد خلطت اليسارية بعروبة قديمة، جدَّدها في عشيات الحرب الأهلية الهيامُ بعروبة الفدائيين الفلسطينيين الشعبوية ومنظماتهم المسلحة.

وفي أثناء الثورة الإيرانية التي تصدرها آية الله الخميني، الذي عاد من باريس إلى طهران بعد انتصار ثورته سنة 1979، كانت سهرات شجن شلتنا اليساري والعروبي شبه الصوفي، تلتئم في منزل أحدنا بالخندق الغميق، وكان أهله قد هجروه عائدين للإقامة في قريتهم الجنوبية. وكان في الشلة منشدٌ يؤدي بصوته الرائق الرخيم أغاني الشيخ إمام وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب، ومعروف في أوساط الشلل اليسارية في فروع بيروت الغربية لكليات الجامعة اللبنانية وفي الجامعة الأميركية أيضاً. وفي تلك السهرات شبه الذكورية، المتصوفة الهائمة بأطياف فتيات زميلات في الجامعة، كان يستخفنا طرب الشيخ إمام الثوري، مثل الطرب التراثي القديم المستعاد بإشراقةٍ صوفية، فيسكرنا النوعان مع كؤوس الويسكي أو النبيذ.

أما في النهارات فكانت تطربنا "آيات الله (التي) تنهال على الإمبريالية" في بدايات الثورة الإيرانية الخمينية، من عناوين الصحيفة البيروتية التي انتقلت من عروبية قذافيّة، إلى فلسطينية، فسورية أسدية، ثم صداميّة عابرة، على التوالي، حتى حطّت رحالها إخيراً في خمينيّة حزب الله الشيعية "المقاومة"، قبل أن تتوقف عن الصدور مع انهيار الصحافة الورقية، وبعدما لم يجد صاحبها من يضيف بعض مئات ألوف الدولارات إلى ثروته.

وكانت الصحيفة إياها قد طالعتنا مرة بقصيدة "وجهك يا غرب مات" لشاعر "العصف الجميل" الذي "جاء" من دون أن  "يأتي الخراب الجميل" المنتظر. وهذا قبل أن يكتشف بعضُنا لاحقاً أن ذلك الخراب ليس سوى قيام الساعة مع عودة المهدي المنتظر، "مالئ الأرضَ عدلاً، بعدما مُلئت جوراً". ولم يكن خميني إيران المقطِّب، العابس المتجهم، سوى ظله أو بشيره على هذه الأرض. أما الشاعر ذاك، مادح ثورة التشيّع الخميني، فنفر من ثورة الشعب السوري على أحد أشرس طاغيتين في الشرق الأوسط ودنيا العرب، واعتبرها "رجعية"، لأن تظاهراتها راحت تخرج من المساجد السورية بعد صلاة نهارات الجمعة.

الأنبياء - السماسرة
وفي قاعات المحاضرات الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية وفي الكافيتريا، في نهايات السبعينات ومطلع الثمانينات،  كان الدكاترة والطلاب المتحدرين معاً من أحزاب وتيارات يسارية وشيوعية، منقسمين شللاً متنابذة، ويتداولون في شللهم الأفكارَ والموضوعات والكلمات والأهواء الأيديولوجية المتنابذة. وكل منضوٍ في تلك الشلل، أكان دكتوراً مدرساً أم طالباً سائراً على طريق الدكترة ومعارجها المرتقبة، كان يتصور ويتصرف أنه نبي أيديولوجي كبير أو صغير أو متوسط، ويكادُ أن يكون "بين الله والأرض كلام" (سعيد عقل).

ودخل مرة إلى قاعة التدريس دكتور شاب، كان في منظمة يسارية عندما كان بيت أهله في زقاق البلاط، وعاد حديثاً من باريس حاملاً شهادة في علم النفس الإعلامي، وبدأ محاضرته الأولى عن "الإعلام في الإسلام"، فقال إن المسلمين القدماء كانوا يستخدمون إشعال النيران والحمام الزاجل وسائل إعلامية للتواصل فيما بينهم. وبعد مدة قصيرة أسّس هذا الدكتور مركزاً للدراسات والأبحاث الإعلامية "الزاجلة" والببغائية بين بيروت وطهران. ولم يكن ذاك المركز إلا واحداً من عشراتٍ تكاثرت كالفطر مذّاك وحتى اليوم، وكثرة منها يقتصر نشاطُها على شخصٍ واحد مرتزق يُسمي نفسه مديراً لمركز مفترض، وتستضيفه محطة "المنار" التلفزيونية وسواها من المحطات اللبنانية، مشاركاً مداوماً في البروباغندا الإعلامية وزجلياتها اليومية السائرة.

دكتور شاب آخر في معهدنا الجامعي للاجتماعيات في ثمانينات لبنان الكالحة المظلمة، استمر طوال أكثر من سنة ينشر في صحيفة لبنانية ليبرالية مقالاته الهذيانية عمّا سماه "المعيش" السوسيوثقافي بين مثلث الأمة الاسلامية المقدس: قم والنجف وجبل عامل. وكانت تتردد في هذياناته تلك أصداء لهاث فتوته الصاخبة كلاعب كرة قدم في بُوَرٍ (قطع أرض بائرة) في أحياء ضاحية بيروت الجنوبية، أو في الخندق الغميق والبسطا التحتا.

وفي الصحيفة الليبرالية إياها كان معلق سياسي أساسي من صحافيي "قالت المصادر"، ينشر مطولاته اليومية ويستهلها بما قاله "المرجع الإسلامي الشيعي الأبرز في لبنان"، الذي كان يتلو آياته البيّنات من مسجد في بئر العبد، وتحلقت حوله في مجالسه النواة الأولى للإسلام الشيعي الأصولي التي تشرنقت فيها بعض خلايا حزب الله الأولى. وكانت تضم بعضاً ممن كانوا مثلنا "رفاقاً" يساريين نعرفهم ويعرفوننا في حرب السنتين، شأن بعض دكاترة الجامعة المبتدئين آنذاك. كان هؤلاء على خلافنا نحن شلة الطرب والإشراق الصوفي واليأس من اليسارية والحرب: توسلوا الهوية الدينية، الشيعية والطائفية الشعبوية الجديدة المولودة من رحم الحرب، جواباً على شغفهم المقيم بتسلق المراتب الدنيوية من طريق السلاح والحرب. فصوروا ذلك، أو صُوِّرَ لهم ذلك، بأنه نور قذفه الله في صدورهم ووعدهم بخلاص شعبوي، حسيني وكربلائي قيامي.

حجيج مجالس الحكماء
عشرات من دكاترة معهدنا وسواه في كليات الجامعة اللبنانية، وغيرهم من الطلاب السائرين على طريق الدكترة، ولفيف من الصحافيين والمثقفين وفناني المسرح، وكلهم من خريجي منظمات اليسار الجديد والكفاح الفلسطيني المسلح، أرشدتهم الماوية ومشتقاتها إلى "طريق الشعب" الحسيني الخلاصي ذاك. فاكتشفوا إسلاميتهم الخمينية في معمعة النصف الثاني من الثمانينات اللبنانية وحروبها المتناسلة، بعدما هجّر الجيش الإسرائيلي المنظمات الفلسطينية المسلحة من بيروت.

وأخذت شلل هؤلاء جميعاً تتنقل مرتادة مجالس كل من "المرجع الشيعي الأبرز في لبنان"، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي "المغيب"، وسواهما من المشايخ الأقل بروزاً، ومكتب رئيس حركة أمل في برج البراجنة. وذلك طلباً للعلم والاستنارة والحظوة والمكانة في المنازعات الأيديولوجية والإدارية، وعلى المناصب وساعات التدريس، في كليات الجامعة اللبنانية. وياما سُمِعَ في كافيتيريا معهد الاجتماعيات أن شلة من دكاترته زارت في نهارٍ واحد مجالس أولئك الحكماء الثلاثة، فتزودوا بما تيسر لهم من الحكمة في شؤون علوم الدين والدنيا والآخرة.

وشاعت في برامج تدريس عدد من دكاترة الاجتماعيات منوعات مستلة ومستلهمة من ما يُفترضُ أنه تراث الإسلام في الفقه والنبوة والأحاديث النبوية والتوحيد وآل البيت والأئمة والفطرة والقرآنيات والتصوف والممانعة والمغالبة.

فقه السلاح الحسيني
وكانت هذه المنوعات كلها متصلة بفقه السلاح والقتل والتدمير والحرب الدائرة في شوارع مدن ومناطق لبنانية كثيرة. ومنها شوارع زقاق البلاط التي عاشت في الثمانينات أعنف موجات اقتلاع سكانها المسيحيين والأرمن والبيارتة السنّة، ليحل مكانهم المهجرون والوافدون الشيعة والكرد، ولتدور فيها حروب شوارع بين مسلحي حركة أمل وبقايا منظمات الحركة الوطنية اليسارية والعروبية الآفلة، قبل أن تنشطر الحركة الشيعية وتخرج منها أمل الإسلامية الإيرانية الخمينية ويقتتل الطرفان قتالاً أهلياً أخوياً ضارياً ودامياً.

وفي تلك المعمعة بدأ تشييد حسينية زقاق البلاط. وسرعان ما انتصب بناؤها تدريجاً قلعة أو حصناً للفقه والحرب الحسينية الكربلائية في طرف المنطقة السفلي. وهذا فيما كانت محاضرات دكاترة السوسيولوجيا الإسلاميين تُلقى على طريقة دكتور علم النفس الإعلامي في الإسلام، أو حلقات الداهشية (نسبة إلى الدكتور داهش) الذي كان يسكن زقاق البلاط في الأربعينات. وفي شبابه الأول كان ذاك الدكتور طالباً يسارياً في نهاية المرحلة الثانوية، فالتأمت بمنزل أهله العتيق الطراز المعماري في زقاق البلاط اجتماعات موسعة للشطر المنشق عن المنطمة اليسارية التي كان ينتمي إليها  في العام 1973.

وأذكر انني حضرتُ واحداً من تلك الاجتماعات، فرسخت في ذاكرتي صورة ذاك المنزل العتيق الذي ما من مرة عبرتُ بسيارتي شوارع زقاق البلاط إلا وتفرّستُ فيه طويلاً، مستعيداً كيف انهالت في الثمانينات آيات الله على الإمبريالية والجامعة اللبنانية وبيروت.

وها أنا اليوم - بعد عقود ثلاثة ونيف من ذلك كله، وبعدما شهدتُ وعشت اكتمالَ فقه الهوية والسلاح الشيعيين في لبنان - أقف أسيراً وسط عصبة من فتيان سلاح الدراجات النارية في زقاق البلاط، صامتاً ومضطرباً وخائفاً وحائراً، فلا أجد ما يمكّنني أن أفعله وأقوله، لأمضي في حال سبيلي.
(يتبع)    

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها