السبت 2020/07/18

آخر تحديث: 15:22 (بيروت)

مشهدان في ساحة النور: بائع كِلْيَتِهِ ودونكيشوت الثورة الآفلة

السبت 2020/07/18
مشهدان في ساحة النور: بائع كِلْيَتِهِ ودونكيشوت الثورة الآفلة
لن أغادر هذه الساحة إلا محمولاً في تابوت (جنى الدهيبي)
increase حجم الخط decrease
لم يبق من ثورة 17 تشرين في ساحة النور الطرابلسية سوى بعض رسوم الغرافيتي على الجدران، بعدما أزالت القوى الأمنية قبل نحو شهرين خيم الاعتصام من الساحة وأغلقتها شهورًا. وهناك أيضاً آثار موجة الغضب التي حطمت بعض المصارف والمحال التجارية.

وبين حين وآخر تظهر في ساحة الثورة الطرابلسية الآفلة، مشاهد البؤس التي راحت تتفشى في لبنان كله تقريباً. وهي صنيعة إفلاسهم وخسارتهم أعمالهم وعجزهم عن تأمين الحدّ الأدنى من متطلبات عيشهم. فمن كان في طرابلس متوسط الحال صار فقيرًا، والفقير أصبح معدمًا.

وفي خضم تدهور الأحوال المعيشية والمعنوية، والعجز عن استكمال الإنتفاضة والثورة، التي خفتت وتكاد تتلاشى، يلجأ بعض الطرابلسيين إلى أساليب جديدة للتعبير عن آلامهم وبؤسهم، ومطالبتهم بأبسط حقوقهم. فيما يُرغم من أصابتهم الحاجة على مقايضة شيئ من مقتنياتهم بأغذية ضرورية تضاعفت أسعارها.

مشهد ثأر دونكيشوتي
في وسط هذه الساحة الدائرية التي تمر حولها السيارات بكثافة متجهة نحو متفرعات شوارع طرابلس ومساربها، يفترش فادي إبراهيم الأرض واضعاً رأسه على وسادة، وحول جسمه دولابا سيارة وحجرين كبيرين، مثبتة بينهما يافطتان: على واحدة منهما دوّن بعضاً من مطالب ثورة 17 تشرين، وعبارات الثأر لشهدائها. وعلى الأخرى دوّن شيئاً عن حاله التي تنمّ عن الفقر والحاجة ولا تخلو من رغبة في الثأر: "عم أشحد وطني لأنهم سرقوا وطني، جاييكم الدور تشحدوا".

فادي عمره 54 سنة، أب لشابين، وسبق أن بادر في شباط 2019 إلى احتجاج فردي في ساحة النور: جلس وسط الساحة وأعلن وحيداً إضرابه عن الطعام، وكمم فمه بقطعة قماش، مناشداً السلطات اللبنانية سحب جنسيته منه، وتأمين طلب لجوئه إلى أي دولة أخرى.

التقت "المدن" فادي المستلقي اليوم وسط الساحة. استيقظ من نومه وقال: "أنام هنا وأحلم بوطن. وفي يقضتي ومشهدي هذا أبحث أو أشحذ وطناً. سبق أن ساهمت بإطلاق الثورة في هذه الساحة، قبل أن يبيعها الشبيحة الذين دمورها".

مسكن فادي في القبة، وقد غادره إلى ساحة النور قبل أيام: "لن أغادر هذه الساحة، إلا محمولاً في تابوت إلى قبر، إذا لم تندلع الثورة من جديد".

كان يعمل في ورش التمديدات الكهربائية، وسبق أن سافر إلى بلاد كثيرة، وعاد في العام 2000 مكسورًا خائباً عاجزاً عن إنجاز مشروع عمل خاص يعتاش منه. منذ أيام ثلاثة لم يتناول سوى مناقيش زعتر. وهو يتوعد السلطة ببدء معركته معها بمعدته الخاوية، نهار الإثنين المقبل 20 تموز الجاري.
ربما يدرك أنه يقوم بحركة فردية دونكيشوتية، ولن يستطيع إنجاز أي شيئ، بعدما ذوت وانطفأت ثورة عمّت لبنان كله وشارك فيها. هو يطمح ليكون شعلة جديدة لإحياء الثورة من جديد، ويصر على البقاء في الساحة حتى تشتعل الثورة.

مشهد بائع كِلْيَتِه
في جهة أخرى من ساحة النور يقف محمد طيبة، ويحمل لافتة يعرضها للعابرين. وكتب على اللافتة: "كِلْيَةٌ للبيع". ومحمد عمره 38 سنة، متزوج ولديه أولاد أربعة. يقيم في منطقة البقار في القبة. هو عاطل عن العمل، بعدما كان يعمل دهاناً في ورش البناء. وقال لـ "المدن": "أقف هنا لأعرض جديًا كِليتي للبيع. لم أعد قادراً على تأمين مصروف أسرتي. صرت عاجزًا عن فعل أي شيء. هناك إما السرقة وإما التسول. أريد  بيع كليتي لإطعام أولادي وتأمين مصروفهم اليومي".

يؤكد محمد الذي يقف في الساحة بيافطته منذ أيام ثلاثة، أنه لا يقف لتسجيل موقف، وأنه جدي في مطلبه، ويأسف أن يسخر منه بعض المارة الذين يتهمونه بالتسول. لكنه يرد: "لن أغادر الساحة قبل أن أجد زبونًا يشتري كليتي. لم أعد قادراً على انتظار 10 أو 20 ألف ليرة أستدينها من أصدقائي لتأمين الطعام لأولادي".

في يوميات ثورة 17 تشرين كان محمد طيبة يشارك في التظاهرات، من دون أن ينتمي إلى أي مجموعة. وهو الآن يطمح لبيع كليته. سبق أن بحث عن أيّ عمل بلا جدوى. يعاني من آثار كسر في جمجمته نتيجة حادث أليم سبق أن تعرض له. وقال أخيراً: "خسرنا كرامتنا في هذا البلد، ولم يبق لنا سوى العيش في القهر الذل".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها