الأربعاء 2020/06/03

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

من طرابلس إلى بيروت: أوتوستراد كورونا ومدن الثورة النائمة

الأربعاء 2020/06/03
من طرابلس إلى بيروت: أوتوستراد كورونا ومدن الثورة النائمة
ولّى زمن البحبوحة في لبنان.. وبيروت حزينة (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

ثمّة اعتقادٌ شعبي لدى أبناء الشمال، أو ربما هو راسخ في لاوعيهم، أنّ "لبنان الحقيقي" ينتهي جغرافيًا عند حاجز المدفون. هذا الاعتقاد، لم يأتِ من عدم، وإنّما هو نابعٌ من التراجيديا الشمالية، ونظرة أبناء الشمال لـ"الدولة اللبنانية" وسوء علاقتهم معها، أو حتّى انقطاعها، بالنسبة إليهم.

كضيعة نائية
أبناء الشمال، وتحديدًا في طرابلس وعكار، يؤمنون بمظلوميتهم وظلم الدولة لهم. ينظرون إلى أنفسهم، كمعزولين عن لبنانهم وعاصمتهم بيروت، وأنّهم منسيون ومتروكون من دون إنماء ومشاريع تحسّن، ولو نسبيًا، من انحدار واقعهم الاقتصادي والمعيشي.
تراكم "القهر الشمالي" عبر عقود، كان له تداعيات كبرى فجّرت الاستقرار في الأمن والمعيشة والاقتصاد وبيئته المجتمعية، وكذلك في علاقته مع المؤسسات الأمنية والعسكرية. حتّى أنّ معظم اللبنانيين، كانوا ينظرون إلى الشمال كما لو أنه ضيعة، أو قرية نائية من دين وثقافةٍ ومفهوم وطبع وفكرٍ واحد. ولعلّ أكثر من دفع ثمن هذا الواقع، كانت طرابلس، التي غُيّبت عن دورها المحوري في لبنان، بوصفها "عاصمة لبنان الثانية"، فأضحى مجرّد قول مجازي، من دون تطبيقه وممارسته.


لحظة 17 تشرين 2019، كانت انعطافة مفصلية جديدة بالنسبة للشمال عمومًا، وطرابلس على وجه التحديد. إذ شعرت أنّ هذه الثورة أشبه بضخّ للأوكسيجين في رئتيها، وأنّها استرجاع لدورها المحوري الذي كان مسلوبًا. فاستطاعت، رغم كلّ محاولات خرقها وشيطنتها، أنّ تكون البيئة الحاضنة للثورة والثوار من مختلف المناطق والفئات والأديان، فأصبحت العاصمة الأولى للثورة في لبنان وعروسها.

العودة إلى العزلة
تلك اللحظة المفصلية لم تدم طويلًا، ليس لأنّ الشماليين أرادوا الاستسلام، وإنّما لأنّ السلطة عادت وأحكمت قبضتها على البلد عبر حكومة اللون الواحد. ثمّ جاءت تدابير الوقاية من انتشار فيروس "كوفيد – 19" لتقصم ظهر البعير، فازداد الوضع الاقتصادي سوءًا، واستفحلت السلطة بالقمع مستغلةً الظرف الصحي لفرض "هيبتها" وردع المواطنين وترهيبهم باجراءاتها وقراراتها، التي يبدو أنّها لن تأخذ لبنان إلا نحو الخراب. وعمليًا، استطاعت السلطة أن تعيد الناس إلى عزلتهم في زمن "كورونا"، وأن تقضي على فتيل غضبهم الذي سبق أن انفجر في الشارع. وهي حتّى الآن،  أيّ السلطة، لا تزال تقاوم بالقمع والتسلط كلّ محاولات الرجوع إلى الشارع إحياءً للثورة ضدّها، في وقتٍ تقتصر التحركات ليلًا على حرق إطارات هنا، وقطع طرقات هناك.

في زمن "كورونا" أيضًا، عاد الشمال إلى عزلته عن لبنان بصورةٍ يعتريها مزيدًا من الظلم والقهر عن عزلته الأولى. كانت هذه العزلة أشبه بإعلان النهاية للشلل الكبير. طرابلس مثلًا، رغم خرق أبنائها للحجر المنزلي وتدابير التباعد الاجتماعي في الأسواق والشوارع. كانت أقرب لمدينة أشباح خسرت كلّ مقوّمات الاستمرار في العيش والانتاج، يجول فيها سكانها لتأمين حاجاتهم وقوتهم بما استطاعوا إليه سبيلا. حتّى المصارف التي أُحرق عدد كبير منها، كانت أبوابها الحديدية المصفحة أشبه بالسور الكبير الذي يصطفّ أمامه الناس أفواجًا لتسوّل ما هو من حقّهم أصلًا.

بيروت الحزينة
في 1 حزيران 2020، دخل لبنان شبه مرحلة ما بعد زمن "كورونا"، مع اتخاذ الحكومة قرار بدء العودة إلى الحياة الطبيعة، والاستمرار باجراءات المفرد والمزدوج وفرض وضع الكمامة على المواطنين، وإلّا تكون محاضر الضبط بانتظارهم.

في هذا اليوم الاثنين، توجهت من طرابلس إلى بيروت بعد انقطاعي عنها لعدّة أسابيع. وضعت الكمامة، وتفقدتُ بطاقة الصحافة كما لو أنّها جواز عبورٍ لسيارتي المجوز في أيّام المفرد. إنّه مطلع الأسبوع، وأول الشهر، ومع ذلك، كان الطريق شبه فارغ، من دون ازدحامٍ للسيارات على طول الاوتستراد، وكأنّ أهالي الشمال لم يستعيدوا بعد نبض الذهاب والإياب من وإلى بيروت. لم يستغرق الطريق أكثر من ساعةٍ واحدة، فيما كان يستغرق نحو الساعتين وربما أكثر، أيّام الزحمة والنزوح الكبير يوميًا نحو العاصمة. قد تكون هذه المقارنة لا قيمة لها مجرّد أن نسأل: لمَ ينزل أهالي الشمال إلى بيروت بعد تخفيف إجراءات التعبئة العامة؟ للتعليم أو العمل؟ كلاهما غير موجود. للنزهة والتسوّق؟ لقدّ ولّى زمن البحبوحة في لبنان.. وبيروت حزينة.

بيروت في أول حزيران، تبدو بعيون زوارها، حزينة ومتروكة، كأنّها خسرت نبض الحياة وضجيجها. لكنّ غضبها، يبدو مختبئًا تحت الرماد، بعد أن طُبعت جدرانها بشعارات إسقاط السلطة وشتم رموزها. قلّة يرتادون المقاهي، وأصوات الزمامير تخفت في شوارعها بزمن "المفرد والمجوز"، والخوف من "كورونا".

العودة إلى الشمال أشبه بالرجوع إلى عالمٍ آخر. وطرابلس التي ارتضت عزلتها مرّة جديدة، تبدو صاخبةً في داخلها، لكنّه ضجيج الفراغ أيضًا. وكما في عكار، عادت الزحمة بقوّة إلى الشوارع. المفرد والمجوز يسيران معًا. قلّة هم من يلتزمون وضع الكمامات والتباعد الاجتماعي. ساحة التلّ والأسواق الداخلية، تستعيد نشاطها شيئًا فشيئًا، والصرّافون ينشطون بقوّة. الإقبال على المقاهي لا يزال خجولًا، كذلك حال شارع عزمي ومحال الألبسة لا سيما بعد انقضاء فترة الأعياد.

لكن من ينظر إلى وجوه الناس المتعبة والغاضبة في الشمال، من قلّة العمل والحيلة والغلاء الفاحش بالأسعار، يدرك أنّ كلّ هذا الضجيج هو في سبيل الضجيج فحسب، هربًا من قهر العزلة وفقدان الأمل. وقد يكون هذا الضجيج أيضًا، تحضيرًا لانفجار الشارع من جديد، وموعدا آخر مع ثورة تكون طرابلس عاصمتها أيضًا. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها