ذلك أن كثرة من أهل البلدة، غير مقتنعين بطبيعة الفيروس الطبيعية والطبية، والوافد إليهم من الخارج. بل يعتبرونه "مؤامرة" تحاك ضد بلدتهم، كي "تُحاصرَ" مع أهلها، و"تُعزل" عن محيطها. لذا يتساءل كثيرون منهم: "لماذا أصاب الفيروس المجدل من دون سواها من قرى البقاع؟ ولماذا التركيز على ظهوره في بلدتنا، ليصير وصمة وعاراً آخرين تلصقان ببلدتنا؟ وكورونا متفشٍ في قرى بقاعية شمالية، ولا يعرف هناك مسار تطوره وانتشاره بين أهاليها!"، يقولون ويرددون
ازدواجية في المعايير
وهم يستنتجون: "إنها، إذاً، ازدواجية في المعايير مع الأزمات"، وراكمت شعوراً بالاضطهاد لدى أبناء البلدة. وهذا ما يضعهم في مواجهة جديدة مع "السلطة الشرعية" وقراراتها، خصوصا تلك التي تُفرض بذراعها الأمني.
وهكذا صار صعباً إقناع أهالي مجدل عنجر، بأن الحواجز الأمنية والعسكرية التي دققت وتدقق في الدخول إلى بلدتهم والخروج منها، منذ اشتداد أزمة كورونا، هي لحمايتهم، وليست لفرض الحصار عليهم. فبرأي بعضهم كان الأجدر بـ "الدولة" وضع الحاجز أمام منزل "ابن الدولة" الذي لم ينصع لأوامرها، بدل الحجر على بلدة يعد سكانها 50 ألف نسمة.
مشكلة أهالي مجدل عنجر مع تطبيق "العسكر" قرار العزل الصحي - حتى لو جاء القرار بطلب من السلطة المدنية - تتمثل في رفضهم الانصياع إلى سلطة لا يثقون بمعاييرها صرامتها اللتين تتفاوتان بين منطقة وأخرى، وبين فئة لبنانية وسواها.
وللأهالي على ذلك شواهد لا تحصى. أشدها وضوحا ما عاناه عدد كبير من شبانها: إعتقالات وملاحقات، وصلت إلى حد القتل، نتيجة انخراطهم في حوادث عابرة للحدود. وقادتهم إليها قناعات عقائدية مرتبطة بالانتماء الديني والسياسي والاجتماعي. هذا، فيما هم يراقبون سقوط الصرامة والشدة السلطوية حيال انخراط المنظومة المقابلة، وتحديدا منظومة حزب الله، في قضايا معاكسة عابرة للحدود. فهم يشاهدون قوافل حزب الله العسكرية تنتقل يومياً إلى سوريا وتعود منها، تحت أعين عناصر الأجهزة الأمنية، مروراً ببلدتهم الواقعة على الحدود.
عجز البلدية والمستقبل
غير أن تدخل الذراع الأمنية العسكرية، في مواجهة انتشار كورونا في بلدة مجدل عنجر، جاء نتيجة لما اختبرته السلطة المحلية المنتخبة من عناد أشرس من الفيروس الذي ينظرون إليه كمؤامرة. فأعضاء البلدية ورئيسها سعيد ياسين، يئسوا من محاولات إقناع أهل بلدتهم بحجر أنفسهم طوعاً. ليكتشف الجميع أن "العسكر" أيضاً، لا يمكنه إلزام "مجدلي" بحجر نفسه. فحضور القوى الأمنية، زاد المجادلة عناداً في رفض الخضوع للأمر الوقع.
في المقابل لم ينجح تيار المستقبل من انتزاع زمام المبادرة في البلدة. فعلى رغم التعاطف الشعبي المستمر مع المستقبل، شكل أداء التيار لسنوات سبباً لشعور عميق بالعجز والإحباط، ليس فقط في مجدل عنجر، وإنما في معظم بلدات البقاع التي شكلت لفترة من الفترات خاصرة المستقبل القوية.
فصفة منسق تيار المستقبل التي يحملها رئيس بلدية مجدل عنجر، لم تمنحه "مونة" أكبر في بلدته، بل أنتجت جبهة سياسية مناهضة، ساهمت في تعميق الهوة بين أهل البلدة وقرارات بلديتها في مواجهة خطر الفيروس الذي طرق بابها.
عجز 17 تشرين
وهذا، في وقت يبدو صعباً معه حتى الآن، إيجاد أرضية صلبة لمجتمع مدني بديل، يمسك زمام الأمور، ويملأ الفراغ الذي خلقته السلطات التقليدية. حتى بعد انخراط شبان من مجدل عنجر في ثورة 17 تشرين، التي لم تشفِ غليلهم بطرح بديل.
وعادت المحاولات في مجدل عنجر حالياً إلى مربعها الأول و"الأساسي": سلطة جماعة دينية، تسقط وصايتها الأبوية على المجتمع المجدلي، وتبقى محصنة في الطليعة، طالما أن البديل "المدني" لم يثبت جدارة موازية.
ويصعب إسقاط "نموذج" بلدة بشرّي في حجرها الأهلي، على مجدل عنجر مثلاً. فالنفوذ السياسي الحزبي الكبير وشبه الموحد في بشري، والمتمثل بحزب القوات اللبنانية، لا مثيل له في مجدل عنجر، حيث الصراعات البلدية والعائلية على النفوذ والدين تتفشى، حتى في داخل البيت الواحد.
وصايا إلهية
ولكن طبيعة الجماعة التي تحكم سلوك الفرد العلني، تحصن السلطة الدينية وتجعلها صاحبة الرأي المهيمن.
وعليه لم يكن مستغرباً أن يصدر قبل أيام، بيان عن هيئة مشايخ مجدل عنجر، وصفت توجيهاته بالـ"وصايا"، بما تحمله الكلمة من بعدٍ "إلهي". وجرى أيضاً لقاء جامع في البلدة، توجه فيه مشايخها إلى أبنائها جميعاً ليبقوا في المنازل "صَدَقةً بالآخرين".
جاء ذلك أيضاً بعد كلام لرئيس بلدية مجدل عنجر، حمّل فيه المجتمع المسؤولية، واتهم المشايخ بأنهم لا يقومون بدورهم، داعياً إياهم الى "المنابر"، وكأنها ملاذه الأخير لإقناع الناس بالحجر المنزلي.
لكن هذا "الإحترام" الذي يظهره المجتمع لرجال الدين، شكل أيضاً سبباً لسقوط الإعلام في خطيئة "تنميط" صورة مجدل عنجر. فهي صُورت لمدة طويلة بلدة "التطرّف"، ولا سيما بعد تورط أفراد منها بملفات أمنية إرهابية. وقد خلق ذلك حساسية اجتماعية، أدت إلى تبرير ارتكابات أشخاص، دفاعاً عن صورة البلدة وهويتها.
الوصمة: "لسنا وباءً"
هذه الحساسية نفسها تنسحب على "رهاب الجماعة" تجاه وباء كورونا. وكأن أهالي البلدة، بنفيهم وجود إصابات بينهم، يجنبون بلدتهم "وصمة" جديدة. وخير ما يعبر عن ذلك، صرخة أحدهم في رفضه الامتثال لأوامر حاجز "عزل" البلدة: "لسنا وباء".
ولكن مجدل عنجر بحاجة اليوم أكثر من أي وقت سابق لتتحرر من هذا الرهاب. وذلك كي تنصرف إلى معالجة المشكلة "وضعياً": الفصل بين ما يصيب الفرد فيها عن الجماعة. والاقتناع بأن المرض ليس عيبا ووصمة. وبأن كورونا فيروس أصاب الناس في أنحاء العالم. وهو حتماً ليس "مؤامرة" لا على مجدل عنجر ولا على غيرها من الشعوب.
لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود في بلد ممزق، وهوياتُ جماعته محتقنة ومتحاجزة، ويستقوي بعضها بسلاح قاهر؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها