الجمعة 2020/05/29

آخر تحديث: 17:06 (بيروت)

زياد الرحباني... الصمت دليل على الحياة

الجمعة 2020/05/29
زياد الرحباني... الصمت دليل على الحياة
انتكس في ثمانينات القرن الماضي بجملة إحباطات ومؤامرات سياسية.. وبات جذرياً على مستوى آخر (المدن)
increase حجم الخط decrease
"شوي شوي"، "فانك" (Funk) زياد الرحباني يصلّح بعضاً من رتابة يومياتنا. يحاصرنا كورونا وشرائط الأخبار ومواقف السياسيين منذ أسابيع. لكن جاءت لتنقذنا أغنية قديمة، كُتبت لفيروز، وغنّتها الممثلة دارين حمزة، وبثت على إذاعة صوت الشعب قبل أعوام. عادت الأغنية لتطوف اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، بانتظار أغانٍ أخرى غير منتشرة للرحباني من المفترض أن تنتشر في الأيام أو الأسابيع المقبلة.

على قيد الحياة
أعاد بث "شوي شوي" تذكيرنا أنّ زياد هنا، على قيد الحياة، مستمرّ معنا. يعمل، يعزف، ينام، يشرب. يفعل كلّ ذلك في الظلّ. عاد إلى ظلّه بعد أشهر من يوميات المقابلات الصحافية والإطلالات التلفزيونية وغزو المسارح اللبنانية طولاً وعرضاً السنة الماضية. اختفى كلياً عن السمع مع 17 تشرين الأول وشعاراتها. جلس في ظل ظله، من دون حسّ ولا خبر. لم يمرّر رسالة هنا، ولا موقفاً هناك، ولا مقالاً في صحيفة. ملأت الناس الشوارع بشعارات وكلمات أطلقها قبل عقود. درّجها ونشرها بين شرائح مختلفة. ثار ثلاثين عاماً، وحين انطلقت شرارة ثورة، عاد إلى الظلّ. كأنّ ما يجري أمر عادي، لا يستوجب التوقف عنده. لا يستأهل تعقيباً ولا دفعاً ولا شيء آخر. لا يعنيه. أو أنه استبق الإحباط العام، بإحباط خاص. غطّ كما دائماً، وفي مراحل عديدة، في سباته القطبي. انقطع حسّه وخبره.

سياسي أول
زياد الرحباني الذي ساهم، والظروف بطبيعة الحال، في هدم مدرسة سياسية وثقافية وموسيقية تأسست على يدي أبيه وعمّه، أسس وآخرين مدرسةً خاصة. فيها ما يكفي من أساسات السياسة والثقافة الموجهة، لكن السياسة أولاً. من الحركة والمقاومة الوطنيتين، إلى المعركة مع "الظلاميين" غير محددي الهوية، مروراً بتركيبة ما بعد الطائف التي لا تزال حتى اللحظة عجيبة من أعاجيب الدنيا. وصولاً إلى الجلوس في الصفوف الأمامية لمهرجانات حزب الله ودعمها، ثم الانقلاب عليها لساعات، فالصمت، فالعودة لها، فالتقاط صورة مع أحمد الحريري، فالصمت، فالعودة، فالصمت. لا يمكن فصل الرجل عن السياسة. طبع موسيقاه بمواقفه، هو جزء من الحياة السياسية وخياراتها. معبّر باب أول عن خطاب سياسي غير اعتيادي. مباشر ومن دون قفازات. سهل في انحيازه المطلق ومعقّد في شربكة الميول وتعارضها. كأي مكوّن أو طرف أو رجل سياسي آخر في هذه المنطقة العجيبة، يمكن أن يتشقلب ويجري في مسارات مختلفة.

انقلاب الضابط
صمت الرحباني في الأشهر السبعة الأخيرة لا يغتفر. هو الذي عاد إلى الحياة في معمعة 8 آذار و14 آذار عام 2005. وبعدها بين عامي 2009 و2010. اختفى مع "الربيع العربي"، وعاد وظهر منتقداً عام 2013. ثم صمت وعاد مؤيداً لبشار الأسد، ومعه كل المنظومة. عادةً لم يترك مناسبة سياسية إلا وتركها توقظه من سباته. لا شيء في 17 تشرين دعا الرحباني إلى الاستيقاظ، ولو للتهكّم عليها وعلى ناسها وشعاراتهم. ربما لكونه كان سيجد نفسه في لباس زعيم سياسي، يقول إنه "مع الثورة ولكن..." أو إنّ "شعار كلن يعني كلن في غير مكانه". بات للرجل مواقف وحسابات سياسية عليه موازنتها. زياد القادر على تبنّي الثورة، انتكس في ثمانينات القرن الماضي بجملة إحباطات وإخفاقات ومؤامرات سياسية. انتهى ذلك الزمن، وبات جذرياً على مستوى آخر. ارتدى سترة الضابط النازي وقلنسوة دينية ومضى في شوارع مسرحياته الأخيرة. نفذ انقلاباً عسكرياً علينا، على الجميع، وحتى على نفسه.

ندم على عدم الهجرة من "الجمهورية وخراها"، فعاد إلى الصمت. وقد يكون ذلك في مصلحتنا. في السنوات القديمة، كلما تكلّم، انتكسنا. وكلما صمت، كتب وألّف الموسيقى، فانتعشنا. علّ الصمت دليل شغل موسيقي، أو أشغال موسيقية متنوّعة فيها ما يكفي من نفس. علّ الصمت ينقذنا من يومياتنا الثقيلة، في ظل كورونا، وقبله وبعده. وليس من الغرابة أن يتحوّل الصمت إلى دليل على الحياة.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها