الثلاثاء 2020/04/07

آخر تحديث: 00:05 (بيروت)

زيارة العائلة: حبس من قهر ومسافة شرعية

الثلاثاء 2020/04/07
زيارة العائلة: حبس من قهر ومسافة شرعية
اللقاء مع الأهل يعني الجلوس أمام مدخل البيت، على مسافة متر (نادر فوز)
increase حجم الخط decrease
استباقاً لخطة "مفرد-مجوز" التي فرضتها وزارة الداخلية وما قد يلحقها من إجراءات متشدّدة، كانت زيارة بيت الأهل ضرورة. فكورونا منع عن الكل زيارة الكل. وبعد قرابة الشهر من الانقطاع، إلا من حبل الهاتف-فعلياً، كانت زيارة إلى "البيت" مع الإجراءات الاعتيادية: كمّامة، قفّازات وسائل التعقيم. نضع الكمّامة، نلبس القفازات، نحمل المفاتيح، نخرج ونقفل الباب. نطلب المصعد ونفتح بابه باليد نفسها. نصل إلى الأرضي، نخرج من المصعد ونستخدم نفس الأصبع للنقر على زرّ فتح البوابة. نفتحها باليد نفسها، ننزع قفّاز اليد المستخدم. نفتح السيارة، ونرمي القفاز في كيس خاص. ننزع الكمّامة، نشغّل السيارة وننطلق. انتهت جولة أولى من الإجراءات المضنية.

مدينة جامدة
لن نملّ من وصف بيروت في زمن كورونا. باتت مدينة جامدة، وسكّانها أدرى بأحوالها. تصوير مقطع فيديو فيها أشبه بالتقاط صورة فوتوغرافية. شوارع وطرقات بلا أشجار ولا نبات، فلا اهتزاز غصن ولا خيالات تتلاعب. صورة زيتية، كأنّ من شغّل الفيديو استوقفه وغاب، ولو أنّ الصوت فيها دائم ومستمرّ. يأتي من أماكن قريبة، لكن بلا حركة مرئية. صراخ عيال تلهو، وورشات منزلية موجودة لكن محجوبة. الحياة في الداخل مقفل عليها بين الجدران، ولا يأتي منها إلا الضجيج. أما متعة النظر فمتروكة للتمعّن بمباني الباطون والزجاج. وإن صودف مرور قطة، فاللقطة تستوجب النشر.


إجراءات الوصول
الخطة نفسها عند الوصول، لكن بشكل معاكس. قفّاز، مفاتيح، بوابة المدخل، زرّ الجرس. ننزع  القفّاز ونتركه جانباً لحين الوصول إلى الكيس الخاص. وصلت إلى "البيت"، لكن كل شيء تغيّر. فالزيارة في زمن كورونا، مختلفة شكلاً ومضموناً وتصوّراً وإحساساً. اللقاء مع الأهل يعني الجلوس أمام مدخل البيت، على مسافة متر، على كرسي بلاستيكي يُقفل ويُفتح. وفي المقابل، مسافة متر، ثم كرسي منزلي للجلوس. ضوء من هنا، وآخر من هناك. ألوان متداخلة وخيالات، وعتم غير مبرّر. كلّه يزيد المشهد سينمائيةً. متى يشبع المخرج السمج من تصوير هذا الفيلم الممل؟ هنا عالم وهناك آخر، على بعد أقل من مترين. وبين الكرسيين باب مفتوح، أشبه بزجاج سجن في فيلم أجنبي حديث، ربما للمخرج نفسه. ينقص المشهد مقبض سمّاعة فقط. نفس السماعة التي نحادث بها الأهل منذ أسابيع. هم من الجيل الذي لا يهوى التلفونات والإلكترونيات، لا إمكانية لمحادثتهم بالصوت والصورة. في جمود كورونا، نسمعهم فقط كما نسمع سائر المدينة دون أن نراها.


المسافة الشرعية
أصبح بين الابن وأمه، بين الابنة وأبيها، بين الأخوين، بين الأصدقاء، مسافة أمانٍ على الطرفين احترامها. فرض الفيروس علينا مسافة شرعيةً يجب التنبّه لها، تحديداً لحماية من نحبّهم. كسر الحركة الاجتماعية العادية خارج المنازل وداخلها. من هذا البيت تفوح النظافة. مشهد مرتّب، كالعادة، فيه أيضاً ما يكفي من حنان على شكل طبق ملوخية أو فراش مسوّىً. مكان للطمأنينة والنوم. للرخاء أيضاً بهمّة سبعينية لا تملّ من منح الدلال. ولكن فيه أيضاً الأسئلة الشخصية الاعتيادية المحرجة التي لا علاج لها. الفرد وحده، في هذا المنزل منذ أسابيع. لا تؤنسه إلا شخصيات مسلسلات محلية وتركية، وهاتف يرنّ للسمر.


إمبراطورية كورونا
بات كل مواطن وحده. فرد وحيد، وعلى أبعد تقدير ينتمي إلى مجموعة من اثنين أو ثلاثة في بيت واحد. ممنوع عن ملاقاة أي أحد خارجها. عزلة بالجملة أو المفرّق. وإن حصل، فيتم اللقاء وفقاً لتدابير المسافة الشرعية وإلا حلّ بلاء المرض وتهديده. فهذا الفيروس ملك متوّج، اسمه كورونا. إله جديد يحمل معه تصوّراً للمنظومة الاجتماعية والاقتصادية وكل شيء. يأمر فننفّد. ينتشر فننكفئ. يغضب فنخاف. حاكم بأمره، على إمبراطورية هي الأوسع والأكبر في التاريخ. معه بدت الإمبراطورية البريطانية خيمةً في صحراء. وبطش جانكيز خان وإرهابه لا شيء مقارنةً به.

لقاء عبر مسافة شرعية، يقهر ولا شفاء فيه. زيارة من سجن صغير إلى سجن أصغر، بلا زجاج عازل ولا شبك ولا سمّاعات. قهر إضافي. السابعة إلا ربع مساءً. قفازات، كمّامة، مفاتيح، زرّ البوابة ثم السيارة. حان وقت العودة قبل وقف التجوّل المفترض. حان وقت العودة إلى السجن الإفرادي، وما فيه من مسؤوليات وواجبات وملل.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها