الإثنين 2020/04/06

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

يوميات امرأة معزولة عن "كورونا"

الإثنين 2020/04/06
يوميات امرأة معزولة عن "كورونا"
راقصة محترفة على أحد أسطح بيروت (Getty)
increase حجم الخط decrease
إنّها أفكارٌ مغرية لتحفيز مخيلتي: سكان المعمورة معزولون في منازلهم، هربًا من الارتطام بعدوٍ جرثومي وبائي ومُعدٍ غير مرئيٍ، يفتك الأجساد ويحصد الأرواح. "كورونا" رديف "الموت"، ليس فيروسًا عنصريًا أو طبقيًا أو طائفيًا أو مناطقيًا، ومعه لا خيمة فوق رأس أحدٍ منّا (وهذا درس بحدّ ذاته). شوارع العالم ومساحاتها شبه خاليةٍ، والكرة الأرضية تأخذ إجازة تاريخية من جشع سكانها وثقل حركتهم. الحدُّ الفاصل لليل عن النهار هي حركة الكواكب بين القمر والشمس. أمّا نحن، فمحجورون عن التنقّل نهارًا والتّسكع ليلًا، وبالكاد نقصد باعة الخضار ومتاجر الغذاء والصيدليات، وكلّ أيامنا أصبحت آحاد.


ظننتُ أنّ العزلة في زمن "كورونا" لن تؤثر سلبًا على مزاجي الذي تعوّد التقلّب. فأنا من هواة "العُزلة" وطقوسها، كنمطٍ لعيشٍ لا مفرّ منه. لكنني كنتُ مخطئة. فالعزلة عن جائحةٍ كونية، ليست ترفًا ولا خيارًا، وإنّما هي السبيل الوحيد للبقاء على قيد الحياة، أو بأحسن الأحوال لعدم الإصابة بعوارض هذا الفيروس المقيت. يا لها من معادلة شديدة التعقيد: العزلة توازي الحياة، والاختلاط يوازي الموت.

يوميات معزولة
كان لا بدّ أن أعيد برمجة يومياتي المفصولة عن التنقل في العالم الخارجي، تحت سقف منزلٍ أحببته، وعلى شرفة غرفتي التي تطلّ على مدى فسيح منحني فرصة "التّأمُل". وكان لا بدّ أن أسأل نفسي: ماذا عندي لأفعله في هذا الحجر؟

عندي الكثير، واللا شيء، في آنٍ معًا. ومن حيثُ لا أدري، اضطررت أن أجيب على سؤالٍ ظننته صعبًا: من أكون في زمن العزلة؟

العمل
إنّني صحافية، أواصل عملي بشغفٍ كبير في أيام الحجرِ والعزلة. أنزل إلى الشارع لإتمام مهمامتي في إنجاز بعض التقارير، ثمّ أعود إلى المنزل على عجل.

يُقال أنّ النأي بالنفس في هذا الظرف العالمي الاستثنائي، عن تدفقّ المعلومات الإخبارية على مدار الساعة، يحمي الذات من الوقوع بالكآبة والإصابة بالقلق المزمن، بعد أن أصبح "القصف الإعلامي" للأخبار عالميًا، يؤثر على الجهاز العصبي ويحفز حالات التوتر. لكنّ مهنتنا لا تعطينا ترف العزلة عن الأخبار في وقت نكون جزءًا لا يتجزأ من صناعتها. ثمّ اكتشفت في هذا الحجر أنني أدمن في الأصل على تتبّع المعلومات، في بلدٍ هستيري يضجّ بسيلٍ جارفٍ للأخبار وبفساد المفسدين. وفيما نواصل متابعة عدّاد الموت والإصابات حول العالم، كأنّنا في مارثون وبائي – بيولوجي، لم أفلح بعد على العمل بنصيحة صديقتي حين قالت لي: "ما تابعي أخبار غير الملفات اللي عم تشتغلي فيها".

الأمومة
إنّني أمّ عزباء لطفلةٍ تواصل تعليمها عن بُعد، وتلعب الجمباز وتعزف على البيانو بعد أن انقطعت عن ممارسة هذه الأنشطة خارج المنزل. اختبار الحجر مع الأطفال ليس سهلًا. يُصبحون أكثر إلتصاقًا بمشاعرهم، يتأثرون بوسواس التعقيم والنظافة، ويبذلون جهدًا كبيرًا لتفريغ طاقاتهم الهائلة داخل المنزل، بالتذمر والفرح واللعب وقراءة القصص والطعام والتواصل مع أصدقاء المدرسة عبر الهاتف والفيديو. ثمّ استنتج (أقله من تجربتي) أنّ قضاء وقت طويل مع الأطفال ليس سهلًا حتّى بالنسبة لهم، فيصطدمون بمشاعرهم، ويُكثرون من الأسئلة النابعة من مخاوفهم وقلقهم وحاجاتهم العاطفية والحياتية. عالم الأطفال حياة أخرى. 


في الدوامة
سأعترف: إنّني عاجزة عن عدم التأثر بكلّ ما يحيطني من بؤسٍ، ويحيطنا جميعًا. كنتُ أظن أن فعْل الحساسية تجاه العوامل الخارجية، يصيبنا فقط نحن من نعيش في مناطق ومدنٍ بائسة ومتروكة. ثمّ أدركتُ أنّ هذا اللبنان والعالم كلّه، بائسٌ ومتروك. في أيام الحجر، نكون على تماسٍ مباشرٍ مع هلع الناس والأقربين القابعين في عزلتهم الإجبارية، التي قطعت أرزاقهم وصبّت النار على جحيم حياتهم ومعاناتهم.

لكنّنا تعودنا على هذه المشهديات، فأصبحت نمطًا معاشًا. على المستوى الشخصي، أحاول أن أتصدّى لها بدرع وقائي نفسي، كلّما استطعتُ لذلك سبيلا. كيف ذلك؟

إنّه الهروب..

في عزلتنا الإجبارية، لا مكان للهروب سوى نحو محاجرنا، وكأنّها كهف. نتصل بالعالم عبر هواتفنا الذكية فحسب. أمقتُ هذه الفكرة، بعد أن صرت أفتش عن روابط وعلاقات أكثر عمقًا ومتانة، تحفّز الاتصال بحواس النظر واللمس والشمّ والسمع والتّذوق. ومع ذلك، أعرف أن لولا قريتنا الكونية الافتراضية، لصارت عزلتنا أكثر جحيمًا، فأقول: لا بأس.

بعد أن أعدتُ برمجمة يوميات الحجر، ظننتُ أنّني لن أجد متسعًا للوقت بسبب كثرة تراكم الأعمال والمهمات. غير أنّني اصطدمتُ بفراغٍ كبيرٍ عزّز شعور "الوحدة". ماذا أفعل بكلّ هذا الفراغ؟ كيف أتعامل مع مشاعر تولد بمواجهة الذات عند مصاحبة أنفسنا؟

عزّزت هذه العزلة الحاجة إلى "الفلسفة" ودروبها. أفسحت مجالًا (ووقتًا) للأدب رغم كلّ مشاعر الاضطراب. إنّها مساحة مغرية للموسيقى ومشاهدة الأفلام (ليس دائماً) وأشياء أخرى وللا شيء أيضًا. اكتشفُ بعزلتي أنّني مصابة بـ"هوس الإنتاج"، الذي يولد على الدوام عقد الذنب لحظة الشعور بالكسل أو التراجع. ثمّ أعطيتُ لنفسي مساحةً لممارسة هذا الكسل وعيشه، وكأنه حقّ كنتُ قد سلبته من دربي: أستيقظ عند الثامنة بدل السادسة صباحًا، أرتدي البيجاما لوقتٍ أطول، لا أقترب من الجينزات ولا أضع "الماكياج" واكتفي بتنظيف بشرتي يدويًا.

لكن، وحتّى لا أشعر بذنوب "الكسل"، أهرب يوميًا، أمشي وأركض لوقتٍ طويلٍ وحيدةً في إحدى الأراضي الفسيحة، فأتنفس شهيقًا وزفيرًا، إلى أن أشعر أخيرًا بالشفاء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها