السبت 2020/03/21

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

جولة في بيروت: في سجننا الصغير.. كلنا مهاجرون

السبت 2020/03/21
جولة في بيروت: في سجننا الصغير.. كلنا مهاجرون
يتحرّك الناس ببطء شديد كأنهم يحاولون الاستفادة من فسحتهم، عكس حياتنا الطبيعية (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
بعد 10 أيام كاملة من الحجر، فكرة الخروج إلى العالم مدغدغة. مفاتيح المنزل والسيارة والسترة والشال والمحفظة والهوية، كلها أشياء كانت بلا قيمة في فترة الانعزال. أساسيات بلا معنى في السجن المنزلي. والكل مسجون في منزله، طوعاً. وإن خرج أحد، فليس من يستقبله أساساً. الخارج من سجنه الصغير يدخل إلى سجن أكبر حاصره فيروس كورونا. الشوارع الفارغة بالانتظار في الخارج، فيها من يتحرّك لكن من دون عجلة. يتحرّك الناس ببطء شديد كأنهم يحاولون الاستفادة من فسحتهم. عكس حياتنا الطبيعية، التي فيها يكون الكل مستعجلاً لأداء وظيفة ما أو للحاق بدور الانتظار في مصرف. وتجاوز إشارة سير مضاءة بالأخضر قد يأخذ وقتاً إضافياً. ليس ثمة من يطلق الزمّور في الخلف. فتتلوّن الإشارة بالأصفر ثم الأحمر والسائق سارح بما حوله من سكون. وفراغات المدينة الخالية من أهلها تتيح فرصة التعرّف على شوارعها أكثر. مبان جميلة وزواريب جانبية لم تكن مرّة قيد جدول النظر والتوقّف عندها. كأنّ المدينة شرّعت كل زواياها المخفية، لكنّ هواة الاستكشاف في سجنهم الصغير. باتت منطقة مفيدة للهايكينغ، وبيئتها النظيفة مناسبة لذلك.

الآحاد المقيتة المخنوقة
عادت بيروت لتكون شبحاً. لن تختلف المدينة عن باقي العالم المصاب، فالكوكب كلّه شبحاً. وفي زمن كورونا، الواجهة البحرية من عين المريسة إلى المنارة لا يخوضها إلا أربعة أشخاص. فيها كمّ من مساحة ركن السيارات تكفي مدينة بكاملها. فيشتهي من يقود سيارته أن يتوقّف جانباً، ولو لتسجيل انتصاره بتحصيل صفّة سيارة على الكورنيش. وعند الرملة البيضاء الزحمة أكبر، فعلى كورنيشها سبعة أشخاص. في يوم أحد مشابه كان يُفترض أن تجتاح العائلات الكورنيش، وأن يقيسه الرياضيون والرياضيات ذهاباً وإياباً. خرّب كورونا الآحاد أيضاً، هذه الآحاد المقيتة المخنوقة بالخوف والموت والملل. لكنّ اليوم الجمعة! لا فرق، وكل أيامنا آحاد. فزمن كورونا لا يقاس بوحدات زمنية حدّدها الآلهة والتزم بها البشر. هدم الفيروس عامل الوقت، مكرّساً السجن الذي نحن فيه. فكما في الزنزانة، لا روزنامة ولا وقت، فقط موعد لإطلاق سراح المحكوم. وفي حالتنا موعد للقاح مناسب يقينا شر الفيروس. وبانتظار ذلك الموعد، لا علينا سوى العيش في وقت ضائع، الفرص فيه متساوية بين الإصابة وعدمها.

الحياة السابقة
في هذه الشوارع النظيفة، لكن الميّتة، زميل مصوّر يمشي. يلبس كمّامة وقفازات، ويضع سماعات في أذنيه. حسين بيضون يجول المدينة على رجليه. "لن أقترب أساساً"، يردّ على تنبيه "لا تقترب". حتى الأصدقاء إن التقينا بهم في هذا الزمن، فممنوع الاقتراب منهم. ممنوع إلقاء تحية لائقة عليهم. عدّل الفيروس منطقنا بعد أنّ طغى على عاداتنا ويومياتنا. هل نعود يوماً إلى حياتنا السابقة؟ ومتى؟ هل نجالس الأصدقاء ونشرب كأساً في بار أو حانة؟ هل نلعب الورق أو طاولة الزهر، أو نطلب فنجان قهوة في مكان عام؟ ربما، على الأرجح، يوماً ما نستعيد كل ذلك. تكيّفنا مع حياة كورونا، فهذه طبيعة البشر. متكيّفون رغماً عنّا، مسلوبي الإرادة. وإلا الانتحار فعلياً، ومجازياً. تكيّفنا مع زمن كورونا، فبتنا نتحادث عبر التطبيقات والهواتف. 

في الحمرا
نتكلم عبر الشاشات كأننا كلنا في المهجر. كل منا مهاجر إلى سجنه الخاص، لكن مهجّرين جماعياً عن الحياة الطبيعية وعلاقاتها وكل ما فيها. بتنا معزولين كل في منزله. فـ"لم يعد هناك مصائر فردية، بل هناك تاريخ جماعي فيه الطاعون والمشاعر التي يتشاركها الجميع"، بحسب طاعون كامو. وفي تاريخنا المُكَورَن لا خيار لنا إلا المنفى الجماعي الذي نسينا فيه مآسي ما قبل كورونا، من أطفال اليمن قتلى الغارات الجوية وأبناء سوريا الذي عاد وحكمهم الموت المتجسّد بنظام الإبادات الجماعية. ونسينا أيضاً فوضى العراق وتحكّم الميليشيات بأبنائه، كما غيّبنا عن البال سلطة الطوائف اللبنانية ومآثر فسادها. ولو أنّ كورونا لا يزيد مآسينا إلا مصائب، لكن هوله أكبر. هو جامع ومشترك، مُعَولَم، أممي، أكبر من كل ما سبق.

في الحمرا، يجلس ماسح أحذية بالقرب من مقهى مشهور على زاوية الشارع. لم يترك مدينته، فهي سجنه الكبير والصغير. وللمرة الأولى، يمكن التنبّه إلى أنّ الصندوق الذي يحمله نُحاسي يلمع. كل يوم هو هنا، عند الصباح وفي المساء، وكل الوقت. لكن في حياتنا الطبيعية، قبل عهد كورونا، التنبّه لتفصيل مماثل من الكماليات، متروك لمن يرغب التمعّن بالأشياء أو تمضية وقت ضائع. هل حياتنا السابقة، الطبيعية، طبيعية فعلاً؟ لو كانت كذلك، فيغيب فيها آلاف التفاصيل التي تحيط بنا، نكتشفها اليوم ونتفاجأ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها