حرّك جشع أصحاب الأفران الناس. أذيال الانتظار والذل لم تقتصر على المصارف لبضع ساعات فقط. انضمّت إليها أبواب الأفران. كأنّ حصاراً مفاجئاً فُرض أو جراداً وصل وأتى على المحاصيل. ولو لم تتدارك نقابة أصحاب الأفران الأمر، نتيجة الضغوط السياسية، لكان المشهد في الشارع مغايراً اليوم. يكفي القول إنّ رغيف الخبز حرّك أبناء الضاحية الجنوبية لبيروت. لبعض الوقت، كانت صرخة "بدنا ناكل بدنا نعيش.. بدنا خبز للدراويش" عنواناً جامعاً وحّد كل الناس من كل المناطق والطوائف والمذاهب والانتماءات. لكن ذلك لم يستمرّ لعوامل عدة. ففور إعلان تراجع النقابة عن الإضراب، عادت الضاحية وأقفلت أبوابها مجدداً أمام المطالب المعيشية والشعبية، تاركةً ثورة 17 تشرين خارجها.
التحرك العفوي
تداعى عدد من الثوار إلى تقاطع المشرفية ليل الأحد - الإثنين رفضاً لاقتطاع لقمة الخبز من منازل اللبنانيين. كانوا قلّة من مجموعات مختلفة، أهمها "الحركة الشبابية للتغيير" و"مجموعة شباب المصرف". هؤلاء أبناء المنطقة، وأبناء كل المناطق. هكذا يقولون. اجتمعوا تحت الجسر، وأثار تجمّعهم ريبة أمنية وحزبية. فرفعوا صرخاتهم الداعية إلى حماية الفقراء ولقمة عيشهم من سيطرة الفاسدين وجشعهم. استجلبت حركتهم المزيد من الاهتمام، فبدأت مواكب الدراجات النارية تصل إلى المكان. أخذت الدراجات مسافتها من نقطة التجمّع، راقب راكبوها ما يحصل وترقّبوا، إلى أن حاول الثوار قطع الطريق. فجاء المنع المباشر الواضح والصريح على لسان "حاج" مسؤول في حزب الله: هنا ممنوع إقفال الطرقات!
انقسام ميداني
استكمل الثوار وقفتهم الاحتجاجية في حين كانت مجموعات من حزب الله وحركة أمل تتجمهر في المكان. شباب الحركة عن شمالهم في جهة الشياح، وشباب الحزب عن جنوبهم في جهة حارة حريك. والثوار في الوسط. ووقع إشكال أول لدى مرور شاحنة لنقل النفايات حاول بعض الموجودين منعها من المرور. هنا تشارك الثوار مع أبناء الشياح في محاولة قطع الطريق أمامها. لكن قرار حزب الله يقضي بعدم قطع الطرقات: "روحوا اقطعوا طرقات غير هون"، سادت العدائية في الأجواء. فحصل تدافع وضرب، كانت نتيجته انسحاب مجموعة الثوار من وسط المعمعة إلى جانب الطريق، في حين نشأ توتّر بين مجموعتي الحزبين. وفق السائد، "بالحلال أو بالحرام" لا تجمّعات شعبية هنا.
موازين قوى
اكتفت مجموعات المنتفضين بالوقوف على جانب الطريق لحين إعلان التراجع عن الإضراب. حينها عبّرت عن انتصارها للقمة الناس وعاد كل من فيها من حيث أتى. إلا أنّ التوتر بين الشياح والحارة استمرّ لبعض الوقت. لم يأت ذلك من فراغ. وهنا تدخل حسابات داخلية بين الثنائي. ووفق ما تشير إليه أوساط من أمل، فإنّ مسؤولي الحركة يشعرون وكأنّ حزب الله يسمح لبعض المجموعات الثورية بالتحرك تجاه أهداف ميدانية تخصّ الحركة. يغض الطرف عنها، أو يعطي حلفاء آخرين حرية مدّها بالدعم والمعلومات والمعطيات. هذا من خلاصات التحرّك الأخير الذي نظمّته مجموعات من 17 تشرين إلى مقرّ مجلس الجنوب في الجناح. تتماشى مع غض نظر حزب الله عن الخطوات الأولى التي نفذها ثوار الجنوب تجاه مقار حزبية وسياسية تابعة لحركة أمل و/أو عدد من مسؤوليها. فإذا كانت علاقة الثنائي متينة لا تفكّ "لا بالحلال ولا بالحرام"، لكن فيها أيضاً صراع دائم لعدم اختلال موازين قواها.
خلاصتان
بعد ساعات على تصاعد صرخة اللبنانيين من إضراب الأفران وتهديد انقطاع الخبز، خرج خبر إعلامي مفاده أنّه "بعد مساع من حركة أمل وتمنٍ من الرئيس نبيه برّي، علّق أصحاب الأفران إضرابهم الذي كان مقرراً اليوم". الرئيس بري أوقف الإضراب ومنع الجوع عن اللبنانيين. خلاصة أولى. وقبل هذا بقليل، تصدّرت دعوات إجبار الأفران على فتح أبوابها في الضاحية أو حرق مراكزها في حال التزامها بالإضراب، وسائل التواصل الاجتماعي. رسالة قوية من حزب الله، أو على الأقل بغض طرف منه. حزب الله هدد الأفران من مغبّة تجويع اللبنانيين. خلاصة ثانية. والحزب، بطبيعة الحال، لا يمكن أن يسمح بالمس بلقمة الناس، تحديداً ناسه. تبعات ذلك ضخمة، تحديداً في شارعه، إذ تمثّل دافعاً للناس للنزول إلى الشارع. للصراخ بوجه الجوع، ثم الفساد ومن بعده سائر الحقوق ومنها الحرية. وهنا ليس "السلاح" ولا "المقاومة" مطروحان أبداً، بل مستبعدان بالكامل. لكن في تلك المطالب الأساسية والتقصير في تأمينها مسؤولية تقع على الحزب. هو الراعي والضامن والحامي.
خلاصة ثالثة
وعلى مستوى اعتصام مجموعات الثورة عند المشرفية، فقد نجحت في كسر "تابو" الضاحية. رفعت المطلب المعيشي والخطاب الطبقي وصرخت من أجل محاكمة الفاسدين وقطع سمومهم عن اللبنانيين. هذه خلاصة ثالثة من اعتصام رفض إضراب الأفران. خلاصة مهمة تعني أنّ الضاحية الجنوبية فتحت أبوابها، ولو لبرهة، أمام شعارات الثورة وكل الناس. كانت هذه تجربة ثالثة، بعد تجربتي اعتصامي أبناء الرمل العالي (الكهرباء والبطالة والفساد) وأصحاب الفانات (التهديد بقطع البنزين). كل هذه لحظات أساسية تعني أنّ أبناء الضاحية الجنوبية، بما يمثلّونه، معنيون في الهمّ المعيشي. يؤكدون أنهم جزء من الكل، ولو بخجل أو لعرض مؤقت. وخروج هؤلاء إلى الشارع ليس سهلاً عليهم، ولا على ثنائيّتهم ولا على السلطة ولا على النظام. ربما ليست سهلة على الثوار أيضاً. يشقّون شبابيك ضاحيتهم، ينظرون إلى شعارات الثورة. يضحكون ويتهّكمون عليها، أو يغضبون ويستاؤون من أحوالها. لكن في ذلك الضحك أو الغضب مشاعر، فيهما ما يبشّر خيراً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها