السبت 2020/02/22

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

ضفاف أبو علي بطرابلس: الفقر يميت ولا يصنع ثورة!

السبت 2020/02/22
ضفاف أبو علي بطرابلس: الفقر يميت ولا يصنع ثورة!
مساحات لعشوائيات البسطات والخيم و"زحف" الفقر والفوضى (المدن)
increase حجم الخط decrease

تتضاعف الخسائر في طرابلس يومًا تلو آخر، كلّما اشتدّت وطأة الأزمة الاقتصادية التي يغرق اللبنانيون بها. هذه المدينة "الأفقر على حوض البحر المتوسط"، كانت تعيش أزماتها الاقتصادية والمعيشية والإنمائية منذ عقودٍ طويلة، كما لو أنّها مساحةً جغرافية معزولة عن لبنانها. أمّا اليوم، فقد عادت أكثر اتصالًا بلبنان، ليس من بوابة الإنماء، وإنما من بوابة الأزمات. لا يشبه وقْع الأزمة الخانقة في طرابلس حال أيّ منطقة لبنانية أخرى، وكأنّها ضاعفت جرعة الحرمان والفقر والحاجة فيها. فعجلة الانهيار الاقتصادي والمعيشي، تبدو سرعتها قياسية، في الأسواق والمتاجر والمؤسسات والمرافئ وكلّ مرافق الحياة الشمالية.

معقل الحكايا
في أحياء طرابلس القديمة وداخل أحزمة بؤسها، يبدو المشهد العام صادمًا، ليبقى السؤال: هل ما زالت طرابلس "أمّ الفقير" وحاضنة آلام الفقراء؟ ولماذا لم ينخرط أبناء الأحياء الشعبية في حراك الثورة الشعبية؟

نصل إلى ضفاف نهر "أبو علي" الغني بمعالمه التاريخية والعمرانية، لكنه تحول إلى جسر "باطون" شاهدٍ على أفشل "مشروع إرث ثقافي" نفذه مجلس الإنماء والإعمار، وأدّى إلى سقف النهر وجعله "حاوية نفايات" ولتصريف المجاري. هنا، عند هذا النهر الذي ينبع من مغارة قاديشا الواقعة في وادي قاديشا الشمالي ويبلغ طوله من المنبع حتّى المصب 42 كيلومتر ومساحة حوضه 485 كيلومتراً مربعاً، معقل الحكايا والأزمات التي تختصر بؤس طرابلس، بعيدًا من نبض الثورة وصخبها الذي أشعل "ساحة النور" في شهور ما بعد 17 تشرين الأول 2019.  

في المشهد العام، تبدو بيوت المنطقة كأنها مركبة فوق بعضها البعض، بينما تعلوها صور عملاقة لزعماء المدينة الذين يسيطرون على أجزاء كبيرة من أحيائها وأسواقها عبر مفاتيحهم الانتخابية و"قادة محاورهم". جغرافيًا، يفصل نهر أبو علي أهمّ منطقتين للتجمع السكاني الشعبي في طرابلس، وهما قبة النصر في الشمال الشرقي، وأبي سمراء في الجنوب الغربي منه، وعلى ضفته الغربية قلعة طرابلس. أما عند ضفته الشرقية فيمتد سوق الخضار الشعبي، ومحلات ألبسة البالة التي توسعت رقعتها لمئات البسطات المفروشة على سقف النهر. والمشهد عند ضفافه، لم يتبدل إلّا نحو الأسوأ، وتحديدًا خلال العقد الأخير، الذي ترافق مع تنفيذ مشروع "الإرث الثقافي"، فتحول إلى مساحات لعشوائيات البسطات والخيم و"زحف" الفقر والفوضى.



لاجئو النهر
هذا المشروع، كان بمثابة جُرمٍ بيئي وهندسي ومجتمعي بحقّ طرابلس، نتج عنه أضرار جسيمة أصابت مختلف قطاعات المنطقة، ودفعت عشرات المحلات والمؤسسات الصناعية والحرفية والتجارية أن تغلق أبوابها. وما يميزّ منطقة نهر "أبو علي" في طرابلس، هو أنّها كانت ولا تزال حاضنة لعمالة اللاجئين السوريين والفلسطنيين، الذين يسكنون في أبنيتها وجوارها، أو يأتون من المخيمات، ومعظهم يعملون بما يُعرف بـ "العتالة" أو "عتّالين"، فيجرون عربات الخضار أو يحلمون بضائع ثقيلة على ظهورهم، ويعملون لساعات طويلة، مقابل أجورٍ زهيدة.

أحمد ربيع، البالغ 54 عامًا، وهو فلسطيني من مخيم البداوي، يقف أمام محل تتكسد فيه أكياس الأقمشة والألبسة، يعمل فيه عتّالًا عند الجسر، وُلد وعاش في المخيم ولديه خمسة أولاد. ينفر أحمد من كلّ أشكال العنصرية التي تُمارس بحقّ اللاجئين في لبنان، ويعتبر أنّ حدّتها تراجعت، "لأننا جميعًا أصبحنا في مركب واحد يغرق بنا". يقول لـ"المدن": "لم نعش أزمة اقتصادية كحال هذه الأزمة التي أثرت علينا جميعًا، وأفقدتنا قدرتنا الشرائية فصارت صفراً، لدرجة أصبحت كلفة أيّ طبخة تفوق قدرتنا على تأمينها". بالقرب منه، يقف عبد السلام اسماعيل، وهو شاب طُبع اليأس على ملامح وجهه، يبلغ 31 عامًا ولديه ثلاث بنات، يسكن في أحد البيوت المحاذية للنهر، يحمل شهادة جامعية في التاريخ، لكنّه يعمل عتّالًا! يردّ على سؤالٍ بسؤالٍ آخر: "هل أشحد إن لم أجد عملًا بشهادتي أم أعمل عتالًا؟".

يحتاج عبد السلام شهريًا إلى حوالى 700 ألف ليرة لتسديد إيجار بيته وكلفة الكهرباء والمولد والانترنت، بينما معاشه لا يتجاوز المليون ليرة. يقول: "فقد معاشي قيمته مع انهيار الليرة أمام الدولار. وما يتبقى منه لا يكفيني لكلفة علب الدخان طوال الشهر، ولتسديد ديوني وإطعام عائلتي". مقابل أحمد وعبد السلام، نصادف نبيل عبد الرزاق، وهو سوري الجنسية يبلغ 35 عامًا، ولديه ولدين. مشهد نبيل، يبدو لافتًا وهو يضع حبال عربةٍ على أكتافه، ويجرّ عليها في السكة عشرات الكيلوغرامات من الجزر. نسلّم عليه، فيشرب الماء ويأخذ نفسًا عميقًا، ويخبرنا أنّه منذ تهجّر من إدلب إلى لبنان، لم يعش أسوأ من هذه الأزمة الاقتصادية. يقول: "أشعر أنني مكبّل للغاية، فالانهيار المالي يضرب لبنان وسوريا معًا، وأنا لا أستطيع العودة إلى بلادي أو السفر لأيّ بلدٍ آخر، وكأنني أسير مآسي هذا البلد وأقف عاجزًا عن تأمين قوت عائلتي".

مسنو النهر
على سقف النهر، تسير الحاجة كينونة (أم محمد) ببطء شديد، وهي تبلغ 74 عامًا، ولديها أربعة أولاد، وتعيش مع ابنتها الوحيدة في أحد بيوت "حارة البرانية" داخل أسواق النهر. تعاني أم محمد من أمراض كثيرة ولا تستطيع تأمين دوائها، تخرج لـ "تتشمس" كما تقول، وتتنقل بين بسطات الخضار لشراء حاجاتها بأرخص الأسعار. فـ "لم تعد تهمنا جودة الطعام والخضار في ظلّ الارتفاع الفاحش للأسعار، فالمهم أن نأكل ولا نموت جوعًا".

بعد أمتارٍ قليلة، نجد سيف الدين عكاري البالغ 75 عامًا، يقف مستنداً على سياج النهر، ينفخ سيجارته، ويتأمل النهر من تحته الذي تتراكم فيه النفايات ويحوم حوله الحمام. يقول: "نكاد نموت قهرًا من أزمتنا الاقتصادية، ولولا بعض أبنائي المغتربين لكنا تسولنا، بعد أن أصبحت المعيشة مكلفة للغاية"، ويسأل مستنكرًا: "كيف يعني طرابلس أم الفقير وصار فيها كيلو الخيار بـ 4 آلاف ليرة واللوبية 5  آلاف والكوسى 3 آلاف؟ من أين نأكل ونعيش بكرامة بينما معظمنا عاطل عن العمل؟".  

على رصيف سوق النهر، يجلس الحاج محمد البالغ 86 عامًا على كرسيّه البلاستيكية كلّ يوم، وكأنه يحرس أولاده الشباب الذين يعملون في محلين استأجرهما لبيع القهوة والسكاكر. يضع قبعةً سوداء ويلف عنقه بشالٍ رمادي، ينفخ سيجارته أيضًا ويقول: "كلّ المصالح الاقتصادية تنهار في طرابلس، نبيع بخسارة ونشتري البضائع بخسارة، وقد عشت ما يقارب القرن من الزمن لكنه لم يمرّ علينا مثل هذه الأيام البائسة حتّى في عزّ الحرب، حين كانت الليرة تحكي، لكن البركة غابت من كل شيء".

عند الرصيف المقابل، يلتهي محمد البشير البالغ 65 عامًا مع أولاده، بتقطيع اللحوم وتوضيبها في محله الذي أسسه قبل 40 عامًا. يحكي كيف تضاعفت أسعار اللحوم في طرابلس، وأنّ الأمر شكل صدمة كبيرة لأبناء هذه المناطق الشعبية. يقول: "أسعار اللحوم تضاعفت علينا، والناس فقدت قدرتها الشرائية، وهناك حالة تقشف كبيرة لم أشهدها طوال سنوات عملي في في المنطقة، حتى خلال حرب السبعينات، لدرجة أن معظم الزبائن اليوم أصبحوا يشترون بالغرامات القليلة، بعد أن تجاوز سعر كيلو اللحوم 25 ألف ليرة فيما كان بـ 14 ليرة لبنانية".

حديد وبالة الجسر
يمشي محمد مشحاوي البالغ 47 عامًا عند الجسر كمن يحكي مع نفسه. هذا الرجل، وهو أبّ لستة أولاد، يعمل في الحديد ويعيش في حارة البرانية داخل السوق. يقول: "لولا مساعدة أولادي كنّا تبهدلنا، بعد أن تضاعفت كلفة المواد الغذائية. كانت زوجتي تكفيها 20 ألف ليرة يوميًا لتأمين طعامنا اليومي، اليوم لا تكفيها حتّى 50 ألف لشراء أدنى حاجاتنا. حتّى الحديد أصبح غاليًا. كنّا نشتري الطن الواحد بـ 250 دولار أميركي، واليوم تجاوز الـ 400 دولار مقابل سعر صرفه بالسوق السوداء".

عند إحدى بسطات بالة الألبسة فوق الجسر، تقف إلهام كنعان البالغة 60 عامًا مع بناتها، جاءت من جبل محسن لتنبش بسطات البالة وتشتري ثيابًا لأولادها. تقول: "عايفين حالنا، صرنا نجي على البالة ونشتري، بعد ما كنّا نتسوق بشارع عزمي". أمّا محمود البالغ 37 عامًا، وهو أب لطفلة صغيرة، يقف حزينًا أمام محلّ البالة الذي يعمل فيه، مقابل 25 ألف ليرة يوميًا. يقول: "الأزمة قاسية، وأشعر بعجزٍ كبير، وغلاء الأسعار يرتفع كلّ يوم. كنّا مثلًا نشتري علبة الزيت بـ 8 آلاف ليرة، أصبح سعرها 14 ألف ليرة، وكأننا محرمون حتّى من قلي البطاطا لسدّ جوعنا. يومية محمود لا تكفيه لتأمين أجرة بيته الشهرية بـ 500 ألف ليرة، ويعتمد قليلًا على مساعدة والدته التي تعمل خياطة في أبي سمراء.

وقبل ذهابنا يقول لنا ساخرًا: "إذا وجدتم أحدًا مرتاحًا أم مبسوطًا في هذه المنطقة، تعالوا أخبروني رجاء!".

لكننا لم نجد، ولم نعد إليه. أمّا هذه المنطقة، فتختصر لغزّ الفقراء الذين يجدون الثورة ترفًا، بعد أن حرمتهم السلطة من أبسط حقوقهم للعيش بكرامة، فأصبح همهم، لا يتجاوز سقف سعيهم في تأمين قوت عائلتهم اليومي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها