الخميس 2020/02/20

آخر تحديث: 00:14 (بيروت)

سجن رومية: مرآة لأطوار الفساد في المجتمع اللبناني

الخميس 2020/02/20
سجن رومية: مرآة لأطوار الفساد في المجتمع اللبناني
للأفق المظلم في السجن مخدراته وتجارته وسلاحه (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
حلقة ثانية من يوميات سجين أمضى سنوات في رومية. وهي تروي وقائع عالم السجن ومجتمعه. 

مخدرات الأفق المظلم وسلاحه
بعد مرحلة اندماجهم في أحد قواويش سجن رومية، وتأمينهم مستقراً "لسكنهم" حذو جدار القاووش - وهو حيّز أعلى مرتبةً ويؤمن شيئاً من الراحة بمقاييس العيش في السجن ومجتمعه البائس - بدأ محمد ورفاقه يسعون لتحسين مستوى عيشهم: اشتروا براداً وتلفزيوناً من دكان حانوتي السجن، قسموا أدوار الخدمة في ما بينهم من التنظيف إلى تحضير الطعام.

ثم بدأت المرحلة الثانية من التأقلم مع العيش في السجن: محاربة الملل والروتين واستنقاع الوقت الممتد خاوياً خالياً من أي نشاط  جسماني أو ذهني أو تسلية وترفيه. وحدها المخدرات (الحبوب خصوصاً) تلوح في هذا الأفق المظلم، وتستحوذ على تفكير السجناء السابقين وتشغل 60 في المئة من أحاديثهم اليومية. وفي هذه المرحلة جرّب محمد ورفاقه المخدرات، فأدمنوا عليها مع مرور الوقت.

ويسعى كل سجين جديد إلى امتلاك "سلاح" ما. يكفي أن يستحوذ على قطعة حديد، ينتزعها من باب أو سرير، أو من إدوات الطبخ وتمديدات التلفزيون، فيشحذها  بأرض القاووش حتى تصبح مسننة الرأس، وتتحول سلاحاً يخبئه تحت وسادته. ويمكن لسجين ما امتلاك سكين، أو يحوّل قطعة حديد كبيرة يحصل عليها إلى سيف. هذا ما فعله بعض من سجناء "فتح الإسلام" وغيرهم في رومية. ويستعمل سجناء الماء الساخن سلاحاً قتالياً. وبعضهم يحصل بالاحتيال على شفرات حلاقة توزع عليهم لحلاقة ذقونهم، فيتهربون من تسليمها بعد الانتهاء منها.

مقايضة واحتكار
يخضع السجن لنظام اقتصادي عملته التبغ وعلبه و"كروزاته". فالخدمات والحاجيات كلها يجري الحصول عليها وفق عمليات تبادل أو مقايضة بالسجائر. لكن لكل سجين تعرفته الخاصة، حسب مرتبته: للشاويش تسعيرته الخاصة، كذلك للخياط الذي يصلح الثياب والـ"يطأ" للنوم. وكل شيء له ثمنه: المياه الساخنة للاستحمام. الاستفادة من خدمات الأقمار الاصطناعية. الحصول تمديد سلك كهربائي لسخان الطعام. الحلاقة، وغسل الثياب. وطبعاً المخدرات، الخبز الروحي الأسود للسجناء. واللعب على طاولات القمار ثمنه مرتفع جداً.

ولا يفوت سجين فرصة استغلاله سجيناً آخر، على قاعدة "القوي يأكل الضعيف". فالسجناء يعتمدون هذه الطريقة لكسب قوتهم اليومي وتحقيق ربح ما، لإعالة أبنائهم في الخارج.

وتنشط التجارة والاحتكارات في السجن. ففي كل مبنى من أبنية سجن رومية سجين - تاجر يحتكر بيع الهواتف الخليوية التي يهربها ويربح منها عناصر القوى الأمنية. ومنهم من يحتكر تجارة الاتصال بالأقمار الصناعية، وسخانات الطعام التي تقدمها الجمعيات مجاناً، ويمنح الضباط الأمنيون احتكارها لسجين يبيعها للسجناء، مقابل عدد من علب السجائر.

عملة السجن (علب السجائر وكروزاتها) تُسعّر بطرقٍ عدة. وجامعو هذه العملة من السجناء، يهربونها إلى أهلهم أثناء زياراتهم، فيبيعها أهلهم في الخارج، ويحصلون منها أموالاً لتأمين قوتهم. وقد منعت هذه الطريقة لاحقاً. بعض تجار المقايضة المحتكرين، يجنون أموالاً طائلة: يطلبون من سجناء ميسوري الحال الإيعاز لذويهم بتحويل أموال لذوي التاجر السجين في الخارج، على أن يوفر التاجر متطلبات السجين الميسور الأهل ومعيشتة في السجن طوال مدة زمنية محددة. وهذا يوفر على أهل السجين الميسور مشقة زيارتهم سجينهم.

والمقامرة وإدمانها - وعملتها علب التبغ و"كروزاته" - تدر عائداً لا بأس به على ممولي المقامرين المدمنين الذين يشترون "كروزات" التبغ من تجار سجناء، على أن يحول أهل المقامر ثمنها نقداً إلى أقارب التاجر خارج السجن.

"أصلك وصلك"
يُمنع السجناء وأهلهم من إدخال أي من المنتجات والمواد، إلا بواسطة "الحانوتي"، صاحب دكان السجن، المميز بغلاء أسعاره. يكتب السجين قائمة بمتطلباته، ويعطيها لأهله أثناء زياراتهم ("المواجهة" بلغة السجن). وأهل كل سجين يدفعون للحانوتي ثمن مواد قائمة سجينهم الذي يتسلمها لاحقاً من القوى الأمنية. يراقب كل سجين السجين الآخر لمعرفة قيمة فاتورته، ومقدرة أهله على تأمينها.

من يُعرف أن قيمة فاتورته عالية، يُستدل على مرتبه أومكانته الاجتماعية المرموقة ويسر أهله، فترتفع مرتبته بين السجناء الذين يلتفون حوله للاستفادة من خدماته وعطاءاته. وهذا مصدر مقولة (أصلك وصلك) الشائع بين السجناء. أي أن قيمة السجين الاجتماعية تحددها قيمة الوصل المادية (الفاتورة). القيم والمعايير الأخرى لا قيمة لها في مجتمع السجن. وغالباً ما يكون السجين المقتدر الأهل صيداً ثمينا لتجار السجن الذين يريدون تقريش أموالهم (الكروزات) من طريق الحوالات.

مخدرات بالمنطاد
يستهدف وسطاء تجار المخدرات الوافدين الجدد، فيسعون  بشتى الطرق لإقناعهم بتجربتها، وبالتالي التعلق بها. كل نواع المخدرات متوافرة في السجن، ولكل منها ثمنها الذي يحدده التاجر الذي يتحكم ببورصة أسعار المخدرات. ومن أكثر الأصناف رواجاً هي حبوب "البنزكسول" و"الترامال".

تدخل المخدرات إلى السجن عبر "سكة". وعندما تفتح "السكة" تكون عملية إدخالها قد نجحت ووصلت الكميات إلى التاجر بأمان. وللسكة أطرافها وعناصرها، وحلقتها الأقوى والأساس عناصر القوى الأمنية، من ضباط وعساكر يتولون إدخال "الضرب": كمية كبيرة تفوق 30 ألف حبة. ويطلب التاجر السجين من أحد أفراد عائلته أو جماعته في الخارج، إرسال هدية ثمينة جداً إلى الضابط المسؤول في السجن، لقاء تمريره "الضرب". وبهذه الطريقة يشتري تجارُ السجن الضباطَ ويحصلون على ولائهم. فالضابط هو العنصر الوحيد المعفى من التفتيش عند دخوله السجن. وهو الوحيد القادر على إدخال كمياتٍ كبيرةٍ من المخدرات. وغالباً ما يوضع "الضرب" على سطح السجن أو الشرفة. ويروى أن أحد الضباط قام بتمرير المواد بمستوعبات فارغة مخصصة للطلاء، وقام برميها إلى أحد التجار من المبنى دال إلى شرفة مبنى الأحداث (يرتفع مستوى مبنى دال عن مبنى الأحداث)، فانكسر المستوعب وتبعثرت الحبوب، لكن رجال التاجر استطاعوا لملمتها.

وعادةً ما يفتح التاجر "السكة" باتجاه المتعاطين بعد الأيام المخصصة لمواجهة الأهل، وبعد تسلم السجناء حاجياتهم من الحانوتي، ما يوفر "الدخان" لدى مدمني المخدرات التي يدفعون ثمنها مباشرةً، من دون حاجتهم إلى الاستدانة، أو تأجيل عملية الدفع حتى موعد المواجهة المقبلة.

قبل المشنوق وبعده
تتغير طرق إدخال المخدرات إلى السجن باختلاف سياسات وزراء الداخلية. ويقال أن حقبة الوزير نهاد المشتوق كانت الأقسى على السجناء، فيما صنفت حقبة الوزير مروان شربل للداخلية بالحقبة الذهبية في السجن. فشربل تعامل بلطفٍ مع السجناء.

قبل المشنوق كان يسمح لأهل السجين إدخال الطعام مطبوخاً جاهزاً إلى أبنائهم السجناء. وكانت تذوب حبوب المخدرات في الطعام، مثل الأرز أوالحمص. وكان يسمح بإدخال الثياب من الألوان كافة. فتهرب كميات من المخدرات في الملابس القاتمة اللون. وكان سجناء المباني يستطيعون تبادل المواد المخدرة أثناء سوقهم إلى المحكمة، بناءً على اتفاقٍ مسبق عبر الهاتف. وفي حقبة المشنوق منعت الهواتف في السجن، وألغيت امتيازات كثيرة، ومنع إدخال أنواع المأكولات المطبوخة وغير مطبوخة. وصودرت أدوات الطبخ جميعها، فبات على السجين الالتزام بأكل السجن الذي يوزع على الجميع. وحددت مدة التخابر عبر هاتف السجن بدقائق عشر في الأسبوع. ومنع لعب الورق لمنع المقامرة، لكن اللاعبين اخترعوا ورقاً بديلاً من طريق الرسم على بطاقات الهواتف المدفوعة سلفاً "التليكارت" بعد إخضاعها لعملية تجعلها بيضاء اللون جاهزة للرسم. ومنعت على السجناء عمليات نقل "كروزات" التبغ إلى الخارج. وعلى الرغم من هذه الإجراءات كلها، ظلت للسجناء دائماً طرقهم البديلة لإعادة التكيف والاندماج.

وفرز المشنوق ضباطاً من فرع المعلومات إلى السجون، مهمتهم الأساسية التجسس ونقل المعلومات. بث هذا الإجراء الرعب في نفوس الجميع، وخصوصاً الضباط الذين باتوا حريصين على عدم التورط. تزامن هذا مع حادثة طرد أحد الضباط على خلفية فساد ورشوة. لكن التجار استطاعوا إيجاد "سكك" بديلة قوامها العساكر وليس الضباط. فأصبح التاجر يستهدف العساكر الفقراء الذين لا تتجاوز رواتبهم المليون ليرة لبنانية. فيرسل إليهم الهدايا والأموال مقابل تهريب المخدرات. يهرب العسكر المخدرات بطرقٍ ثلاث: وضعهم في كعب الحذاء "الرنجير"، أو عبر بلع "الحنجول"، وهو مجموعة من الحبوب الموضبة والمغلفة جيداً بالنايلون والمواد اللاصقة. ويخرج العسكري "الحنجول" مع فضلاته. والطريقة الثالثة بتوضيب الحبوب على شكل "تحميلة" يضعها العسكري في مؤخرته، ويربطها بخيط فيسهل إخراجها.

ومن طرق التهريب التي لا تزال متداولة: نقع منشفة بيضاء بماءٍ مذوبة فيه كميات كبيرة من الحبوب. تتشرب المنشفة الماء "المخدر". عندما تنشف توضب وترسل مع سائر الملابس. فيقوم السجين برشوة شاويش الغسالة لتحييد المنشفة جانباً وعدم غسلها. تصل المنشفة إلى التاجر، فيغطسها في مياه نظيفة، ويبيع الماء المخدر كالحبوب. وحالياً تهرب حشيشة الكيف في حبات الزيتون التي يستبدل لبها بالحشيشية. ومع انتهاء حقبة المشنوق بدأت الأمور تعود تدريجياً إلى سابق عهدها. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها