السبت 2020/02/01

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

الهيلا هو و17 تشرين: السلميّة والشغب وتقصير البنطلون! (2)

السبت 2020/02/01
الهيلا هو و17 تشرين: السلميّة والشغب وتقصير البنطلون! (2)
ما جرى حتى اليوم، سلمي مع قدر مشروع من الشغب الودود وغير الودود (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

ملاحظة قبل البدء بقراءة السطور التالية: لا يعد ما كتب أدناه تحريضاً على ارتكاب العنف ولا تشجيعاً له، انما هو قراءة تحليلية ذاتية منحازة لمسارات الأمور. أنا مواطنة أيضاً! (وينصح في كل الأحوال قراءة الجزء الأول).

عيونٌ على العنف/عنفٌ على العيون
في الموجة الثانية من انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 اللبنانية، أحزن كُثراً مشهدُ شجرةٍ يقتلعها متظاهرون ليجابهوا بها قوى الأمن، الذين منعوهم من الوصول إلى مجلس النواب لتعطيل جلسته المقررة. والحزانى أنفسهم استشاطوا غيظاً من استخدام المتظاهرين مستوعبات نفايات وإشارات سير دروعاً وحاملات حجارة. وهم نفروا من تحطيم زجاج بعض المصارف، تحفظوا واستنكروا. لكن أياً من المستنكرين لم ينتبه إلى أن من سموهم "مرتزقة"، كانوا عراة إلا من شجاعتهم في مجابهتهم عناصر قوى الأمن، الذين قُدموا أضاحي لأركان السلطة.

بشجرة هزيلة، بمستوعب نفايات، بمفرقعات نارية، وبمضرب تنيس، كان أولئك المتظاهرون يواجهون العنف الأمني الرسمي . لم يحملوا من بيوتهم سكاكين، ولم تكن لديهم أسلحة متطورة ولا ذخيرة مخزّنة من أيام حروب لبنان الأهلية، ولا تلقوا تدريبات دورية في معسكرات صحاري البلاد المجاورة، ولا حصلوا على تمويل خارجي، ولا أنشأوا وسائل إعلام تتكفل ببث سموم الحرب.

أتوا لا يملكون سوى عيونٍ ونظراتٍ شاخصة إلى مجلس النواب، مصدر السلطة التشريعية. لكن لم يكن مناسباً أن تشخص العيون إلى أي من مقرات السلطة. لذا وجب إطلاق النار على العيون.

حاول أركان السلطة اللبنانية استنساخ النموذج المصري للعام 2011، حينما خُصِّص قناص لاصطياد عيون المنتفضين. لكن النظام الديموقراطي الليبرالي اللبناني لا يحتاج إلى التلطي خلف كائن يختبئ في ركن ما، في مبنى ما. فجعل المواجهة بين عيون عناصر قوى الأمن وعيون المتظاهرين. الرصاص المطاطي الذي يطلق في ظروف وشروط محددة، يطلق في لبنان على الجزء الأعلى من الجسم، ومن مسافة قريبة جداً: على العيون، على الصدور، على الأكتاف. المسافة قصيرة، لدرجة أن الجريح الذي تصيبه رصاصة مطاطية، قد يتلقى ضربة من قاذفها المعدني. فبلغ عدد الإصابات ما يزيد عن 400 جريح في الأيام القليلة المنصرمة من العام 2020، إلى جانب اعتقال أكثر من 120 شخصاً.  أربعة فقدوا عيونهم. قبل ذلك كان استشهد رجل عنده أولاد وأحفاد. وفقد شاب رجليه. وتلميذ جامعي آخر لم يعد قادراً على المشي. وهنالك من رأى إصبع أحدهم يطير في الهواء. رأس شاب يصرخ بين أجسام عشرين من عناصر مكافحة الشغب. هل تتذكرون هذه الصورة؟ عن أي عنف نتحدث؟ 

عن الاعتقالات التعسفية؟ الترهيب في غرف التحقيق؟ تهديد فتيات بالإغتصاب؟

ما ينصف المتظاهرين "المندسين"، "الزعران"، هو أدواتهم: إشارات السير التي استُخدم بعضها دروعاً تحاكي غياب مثيلاتها في مناطق أقل حظوةً. مضارب التنيس تخرج عن وظيفتها "النبيلة"، "الأرستقراطية"، لتكون عنصر شغب يغازل الآر بي جي والغاز المسيل للدموع. مستوعبات النفايات التي استخدمها "المرتزقة"، تصير قريباً أداة جمع نفايات المحارق وصفقاتها التي يجهد الوزراء دائماً وأبداً لتمريرها. الشجرة المقتلعة تخجلها المليون شجرة الموعودة بالاقتلاع في مشروع بسري - الصفقة.

نسي معظم الممتعضين من هذه المشاهد - وهم من المتظاهرين ودعاة الثورة السلمية - أن الناس تتظاهر منذ ثلاثة أشهر احتجاجاً على أعوام البطش والوقاحة،  وتشهد على ارتفاع سعر الدولار، وعلى سقوط الحد الأدنى من الخدمات الأساسية إلى الحضيض. ولم يخجل أحد من تناطح أهل السلطة على الحصص الوزارية!

ثورة ديليفري
الناس تخاف. من الحرب، من التوظيف السياسي، من الطوابير الخامسة والسادسة والسابعة، ومن "حرف مسار الثورة"، الخ.

بعد ساعات على أحداث 18 كانون الثاني 2020،  قدم رؤساء الأجهزة الأمنية تقارير عما جرى ليلتي السبت والأحد. فشاع خبر عن "دور حزب مدني حديث الولادة ومسؤوليته عن تحريضِ من قاموا بأعمالِ الشغبِ وتمويلهم ودعمهم". وجرى الحديث عن "تخوف كبير من الانتقال إلى أعمال أمنية من شأنها القضاء التام على الاستقرار المُتبقي في البلد".

حسناً. قد تكون هذه الفرضية صحيحة. وقد نكون غير واقعيين إذا افترضنا أن حركة احتجاحية ضخمة واستثنائية بحجم ثورة تشرين، تظل نقيّة من أي تدخل أو استغلال أو محاولات حرفها عن مسارها. وشاع خبر شبيه عندما هوجم مصرف لبنان في شارع الحمراء. فاتهم البعض أن هنالك مصلحة لحزب الله في اسقاط حاكم المصرف. وتساءل كثر لمَ التركيز على رياض سلامة.

لكن مراكمة الثورة في كل يوم اتهاماً جديداً يجمع الأطراف السياسية المتناحرة، فهذا يُعدّ نقطة في حسابها وليس عليها!  

هذا مع العلم أن لا مسار واضحاً ومحدداً مسبقاً لما تأتيه الثورة في أيامها، ليصح الكلام على حرفها عن مسارها. لم يأتِ متداولو هذه الأقوال بأي جديد. ويظهر من أبدى تحفظه وانسحب من الثورة، على أساس هذه الأقوال أو ما يماثلها، كمن يريد الانضمام إلى ثورة "فاست فود" أو "ديليفيري" موضبة في أكياس ورقية تحوي عبوات بلاستيكية وكفوف ومنظف لليدين، وحبة نعناع لتجنب الروائح الكريهة. وجبة سريعة خفيفة، بسعرات حرارية ضئيلة.

ثورة سلمية؟
ما نحن بصدده يا أصدقائي مخاض. مخاض ولادة شعب 17 تشرين في وقتٍ متأخرٍ من عمر وطن. وطن من الألم والمخاطر والخسارات. والخوف تتسع  رقعته كلما انتشر المخاض في الشوارع والساحات. الخوف حقٌ مشروع، والخروج منه خيار. من يصرّ على التمسك بالخوف من انحرافات الثورة، لا يتحمل مسؤولية حمايتها. ينسحب بكل بساطة. يتمسك بسلمية تستطيع السلطة تذويبها واحتواءها بسهولة، ويخوّن كل من يتبنى سلوكاً أكثر راديكالية، بتسميات كـ"الأزعر" و"المندس" وسواها، وبتوزيع فحوص بنوّة، فيما هو ينقضّ على الثورة.

يتناسى صاحب/ة هذه المقولة أن ما جرى حتى اليوم، سلمي مع قدر مشروع من الشغب الودود وغير الودود -  كالشتيمة - وحبذا لو يتجاوران دائماً.

أما العنف فعلينا البحث عنه في مكان آخر: عند من يضع حراساً لحماية المصارف، ولا يضع حراساً لإجبار الصيارفة على صرف الليرة بسعرها الرسمي. وعند من يسمح بخروج مليارات الدولارات من البلاد، فيما المصارف مقفلة. وعند من يحرم أمثال حنين الأحمر من حقها في سحب ألفي دولار من حسابها لدفع كلفة دوائها الشهري.  

ماذا علينا أن نتوقع نحن من ننادي بثورة سلمية؟ أن تجبر السلمية النظام السياسي على الاستقالة، وإجراء انتخابات مبكرة؟

لنتخيل بعض السيناريوهات السلمية. ولنضع المئة يوم ويومين جانباً، واستنفاذ السبل السلمية: من غناء، وإقفال طرق، وتوزيع ورود، وتنظيف شوارع بعد التظاهرات، وإنشاء أعمال فنية من بقايا الخيم المحروقة. لنضع هذا كله جانباً ولنسترجع بعضاً من الحراكات السلمية الناجحة، وسجلها التاريخ المعاصر:

عام 1986 استقال الرئيس الفيليبيني بعد أربعة أيام من احتجاجات ضمت مليوني متظاهر من أصل 55 مليون نسمة. في لبنان تظاهر ما يقارب نصف الشعب اللبناني أو ثلثه، ما يزيد عن الشهر في المناطق اللبنانية.

وعام 2003 قدم رئيس جمهورية جورجيا  إدوارد شفيرنادزة استقالته مجبراً، بعد ما عُرف بثورة الورود التي اقتحم محتجوها البرلمان، بعد عشرين يوماً من الاحتجاجات على نتائج الانتخابات التي جرى التلاعب بها.

كم مرة تلاعبوا بالانتخابات اللبنانية؟ لو اقتحم اللبنانيون المجلس النيابي حاملين وروداً، هل يستقيل رئيس مجلس النواب شبه الأبدي؟ هل يستقيل رئيس الجمهورية الذي لم يصدق وصوله إلى القصر؟
لن أجيب.

ربما يجب أن أترك الإجابة لأهل النبطية وجل الديب وطرابلس، الذين تناقلوا الهتافات في ما بينهم، وأشهرها تلك التي هتف بها تميم عبدو من طرابلس: "معلّمي معلمي معلمي، إنت حرومي (حرامي باللهجة الطرابلسية) على علمي".

نظريات وحيرة
قالت حنة آرندت في كتابها عن العنف: "السلطة والعنف نقيضان: حين تحكم الأولى بشكل مطلق يغيب العنف، الذي يظهر حين تصبح السلطة في خطر". ورغم اعترافها بمشروعية العنف في أماكن كثيرة، انتقدت آرندت سارتر حين أبدى سعادته بجملة فرانز فانون الشهيرة، في كتابه "المعذبون في الأرض": "العنف، كحربة أخيل، قادر على شفاء الجروح التي تسبب بها". وتتجلى جملته هذه أكثر فأكثر في قوله: "الرجل المستعمَر يجد حريته في العنف".

بعيداً عن تفاصيل الجدل الحاصل بين موقف فانون وآرندت ونظريات العنف الكثيرة التي وضعها كل من آرندت ووالتر بنيامين وتأثر بها فانون - فبتنا نميز بين عنف أدواتي ((instrumental violence وعنف جذري، وعنف إلهي، وعنف أسطوري، وعنف مضاد للإستعمار (أنتي - كولونيالي) -  يفرض واقع الأحداث وراهنيتها تعاملاً مغايراً، يبتعد قليلاً عن النظريات ويعود اليها بخفة، بين حين وآخر.

لنقل إنّ هنالك موقفين: موقف يحذر حذر آرندت من العنف، رغم تأييدها بعض حالاته، معتبرة أنه غير مضمون النتائج. ورأي آخر يمجِّده كضرورة.

لكن علينا دائماً أن نتساءل: عن أي عنف نتحدث، وأين، وفي أي وقت؟
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها