الخميس 2020/12/17

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

شابة لبنانية تولد كلَّ لحظةٍ في فوضى القاهرة الساحرة

الخميس 2020/12/17
شابة لبنانية تولد كلَّ لحظةٍ في فوضى القاهرة الساحرة
مدينة تعرض مشاهدها المتدفقة التي تجتاح حواسك كلها (Getty)
increase حجم الخط decrease
تروي هذه السطور سيرة شغف شابة لبنانية بمدينة القاهرة التي أقامت فيها سنوات ست (2008 - 2014)، وشاركت بقوة في ثورة 25 يناير 2011 المصرية. وهي روت شغفها ومشاركتها هاتين في معرض روايتها وقائع نشاطها في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 اللبنانية في بيروت (راجع "المدن" 17 تشرين الأول 2020).

ولدت الشابة في العام 1983 في محلة الظريف ببيروت. سجلُّ نفوسها في عاليه. ونشأت في بيئة عائلية وأسرية درزية لا تمتلك ثقافة سياسية، ولم ينخرط أي من أفرادها في حركة أو حزب سياسيين. ولا تديّن في أسرتها التي تنتمي إلى الفئات المتوسطة اللبنانية، عندما كانت هذه الفئات موجودة بعد في لبنان. وعائلتها الموسعة توالي ولاءً انتخابياً الحزب الاشتراكي الجنبلاطي، أو الجنبلاطية.

وتلقت الشابة تعليمها في مدرسة راهبات البيزنسون في وادي أبو جميل ببيروت. ودرست الفنون المسرحية بمعهد الفنون - الجامعة اللبنانية، في الروشه، قبل مغادرتها بيروت وإقامتها في القاهرة.

فوضى القاهرة الساحرة
تروي الشابة: في العام 2008 دعاني أصدقاءٌ مصريون لتحضير عملٍ مسرحي وعرضه في القاهرة. لم ينجز المشروع، والدعوة التي كانت مدتها شهراً لم أعد في نهايتها إلى بيروت، وامتدت إقامتي في القاهرة سنواتٍ ستٍ متصلة، بلا انقطاع. فعملتُ وعشت حياتي طولاً وعرضاً في دوائر كثيرة واسعة، متقاطعةِ العلاقات والصداقات والمشاريع، وصرتُ قاهرية أتكلم اللهجة المصرية. وعندما يسألني أحدٌ اليوم، أو أسأل نفسي: لماذا وكيف عشت في القاهرة تلك السنوات كلها؟ لا أجد سوى ذلك الجواب المصري الساخر والحقيقي: كنت في السكة وتأخرت، ودام تأخري ست سنوات.

سحرتني القاهرة، المدينة التي لم أكن أعرف أحداً فيها تقريباً، وتعرّفت على أشخاص وناس كثيرين من أهلها وناسها، فصرتُ منهم، وذبت مثلهم في الخلق، على ما يقول المصريون، وفي نبض الشوارع التي يتدفق فيها البشر ليل نهار. وتعلقت بالقاهرة، فابتلعتني بلا إرادةٍ مني ولا مقاومة. مخيفة هذه المدينة كم هي جميلة وساحرة بفوضاها الهائلة والمنظمة كيفما اتفق، من دون أن ينظّمها أحد. فوضى عارمة محسوسة أو حسية لاهثة، تخترق الجسم والحواس كلها، وتأخذك في تيارها اللاهث. وهي مدينة مجنونة بفوضاها المنظمة تلقائياً، ولا تنام. لا نظام سير فيها، وفيما تسيرُ في شوارعها تقول إن لا أحد يجيد قيادة السيارة، ويقودها على هواه وكيفما اتفق في بحر السيارات المتدفقة في الشوارع، وتستغرب نسبة حوادث السير المتدنية، قياساً إلى تلك الفوضى المهولة، وعدد سكانها واكتظاظها المهول. حتى أنني رحت أقول لو أن أحداً قاد سيارته ملتزماً بنظام ما للسير، فسوف يتسبب بتصادم عددٍ لا يحصى من السيارات، وبصدم عددٍ كبير من المشاة بين كوبري قصر النيل وميدان التحرير، مثلاً.

أقمتُ سنواتي الست في ضواحي وسط البلد القاهري، في السيدة زينب، وفي كثرةٍ سواه من الأحياء الشعبية، بعدما كنت قد نزلت أسبوعين أو ثلاثة في البداية، ضيفة في بيت صديقةٍ لبنانية في المعادي. واستغرقتني ورشُ عملٍ وتدريب وعروض كثيرة في فرق "الاندرغرواند" الشبابية، الفنية والثقافية، بين التصوير والميديا والموسيقى في القاهرة التي انخرطت في بعض دوائرها وعشت همومها وشؤونها وشجونها، قاهرية بين أصدقائي القاهريين. وسرعان ما انتبهت إلى شيوع ثقافة الفرق الفنية والثقافية شيوعاً واسعاً، وتقاطع علاقاتها وتداخلها، بين الأجيال الشابة في القاهرة، مشكّلة غابة من دوائر مستقلة، متباعدة ومتصلة، للعمل والعلاقات والعيش في عالم المدينة المترامي.

بين القاهرة وبيروت
لا يمكن مقارنة تلك الغابة من الدوائر والفرق في عالم القاهرة "التحتي"، بمثيلاتها الضيقة والمحدودة والصغيرة في بيروت، التي سرعان ما بدت لي  قرية صغيرة، مقارنة بالقاهرة. وحتى الساعة لا أفهم اللبنانيين الذين أسمعهم يتحدثون عن زياراتهم القاهرة، وعن إقامتهم فيها أوقاتاً متفاوتة، قائلين بقرفٍ وتعالٍ إنها مدينة بشعة، وسخة وفوضوية، فحسب. لذا أجدني أتساءل دائماً: كيف لم ينتبهوا لسحر هذه الفوضى المدينية الحسية اللاهثة، التي لا يتوقف فيها دبيب الحياة، ولا تكفُّ عن الكلام؟! فهي في كل لحظة ومكان من أماكنها وبشرها، تتكلم وتخبر عن نفسها، تقول وتحدّث العابرين في شوارعها وأحيائها، بلا توقف، ومن دون أن تخفي شيئاً أو تمسك عن قوله، فتسخر وترفع صوتها معلنةً تشوهاتها وتاريخها وآلامها، بعبثية لاهية مقهقهة، أو تبعث على القهقهة.

وفي القاهرة اكتشفت معنى الحياة والعيش في مدينة، وانتبهت إلى أن هذا ما كنت افتقده في بيروت التي إن كانت مدينة، فهي، مقارنة بالقاهرة، تكاد تكون مدينة صغيرة، بدوائر منفصلة أو ضعيفة الأوصال، باردة وصامتة،  وتخفي أو تستبطن أكثر من ما تعلن وتظهر وتقول. وكأنها مدينة متشاوفة، وتتباهى بتشاوفها. وقد أكون اكتشفت حسياً وبالملموس معنى كلمة أو مفهوم الشعب والحياة الشعبية في القاهرة. وهذا ما لا أحسّه وأعرفه في بيروت، وأظن أنه ليس موجوداً فيها.

فاللبنانيون عامةً، غالباً ما يعيشون في مثالاتهم وصورهم عن أنفسهم، ويتبادلونها على مسرح الحياة المدينية. وهم غالباً ما يعيشون في جزر تسوّرها هذه الصور والمثالات المتحاجزة. أما في القاهرة فالناس عامةً تلقائيون في سعيهم وحركتهم ولهاثهم الفوضوي اللاغط، ولا يتوقفون عن الكلام والخبر عن أنفسهم، بلا تردد ولا حواجز وبلا صور ومثالات تتعالى على أنفسهم وعلى الواقع.

مدينة عبث الأقدار والتاريخ
واختبرت في القاهرة المشي وحدي في الشوارع والحواري، والجلوس وحدي في مقاهي الأحياء الشعبية الرثة بالمعايير اللبنانية، وفي مقاهي وسط البلد. مقاهٍ تحادثُ العاملين فيها بتلقائية وأريحية لا أثر لها في بيروت. وبقدر ما تنشأ صلة تعارف وتواصل مع أولئك العاملين، قدر ما تتوقف تلك الصلة التلقائية السهلة والعادية على مدخل المقهى، فلا تتجاوزه. وما أن تخرج إلى الشارع حتى تصير شخصاً مجهولاً في تيار البشر والخلق المتدفق، فتبادرك المدينة بعرض مشاهدها المتدفقة التي تجتاح حواسك كلها، فتقيم حواراً صامتاً مع كل مشهد يخبرك حكاية وقصة عن المدينة والناس، وعن عبث الأقدار والتاريخ.

وأنا من لا أنام إلا قليلاً، كنت أخرج من بيتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فأمشي في شوارع القاهرة، سانحةً عن نفسي ومن أكون، فأجلس في مقهى، أو أدخل إلى صالة سينما، فأجد فيها عائلاتٍ ونساءً مع أولادهن. وعندما أخرج من الصالة أسير مجدداً في الشوارع للوصول إلى بيتي. أحياناً كنت أتعرض للتحرش، لكن نوع ذاك التحرش كان عابراً وطفيفاً، ولا يقاس بما أخذ يحدث بعد ثورة 25 يناير 2011، قاسياً ومنظماً ويبعث على الرعب. وعلى الرغم من أنني لم أعش كأجنبية في القاهرة، كان كل من سحنتي وملبسي وحركة جسمي في الشارع يقول أنني أجنبية، من دون أن أكترث بذلك، أو أتصرف وأسلك على  منواله ومثاله. ولربما كان ذلك يحميني بعض الشيء ويحصِّنني. فالأجانب والأغنياء في القاهرة يعيشون منفصلين عن عموم الشعب والفقراء. حتى فيما هم يمشون بينهم في الشوارع، تحميهم حصانتهم السائرة والمعترف بها بقوة لافتة.

أذكر أنني في الأشهر الأولى من إقامتي في القاهرة، سمعتُ بعض أصدقائي وزملائي يقولون: لازم نسلّم على حضرة اللوا(ء)، أو سيادة اللوا(ء). فسألتهم/هن: شو يعني اللوا(ء)؟! وسرعان ما علمت أن كثرة من شؤونهم ونشاطاتهم الفنية تحتاج لانجازها وعرضها أحياناً في أماكن محددة، إلى إذنٍ أو تدخل ما من هذا اللواء المتقاعد أو ذاك في الأجهزة الأمنية أو الجيش. ورحنا نسخر ضاحكين كلما سمعوني أقول: أين سيادة اللوا(ء)؟ هيا لنسلّم على سيادة اللوا(ء). وعندما تعرفت وعايشت لاحقاً مجموعات من دوائر الاعتراض والاحتجاج السياسي الشبابية - وهي اصلاً تتخالط وتتقاطع كثيراً مع دوائر النشاطات الفنية والثقافية - رحت أستغربُ بعض أساليب احتجاجاتهم وأسخر منها، وخصوصاً تلك التي يقومون بها داخل نقابة المحامين أو نقابة الصحافيين، حيث يروحون يهتفون ويصرخون خلف الجدران والأبواب المغلقة، ولا يقوون على الخروج إلى الشارع. وكنت أعلم أن سخريتي هذه مصدرها لبنانيتي، وتجربتي اللبنانية في المجموعات الاحتجاجية الشبابية والطلابية ما بين سنوات 2005 و2008 في بيروت.

في كل لحظة أولد من جديد
لكنني في القاهرة نضجتُ وكبرت واتسعت تجربتي الحياتية، أكثر بما لا يقاس من ما في بيروت. ففي القاهرة صرت شخصاً آخر تماماً، كأنني ولدت من جديد، مستقلةً بحياتي وخياراتي التي تبين لي أنها كانت ضيقة ومحدودة في بيروت، على الرغم من تمردي وحريتي في تجربتي البيروتية. ففي أدغال القاهرة العمرانية والبشرية، في دوائر أصدقائي وزملائي، عشتُ حياة كثيفة واسعة أين منها حياتي في بيروت؟! فالتنقل في وسائل النقل القاهرية على اختلاف أنواعها وصخبها وازدحامها مثلاً، عالم من المشاهدات والحوادث والتجارب اليومية التي لا مثيل لها في بيروت، حيث يعيش الناس ويتنقلون في الأماكن العامة ووسائل النقل، محفوفين بهالات يحرصون على أن تبديهم وتظهرهم أناساً محترمين في سلوكهم وملبسهم وتصرفاتهم، لكنها غالباً ما تكون مفتعلة، وتخفي حقيقتهم. وحدهم الأغنياء الجدد يعيشون ويسلكون ويتصرفون على هذه الحال في القاهرة. أما الغالبية الساحقة من المصريين فلا شيء من هذا في حياتهم وسلوكهم. فهم يعيشون حياة مجبولة بقهرٍ حقيقي ومسراتٍ حقيقية.

وبعد سنتين من إقامتي في القاهرة تعرّفت على صديقي عمران القاهري والعازف على آلة موسيقية، فصار أصدقاؤنا الذين نعيش ونعمل بينهم يقولون إنني مصرية وعمران لبناني، لأنه يتصرف بهدوء، كأنه أجنبي، على خلافي أنا الصاخبة على الطريقة المصرية أو القاهرية، وأُقبِل على الشجار أحياناً. وهذا ما أقدمت عليه مراتٍ في الأحياء الشعبية التي أقمت فيها. فلما سمعتُ جارتي تقف مراتٍ على شرفة بيتها، قائلة لجاراتها عني: بصوا بتلبس إيه، بصوا شعرها، بصوا عاملة إيه بنفسها، عيب يا ولية، عيب اختشي! سرعان ما وقفت وسط الشارع في الحي والتفتُّ إليها صارخة: عيب إيه يا ولية انت، غوري من وشي، غوري. وسرعان ما التمَّ الشارع على صراخنا، واختفت المرأة عن شرفة بيتها، وتابعتُ طريقي.

وعندما كانت أمي تتصل بي من بيروت، قائلة: كيف بعدك عايشة بمصر، شو عم تعملي بمصر؟!، غالباً ما كنت أقهقه قائلة لها: أنتِ لا تعلمين في أية متعةٍ وسعادة ومفاجآت أعيش. في كل لحظةٍ أقطع الشارع من رصيفٍ إلى رصيف إلى رصيف، يُكتب لي عمرٌ جديد، وأولد من جديد.
(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها