هذه الباصات التي لاحت من شبابيكها رايات سوداء وبيضاء ترفع شعارات "لا إله الا الله" و"لبيك يا رسول الله"، وصدحت منها صرخات الغضب والولاء للنبي محمد، ضمت شباباً في العشرينات من أعمارهم، وربما يعيش معظمهم في ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة للغاية.
"النأي بالنفس"
ورغم الطابع المحافظ لعاصمة الشمال، ذات الغالبية السنّية، كان لافتًا أن الدعوات الرسمية لنصرة النبي اقتصرت على حزب التحرير (الذي ينادي بإحياء "الخلافة الإسلامية")، وبعض الجمعيات الأهلية. ولم تبادر أحزاب سياسية وقيادات سنية رسمية أخرى للدعوة لأيّ نوع من هذه التظاهرات، لأسباب تبدو مفهومة. من جهة، صارت تتحاشى معظم هذه القيادات أن تصبغ نفسها بالهوية الإسلامية – المحافظة، ويفضل معظها إطلاق المواقف الرسمية المنددة بالتعرض للنبي، وبالوقت ذاته تدين أي عمل إرهابي باسم الدين. ومن جهة أخرى، يبدو واضحًا أن نسبة كبيرة من أهالي المدينة صاروا يتحاشون المشاركة في تحركات ذات صبغة دينية، قد تضعهم تحت مجهر الملاحقات الأمنية، لا سيما بعد سلسلة الاعتقالات التي نفذتها الأجهزة الأمنية بحق مئات الشباب إثر تفكيك خلية كفتون الإرهابية.
واليوم بعد صلاة الجمعة، نظمت حركة تجمع "أمان" بمشاركة جمعيات كشفية وقوى أهلية وشعبية، مسيرة سلمية في طرابلس تحت شعار "على خطى القائد رغم الحاقد، لبيك يا رسول الله"، بمشاركة ممثل قائمقام مفتي طرابلس والشمال الشيخ عبدالهادي غزاوي. وانطلقت المسيرة من المسجد المنصوري الكبير، مروراً بمحلة الحدادين وساحة الكورة والتل وصولاً إلى الزاهريةز وأكد المتظاهرون على رفض المسلمين لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووصفوها بتصريحات تغذي التطرف الذي يرفضه المسلمون. رئيس حركة تجمع "أمان" الشيخ محمد الحزوري، قال: "إن المسلمين يرفضون التعرض والاساءة لدينهم وشريعتهم، كما يرفضون التعرض للشرائع السماوية، فالإسلام دين الاعتدال".
حزب التحرير
أمّا حزب التحرير الذي قرر التوجه إلى بيروت للمشاركة في التظاهرة أمام قصر الصنوبر، فيبدو أنه وجد فرصة لإعادة تعويم نفسه في الشارع السني، لا سيما أن حضوره في السنوات الأخيرة صار متراجعًا، وشعبيته تقتصر على محازبيه فقط، وهم في الأصل قلّة. وتحرك هذا الحزب الذي تسمى قيادته السياسية بـ"الإمارة"، تنديداً لما يحصل في فرنسا، يبدو بديهياً، لا سيما أن الهدف من مشروعه "الكبير" هو إقامة دولة الخلافة الإسلامية وتوحيد المسلمين تحت مظلة الخلافة، "اقتداءً برسول الله"، على أن يتجنب ما يسميه بـ"الأعمال المادية" مثل الأعمال المسلحة لتحقيق غايته، وفق مشروعه.
المعروف، أن حزب التحرير أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني، وهو فلسطيني من مواليد قرية إجزم قضاء حيفا عام 1952، تفرغ لرئاسته وإصدار الكتب والنشرات، التي تعد المنهل الثقافي الرئيسي للحزب. بعد وفاة النبهاني ترأس الحزب عبد القديم زلوم عام 1977، وفي عام 2003 آلت الرئاسة إلى عطا خليل أبو الرشتة.
يتبنى الحزب التوجه الإسلامي، ويؤكد في أدبياته على أنه عمله يقوم على "حمل الدعوة الإسلامية، لتغيير واقع المجتمع الفاسد وتحويله إلى مجتمع إسلامي، بتغيير الأفكار الموجودة فيه إلى أفكار إسلامية، حتى تصبح رأياً عاماً عند الناس، ومفاهيم تدفعهم لتطبيقها والعمل بمقتضاها، وتغيير المشاعر في المجتمع حتى تصبح مشاعر إسلامية ترضى لما يرضي الله وتثور وتغضب لما يغضب الله، وتغيير العلاقات فيه حتى تصبح علاقات إسلامية تسير وفق أحكام الإسلام ومعالجاته".
وللتذكير، فإن حزب التحرير ذات الوجود المحدود في لبنان، حصل على ترخيصه كحزب سياسي في لبنان في العام 2006.
معارك وهمية
في المقابل، ورغم كل الدعوات التي تسعى لإثارة مشاعر المسلمين السنّة، تبدو طرابلس بائسة، فيما ينشغل أبناؤها بفقرهم المدقع، وخيباتهم التي تراكمت بعد هزيمة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. وتلك الانتفاضة، رفعت جزءًا كبيرًا من مظلومية هذه المدينة، بعد أن أثبتت أنها مدينة متنوعة عابرة للطوائف، ومدينة متمردة قادرة على صناعة الثورة، وتوجيه بوصلتها ضدّ السلطة.
لكن، كما حصل في كل لبنان، تمكّن اليأس من طرابلس. وهذا ما تجلى في المعارك الوهمية التي تديرها مجموعات في المدينة على صفحات التواصل الاجتماعية، وفتح سجالات عقيمة تصل إلى مستوى شنّ حملات هجوم مركزة تدور حول الخلافات في المواقف تجاه الأحداث التي تشهدها فرنسا.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها