أما الجامع الذي شيّد في الناحية الشمالية الغربية من الشياح، أي على الطرف الغربي من الطيونة خلف معمل غندور، فقد يكون شيّد مع تزايد أعداد الجنوبيين الوافدين منذ مطلع خمسينات القرن العشرين من قرية كفرصير وجوارها، ونزولهم كتجمع بلدي في تلك الناحية من الطيونة التي سميت حي الغندور، لقربها من معمل الغندور الضخم.
آل الخليل كانوا كبرى العائلات الشيعيّة من سكان الشياح "الأصليين" الشيعة، يليهم آل كنج، فرحات، الحركة، حاطوم، وكزما. بعض من هذه العائلات كان يستوطن برج البراجنة، قبل انتقال شطور منها للإقامة والتوطن في الشياح - الغبيري. أما آل علامة وشاهين وشطر من آل كنج، فتوطنوا في ناحية الطيونة شمال الشياح الغربي، قريباً من حرج صنوبر بيروت. في ناحيتين من أراضيهما الزراعية، أنشأ آل كنج وآل شاهين معملين للبلاط، قريبين من سكن كل منهما العائلي في الطيونة. وكانت كل من العائلتين تملك معملها ويتقاسم العمل فيه وتشغيله أبناء العائلة. وبين الغبيري وحارة حريك نزل آل درغام، فيما نزل آل رعد على جانبي طريق صيدا القديمة التي شطرت الشياح عن عين الرمانة.
كانت عين الرمانة خالية تقريباً من العمران وملاّكها من العائلات المسيحية، وغنية بالحقول وبساتين الفواكه، وبها عين ماء مشهورة لم تكن تكفي لري مزروعاتها، وخصوصًا أشجار الرمان الكثيرة في بساتينها. فشجرة الرمان كان يقال إنها "كلب مي"، لحاجتها إلى ماء وفير كان يجرّ بأقنية من قناطر زبيدة على نهر بيروت، لريها وإنتاج مواسم الرمان "البرادي" الأطيب في لبنان كله، والمشهورة أكوازه بقشورها الرقيقة وحبّها الزهري الكبير. وكانت قشور الرمان تستعمل في تصنيع عطورات في معمل يسميه الأهالي "معمل الريحة"، الذي كان قبالة معمل الغندور، وتفصل بينهما طريق صيدا القديمة.
رئاسة بلدية الشياح كانت من نصيب عائلاتها المسيحية، حينما كانت هذه العائلات أكثر عددًا وأقوى حضورًا وحراكًا اجتماعيين من عائلات الشياح الشّيعيّة التي آلت إليها، في مطلع خمسينات القرن العشرين، رئاسة البلدية بشخص محمود الحاج الذي تسلّم مقاليدها من جوزف نعيم، آخر رئيس مسيحي لبلدية الشياح. وفي مطالع عهد كميل شمعون الرئاسي (1952 1958)، انتخب المحامي محمود عمار - وهو من عائلات برج البراجنة، الموالية للحزبية أو الغرضية السياسية الشمعونية - كأول نائب شيعيّ عن ساحل المتن الجنوبي في البرلمان اللبناني. فقبل ذلك لم يكن لشيعة هذا الساحل مقعد نيابي، إذ كان لمحافظة جبل لبنان كلها نائب شيعي واحد، كان غالبًا من نصيب السيد أحمد الحسيني الذي ينتخب في بلاد جبيل الجردية.
وظل محمود عمار نائباً في البرلمان حتى مطلع تسعينات القرن العشرين، حينما عيّن مكانه محمود أبو حمدان البقاعي، محازب حركة "أمل"، والذي لم يكن يعرفه سكان المنطقة وأهلها "الأصليون"، بل عُيّن نائباً عنهم في موجة التعيينات النيابية التي دبّرها وكلاء النظام السوري بعد اتفاق الطائف في نهاية الحروب الأهلية الملبننة العام 1990، قبل أن تؤول المقاعد النيابية الشيعيّة كلها في ساحل المتن الجنوبي لـ"حزب الله" و"حركة أمل".
هجران الأرض وتقديسها
فيما كان أهالي الشيّاح المسيحيون ينسلخون عن الأرض، ويبتعدون من نمط الحياة الريفية الزراعية - وقد يعود بدء ذلك في مجتمع جبل لبنان المسيحي عمومًا، إلى نهضة إنتاج الحرير وتجارته والأعمال الزراعية المتصلة به في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن ثم الانهيار البطيء لأعماله وإنتاجه، ما بين إنشاء دولة لبنان الكبير (1920) ومطالع الأربعينات - تحوّل أهالي الشياح الشّيعة في الثلاثينات والأربعينات إلى زراعة الخضر على نطاق واسع في أرضهم، وراحوا يبيعون إنتاجها في أسواق بيروت، مقيمين على نمط عيشهم الأهلي، البلدي والزراعي.
وكان المسيحيون في الشياح وقرى ساحل المتن الجنوبي أقدم عهدًا من الشيعة في التوطّن والإقامة وحيازة الأملاك الزراعية، وأطول باعًا وأرسخ خبرات في دورة إنتاج الحرير وتجارته، وفي انخراطهم المبكّر في التعليم الكنسي والأرسالي المحدث. وهذا ما مكنهم من العزوف عن نمط الحياة الزراعية المحلية، والانطلاق في مسارات ومسالك أخرى: انتقالهم إلى مناطق أخرى، والهجرة والاغتراب، وبيع أرضهم وأملاكهم، أو تركها مهملة، معلّقة أو مهجورة.
وعلى خلاف فكرة رائجة، لم يكن الفقر والعسر الماديان، باعث المسيحيين على طلاقهم نمط الحياة الزراعية وفكِّ التصاقهم بالأرض والإرت العائلي، وإقبالهم على نمط عيش جديد، ولا باعث طلبهم الانتقالَ والرحيل الهجرة.
لكن هذه، أي الانتقال والرحيل الهجرة، لم تؤدِ إلى تفكك علاقاتهم الأهلية، البلدية والقرابية، بل أدت إلى تذويبها وصوغها وإدراجها، منذ القرن التاسع عشر، في إطار أو تنظيم اجتماعي أهلي أوسع: العصبية الطائفية أو المِلّيّة الجامعة. ومثال هذه العصبية أو نموذجها هو الطائفة المارونية. ومن أعمدتها الكنيسة والسلك الرهباني والبعثات التبشيرية الدينية والتعليمية الأوروبية.
لكن هذا كله - أي انسلاخ المسيحيين عامة عن الأرض، وطلاقُهم نمط الحياة الفلاحية والزراعية، وإقبالُهم على التعليم والمهن والأعمال المحدثة، وعلى موجات الانتقال والهجرة الداخلية والخارجية، وصوغهم التنظيم والعصبية الطائفيين الجديدين - أدى إلى ظاهرة لبنانية مسيحية مفارقة أو فُصامية: انسلاخٌ اجتماعي عن الأرض والمواطن البلدية، الطبيعية والريفية وتركها، وإنشاء "كيانية" وطنية جغرافية وطبيعية، محدثة وجامعة، هي الوطنية اللبنانية المسيحية، والمارونية التأسيس. وهذا في مقابل تكريس خطاب عاطفي وجداني مداره التعلّق بالأرض والطبيعة، تمجيدهما والتشبث بهما والانغراس فيهما والحض على عدم هجرانهما، واعتبارهما الملاذ العاطفي والوطني الأول والأخير، بعد الانسلاخ عنهما وهجرانهما فعلًا وعملًا.
فالخطاب الأدبي والفولكلوري اللبناني الذي استغرق في مديح الأرض والموطن والطبيعة وتمجيدها والتشبث بها، وبنمط الحياة الريفية البلدية والافتتان بها، ليس وليد استمرار الإقامة والتوطن واتصالهما، بل ولّده الانتقال والانقطاع والانسلاخ والنزوح عن الأرض والموطن، تركهما وهجرتهما.
وقد تكون هذه المفارقة التي لا تخلو من أصداء بعيدة متجددة للبكاء على الأطلال في الشعر العربي الجاهلي، مرآة فصام ثقافي ملَكَ على كثيرين من الكتاب والشعراء والرسامين اللبنانيين المحدثين لغتهم التعبيرية والأدبية والجمالية. وهي لغة استرسلت في إضفاء هالات من السحر والتقديس والعبادة على الموطن والأرض وعناصر الطبيعة ونمط العيش البلدي الريفي. وتكرس هذا مذهباً رومنطيقيًا إنشائيًا عاطفيًا، لا تخلو من رجع ديني وتدفق وجداني غزير. وقد يعود تأسيس هذا المذهب الأدبي إلى الكاتب أو الأديب والرسام المهجري جبران خليل جبران، وسواه من المهجريين في مطالع القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى. ولم يلبث هذا الإنشاء اللغوي العاطفي أن شاع خطابًا أدبيًا عامًا وفي أوساط الكتاب والمثقفين اللبنانيين المسيحيين خصوصاً، وفي الأدب اللبناني عامة، والمسمى نهضويًا، والمكرّس في المناهج التربوية المدرسية.
وفي الربع الثالث من القرن العشرين (1950 - 1975) تكرّست وشاعت لغةُ الحنين إلى حياة الضّيعة الريفية الهانئة الزائلة، مدرسةً عاميّة في الأدب والفن الفولكلوريين الرحبانيان بصوت فيروز الغنائي المائي الرقيق. وكانت لغة ذلك الحنين الحزين، وصفاء صوته الفيروزي "الملائكي" البريء، أقرب إلى مطهرٍ، لا يبعث العزاء ويواسي من فقدان الضّيعة الهانئة وزوالها فحسب، بل يبعثها حية راعفة في المخيلة والوجدان الجمعيين لأجيال متعاقبة من اللبنانيين. وقد أشاعت المدرسة الرحبانية وصوتها الفيروزي البريء، صورة ريفية بلدية هانئة للبنان، فتلقفتها أجيال عربية شابة متلهفة لمثل تلك الرقة البريئة الهانئة وصورها، التي استُعملت في الدعاية لبلد السياحة والاصطياف في ربوع الأرز والجبل والماء والخضرة والثلج.
في المقابل، عجز الأدب وسواه من أشكال التعبير في لبنان - حتى بدايات الحرب الأهلية (1975) - عن إنشاء لغة وأساليب تعبيرية جديدة، تخرج على التقليد الذي أرساه الأدب اللبناني في نصبه الحياة الريفية والطبيعة، بفطرتهما وبساطتهما وبراءتهما وصورهما الآفلة والحنين إليها، مثالًا للاجتماع وعلاقاته وأخلاقه، وللتعبير والمخيلة ولغتهما.
أما المدينة، العيش والإقامة والعمل فيها، فلم يجرِ تناولها إلا من زاوية ذاك المثال الغارب، شبه المقدس تقديسًا دينيًا، وبلغته وقيمه والحنين الراعف إليه. فإذا بالمدينة في الأدب اللبناني الريفي مرذولةٌ، ساقطة ومدنّسة وعاهرة أخلاقيًا: "أي موت شدّ يا بيروت رجليّ إلى ظهري رماني/عند قدميك أبيع الضحك/أزني بالأغاني؟/لست أمي/إنما أنت خياناتي لأمي/ولمن باع أمي واشتراني/لملمي ثدييك/ثدياك زجاج/وشفاهي سئمث من حلمة الكاتشوك من رضع القناني"، كتب الشاعر محمد العبدالله في نهاية الستينات اللبنانية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها