الأربعاء 2020/10/21

آخر تحديث: 14:42 (بيروت)

سِفر الخروج والتّطَهُر من بيروت

الأربعاء 2020/10/21
سِفر الخروج والتّطَهُر من بيروت
زيارات الكشف عن البيوت المعروضة للايجار غير قليلة في خريف حمانا (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
في الأيام الأولى من وصول وباء كورونا إلى لبنان، لم يكن عدد اللبنانيين الذين يصابون به يومياً يتجاوز العشرة. لكننا عشنا في هلعٍ غامض غموض الوباء الجديد في بدايات تفشيه عالمياً، واضطراب المعلومات الأولية عنه، وعن سبل الوقاية منه وإجراءاتها المنتقلة بالعدوى الإعلامية من بلدٍ الى بلدٍ، على إيقاع انتشار الوباء. وقد تزامن ذلك مع احتضار انتفاضة 17 تشرين اللبنانية الشبابية والشعبية العامة، وتلاشيها بعدما تراءت أيامها الأولى "المجيدة"، كنايةً عن "احتفال وداعي" للبنان العقود الثلاثة الأخيرة.

وبعد ذلك الاحتفال وانطفائه التدريجي شبه المأتمي، عشنا نحو شهر في تلاشي الحياة اليومية العامة، خمولها وشللها، فانكفأنا إلى حياة بيتية شبه بيولوجية، ملتزمين حال الإغلاق العامة للبلاد، استجابة لما سمّي "التعبئة العامة الصحية".

وكانت الحياة، حياتنا في تلك الأيام، تشبه في انقطاعها وعزلاتها البيتية، ذاك الخمول الذي كنا نختار أن نعيشه أحياناً في عطلات نهايات الأسبوع البيتية الهادئة، مستنكفين عن النشاط، حتى الترفيهي منه. لكن هدوء تلك الأيام الخامل، كان يشوبه قلق وخوف، لم  يبقَ سواهما في شوارع بيروت شبه الخالية والخاوية، في ذاك الطقس الربيعي الآسر الذي كان "صحوه يكادُ من الغضارة (النضارة) يمطرُ" (أبو تمام).

وبقيت في الذاكرة مشاهد كالظلال من تلك النهارات الهادئة: نور الشمس الربيعية اللطيف الزاهي، زرقة البحر، تفتح الحواس كلها، انسراح البصر مديداً في مدى مفتوح جوُّه نقيٌّ من السموم، خال من ضجيج الفوضى والتوتر، في شوارع بيروت. ومن مشى مرات ومرات على أرصفة شوارع المدينة وإسفلتها في تلك النهارات، يتذكر خلوَّها وهجرانها الزاهيين في وضوح نظيف نضر. كأنما المدينة المعتلّة، الموتورة والفوضوية، التي كانتها بيروت، جعلها الخواء والهجران والطقس الربيعي الذي ضاعفهما، في حال من البهاء المريض أو شبه المأتمي.

لكن ذاك البهاء المأتمي شرّع الحواس والذهن والمخيلة على تأملات وأفكار ومشاعر جديدة: عن الحياة والعالم والطبيعة والعلاقات البشرية والإنسانية، عن العزلة والوحدة وأشكال التواصل ونمط العيش، عن الذات والآخرين، عن الوقت والزمن والأماكن والعلاقة بها، عن الغياب والحضور، عن الحواس في علاقتها بالأشياء والأشكال وعناصر الطبيعة والفضاء العام، وصولاً إلى العلاقة بالجسم أو الجسد. وسوى أعداد المصابين اللبنانيين القلة يومياً بكورونا، كاد ألا يطرأ في تلك الأيام خبر محلي عام. ثم فُتِح المطار، وهبطت طائرات العائدين اللبنانيين إلى ديارهم وأهلهم، فتحولت إجراءات استقبالهم وفحوصهم وحجرهم الخبرَ اليومي الأول في البلاد.

غير أن ذاك الخمول في عزلاتنا البيتية، ويقظة الحواس في شوارع المدينة شبه المهجورة الخالية، أيقظا فينا إحساساً جديداً وغريباً: لسنا سوى ظلال، ونعيش حياتنا كالظلال. ومن نساكنهم ويساكوننا، نصادفهم ونحادثهم في أي مكان، صاروا ظلالاً عابرة. وفي عالم الظلال شبه الساكنة ذاك اكتشفنا تجربة عيش غريبة في خلوها من ربقة الوقت والتوتر والحوادث والمواعيد واللقاءات والالتزامات. وصار الوقت أملس لا نتوء فيه، وصرنا ظلالاً نعيش في "صحبة الظلال" (بسام حجار).

*****

وشيئا فشيئاً عُلِّقت إجراءات الإغلاق والتعبئة العامة. وعدنا شيئاً فشيئاً إلى ربقة الحياة المتوترة، وغادرنا حياة الظلال وعالم الظلال، إلى الواقع الحي، والانهيار المالي والاقتصادي، واحتجاز المصارف أموال المودعين، وإلى تخبط بقايا انتفاضة 17 تشرين، والضائقة المعيشية، وصرف أعداد كبيرة من الموظفين والعمال من وظائفهم وأعمالهم. وتكاثرت دعوات العودة إلى الزراعة الجنائنية والبيتية. وشاعت أخبار إعالة المعوزين بالمساعدات والإعاشة، إلى جانب التبشير بالجوع المقبل على لبنان واللبنانيين.

بعض من أعادهم إلى القرى الإغلاقُ العام والعزلة في المدينة والعطالة عن العمل فيها، شرعوا في قراهم بالزراعة الجنائنية في أرض بائرة حول بيوتهم. آخرون من شبان وشابات أحبطتهم/هن انتفاضة تشرين، أخذهم/هن الإحباط والحداد إلى حال من القنوط والسأم من الحياة المدنية، فلاذوا إلى طلب عيش هادئ مسترخٍ في منتجعات بحرية خارج بيروت أو بلدات جبلية.

*****

واكتمل اليأس والقنوط من لبنان، وبلغا ذروةً غير مسبوقة، حينما ضرب الانفجار المهول مرفأ بيروت مساء 4 آب 2020: ألوف القتلى والجرحى، والمشردين هلعاً ورعباً من منازلهم المدمرة أو المتصدعة. لكن بصمت تقريباً. كثرة من المنكوبين في أحياء بيروت، لاذوا بمنازلهم الصيفية في المناطق، أو بأقاربهم المقيمين فيها. سواهم لاذوا بفنادق ومنتجعات جبلية أو بحرية. آخرون راحوا يتحدثون عن حياة لم تعد تطاق في بيروت المنكوبة، ويفكرون في الهجرة. وعندما زار الرئيس الفرنسي المدينة وأحياءها المدمرة، سُمِعت صرخات نساء يدعونه إلى ترحيلهم إلى فرنسا، للخلاص من زعمائهم السياسيين القتلة والمجرمين والفاسدين.

بعض ممن خسروا قيمة مدخراتهم المحجوزة في المصارف - وكانوا سابقاً يسافرون في رحلات استجمام صيفية وسواها من المناسبات والعطل إلى الخارج، وصارت أسفارهم هذه من ذكريات زمن الوفرة - راحوا يفكرون في زمن الشّح والمحق بمخرج من اختناق حياتهم في المدينة التي تحولت ركاماً أحياؤُها المدينية الأساسية القربية من المرفأ، والتي كانت موطن الحياة الشبابية والترفيهية والليلية.

فئة من هؤلاء كانوا من محبطي ويائسي انتفاضة 17 تشرين، وعمّق انفجار المرفأ ودمار الأحياء القريبة منه إحباطهم ويأسهم من البلاد ومن حياتهم في بيروت. ومنهم من سارع إلى انجاز معاملات السفر أو الهجرة. ومنهم من عزم على مداواة إحباطه ويأسه أو التطهر منهما، بالابتعاد عن سوداوية الحياة والإقامة في بيروت، واللجوء إلى هدأة إقامة موقتة وتطهيرية في البلدات الجبلية ورخائها المفترض أو المتذكر، ولم تفقد بعدُ صلتها بالطبيعة وقربها منها.

وفي لقاءات معارف وأصدقاء بعد الكارثة البيروتية،  صرتَ  كثيراً ما تسمع كلاماً حائراً عن الرغبة الملحة في مغادرة البلاد. ومن ليس في وسعه السفر والهجرة إلى الخارج، تلِّح عليه رغبة في الإقامة خارج بيروت، طالما أن الحياة والإقامة فيها أصبحت لا تطاق. فهي لم تعد مدينة، بل حطام مدينة، تطالعك فيها وجوه وأحوال سكانها اليائسين المحطمين.

وهذه الرغبات كلها في مغادرة المدينة، حداداً ومداواةً وتطهراً من اليأس والقنوط فيها، تجد ملاذها في تقليص الحياة في بيروت، وجعلها عابرة وتحتّمها الضرورات فقط. وذلك بالهروب منها إلى إقامة حائرة، موقتة ومواسية، في بلدات جبلية لم تتعرض الحياة فيها إلى ما تعرّضت له بيروت من نكبات.

*****

في زيارة إلى حمانا الأحد الماضي، كانت مئات السيارات تصطف على جنبات الطرق فيها. في شارع البلدة الرئيسي، المفضي إلى ساحتها أو سوقها القديم المجدد، حيث تكثر المطاعم والمقاهي والمحال التجارية، كان يقف شرطي بلدي يضع كمامة على وجهه، ويمسك جهازاً لقياس حرارة  الزائرين، ويطلب منهم وضع كمامات على وجوههم.

وقال الشرطي البلدي إن كثرة من زائري حمانا في هذا الصيف وقبله، دعاهم ديكور مسلسل "الهيبة" التلفزيوني الذي صُوّر في ساحتها وسوقها القديم. ومن يملكون بيوتاً فيها من أهلها المقيمين في بيروت، عادوا في هذا الصيف للاقامة في بيوتهم، ولم يبق منهم أحد في أحياء العاصمة، بعد انفجار المرفأ.

وحول طاولة أمام أحد المقاهي في ساحة "الهيبة" الحمّانيّة، ارتفع صراخ شجار بين أشخاص، علمنا أن سببه غضب رئيس البلدية من بعض الأهلين الذين يقبِلون على تأجير بيوتهم لأناس من خارج البلدة في زمن كورونا، والتقليل من الاختلاط والتجمعات للوقاية من تفشيها. ولما سأل شخص أحد الجالسين حول الطاولة عن رجل قيل إنه سمسار تأجير بيوت في حمانا، قال أحد الجالسين للسائل: ليس من بيوت للإيجار في حمانا.

كان جُلّاس المقاهي كثيرين بعد ظهيرة الأحد. إشارات وعلامات كثيرة تدل إلى أن بعضهم ليسوا من أهالي حمانا. وكان السائلون عن بيوت للايجار فيها يتصلون هاتفياً بأشخاص تزودوا بأسمائهم وأرقام هواتفهم من معارفهم. وكانت زيارات الكشف عن البيوت المعروضة للايجار غير قليلة في خريف حمانا، الذي يكاد صحوه من النضارة يمطر.

إنه سِفر الخروج من بيروت، والتطهر من بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها