الثلاثاء 2020/01/07

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

وجوه الثورة: قاسم الصديق من كندا إلى ساحة النور

الثلاثاء 2020/01/07
وجوه الثورة: قاسم الصديق من كندا إلى ساحة النور
مشكلة الحراك الطرابلسي أنه لم يستطع اختراق المناطق الشعبية بالمستوى المطلوب (المدن)
increase حجم الخط decrease

أظهرت ثورة 17 تشرين الأول، في طرابلس، حراكًا سياسيًا لم يكن معهودًا ولا مألوفًا قبل هذا التاريخ، نتيجة إمساك الأحزاب التقليدية بزمام الشارع وسيطرتها على الناس.

مع انتشار حلقات النقاش السياسية في خيم الناشطين على ضفاف ساحة النور، برزت وجوه عديدة، تساهم بجهد يومي كبير في بث الوعي السياسي وتعزيزه، كما الوعي الحقوقي والاقتصادي والاجتماعي، بهدف ترميم الفجوة التي تسببت بها قيادات المدينة بين مواطنيها من جهة، ومفهوم بناء الدولة من جهة أخرى، بعيدًا عن منطق الزبائنية والتبعية العمياء.

 مع بداية العام 2020، تسعى "المدن" للتعرف على أبرز وجوه الثورة في طرابلس، من العامة والمثقفين والأكاديميين والطلاب المؤثرين في فضاء المدينة، لاسيما بعد أن بدا واضحًا محاولات المستزلمين في السياسة والأمن استغلال الشارع والسيطرة عليه وسرقة مشهد الانتفاضة ميدانياً وإعلامياً، بما يخدم السلطة حسب، وعلى حساب ثورة 17 تشرين وأهدافها.

 قاسم الصديق، هو واحد من هذه الوجوه. واظب على المشاركة في حلقات الحوار السياسي منذ بداية الثورة. وأدار مجموعة من النقاشات تتعلق بخريطة طريق الثورة والآليات الدستورية في التغيير البنيوي. قاسم (45 عامًا) الذي أعدّ نهاية العام 2019 جزءًا من بحثٍ  يحمل عنوان "17 تشرين: قراءة في مسار التغيير وإشكالياته"، يعمل استشاريًا مستقلاً في تقييم برامج وسياسات عمومية، وهو في صدد إنجاز أطروحة دكتوراه يعدّها في إحدى جامعات كندا، حول "علاقة السلطة والمواطن في دول الخليج العربي". قرر الهجرة إلى كندا مع أولاده الثلاثة وزوجته في العام 2014، بطموح توفير الطمأنينة لمستقبل أسرته، كحال آلاف اللبنانيين الذين ترغمهم الظروف على الهجرة. لكنّ قاسم، في تموز 2019، قرر العودة إلى لبنان والاستقرار شمالًا. وما هي ثلاثة أشهر حتى اندلعت شرارة الثورة، فسارع إلى الانخراط بها إيمانًا بالقضية وضرورة إحداث تغيير جذري في لبنان، من أجل مستقبل أفضل.

فسيفساء الحراك
في واحدة من أوراق بحثه تحت عنوان "ديناميكية الحراك: تحديات استراتيجية وتكتيكية"، يشير قاسم أنّه لفهم ديناميكية الحراك / الانتفاضة والسلطة، لا بد أولًا من رسم ملامح الحراك بشوارعه ومشاربه المتعددة (والمتباينة). فـ"الحراك يمثّل فسيفساء من حراكات ملونة ومشارب سياسية متشعبة وشوارع وساحات مناطقية متعددة، تجلت وتكرست جميعها لأول مرة في  الساحات العامة في المدن والقرى على امتداد مساحة الوطن، وعبرت فوق الاختلافات والخلافات الطائفية والمناطقية، والتقت على مجموعة من المطالب الاجتماعية والسياسية، وهتفت بصوت واحد، وإن تفاعلت كلّ منها على طريقتها". إذ أنّ أهم انجازات ثورة 17 تشرين، وفق حديث قاسم لـ"المدن"، هي في المدّ الوطني العابر للمناطق، ويقول: "لحظة 17 تشرين تتشابه وتتقاطع مع لحظة 14 آذار 2005، لأن  كليهما كسر الاصطفاف الوطني العمودي والعابر للطوائف والمناطق. لكن المفارقة في تلك الفترة، أنّ الأحزاب التقليدية لـ 14 آذار، أخذت صورة المشهد الثوري. أمّا في 17 تشرين الأول، فقد تميّز بتراجع أحزاب السلطة مجتمعة،  لصالح مدّ شعبي كبير، وهو اليوم أمام مسؤولية الإمساك بالأرض، وعدم الانكفاء من جديد بالسماح للأحزاب التقليدية أن تعيد تقديم دورها".  

يردد قاسم أنّ أكثر انجازات الثورة أهمية، إلى جانب تفشيل محاولات مجلس النواب لعقد أيّ جلسة، تجلّت باسقاط الحكومة. وهو لم يكن إسقاطًا لشخص الرئيس سعد الحريري، كما يروّج البعض للفكرة، وإنما هو اسقاط لحكومة الوفاق الوطني مجتمعةً، والتي جاءت ترجمة للتوازنات التي أفرزتها نتائج انتخابات 2018 داخل المجلس النيابي.

ثورة طرابلس
يخصص قاسم لطرابلس في حديثه الحصّة الأوفى، ويرى أنّ الوصف الذي أُطلق عليها "عروس الثورة" ما بعد 17 تشرين الأول، كان حقيقيًا مع بلوغ الانتفاضة الشعبية ذروتها، حين شهدت المدينة ضغطًا شعبيًا كبيرًا أفرز انتفاضة كبرى، وأثرًا إيجابيًا كان مُغيبًا حين كانت أحزاب السلطة التقليدية تمسك بها، "ولم يكن لديها أيّ قرار سياسي مستقل". وفيما يعتبر قاسم أنّ عاصمة الشمال أثبتت، ولو مرحليًا، خروجها من العباءات السياسية التقليدية، يبقى السؤال: هل خرجت كليًا أم أنّها لا تزال معلقة بها؟

يؤكد قاسمم أنّ لحظة 17 تشرين وما تبعها، سجّلت فيها طرابلس خروجًا أو تمردًا على أحزابها التقليدية، لكنّ هذه الإشكالية، وفقه، لا يمكن الإجابة عنها حاليًا: فهل سيبقى أبناء المدينة خارج عباءة أحزابهم؟ يضيف: "هذا السؤال كبير لا يمكن الاجابة عنه إلا في حالتين: إمّا بروز مشروع سياسي بديل من المشاريع التقليدية، وإمّا بمحاولة السعي لتحقيق المطالب الرئيسية لأهالي المدينة، حتى يتخلصوا من الزبائنية والاستزلام للزعماء. كذلك تحدي الاستمرارية في الشارع ليس أمرًا سهلًا، وتحديدًا لأفراد غير متمرّسين في السياسة. وعلينا أن نحولها إلى ثورة مستمرة، ولكن برؤية سياسية واضحة المعالم".  

يسجّل قاسم عددًا من الملاحظات النقدية على الثورة في طرابلس. لدى انطلاقها، كانت تتميّز بتفاعلٍ كبير في السياسة، مع ما يسميه بـ"الحراك الأصيل". لكنّ معالمها وتضاريسها، وفقه، "تبدلت بعد الشهر الأول من الثورة، فانكفأت النقاشات السياسية إلى مكانٍ واحد، ووسطية ساحة النور اكتفت بالتعبير عن نفسها بطريقة فلوكلورية".

لكن، ما سبب هذا الانقسام المشهدي الذي أدى إلى تراجع الزخم في الشارع؟ يجيب قاسم: "ثمّة قضايا اجتماعية واقتصادية ملحة في طرابلس، ولأنّ الشح المالي يتفاقم يومًا بعد آخر، وجزء كبير من أهالي المدينة خسروا أعمالهم وأصبح هدفهم اليومي تأمين قوت عائلتهم، أصبح النقاش السياسي بالنسبة لهم ترفًا. وهذا واقع لا يمكن أن ننكره. جزء ثانٍ، وهم من العائلات التقليدية والمحافظة، نزل في الفترات الأولى إلى الشارع، ثمّ عاد وتراجع، ربما لأن الرؤية بالنسبة لهم لم تعد واضحة وتحديدًا بعد اسقاط الحكومة. جزء ثالث مسيّس، رأى أنه جرى استهدافه بإسقاط الحريري. وأصبح لديه رد فعل عكسي تجاه الثورة. أمّا الجزء الرابع، فبقي بالزخم نفسه، لكنّه يسعى لمواجهة التحديات بآليات تحفيز سياسي جديدة".

لا ينفي قاسم أنّ تكون الساحة في طرابلس مخروقة سياسيًا وأمنيًا، كحال مختلف الساحات المنتفضة في لبنان، ويعتبر أنّ الأمر لا يحتاج إلى تكهن، وإنما إلى قراءة "فسيفساء الحراك". فـ"مع ظهور بعض المجموعات المشبوهة، وهي لم تكن حاضرة بهذا الزخم في طرابلس، وجزء كبير منهم يحتل الشاشات، في ظلّ علاقاتهم المشبوهة وطريقة حشدهم للناس وإغلاق الطرقات، لا يمكن التغاضي عن هذا الواقع من دون الشعور بالريبة وطرح علامات الاستفهام".

استعادة الشارع
الثورة الشعبية اليوم، في طرابلس وكلّ لبنان، هي وفق قاسم أمام تحدي استعادة الشارع، والتي من المتوقع أن تستعيد زخمها تلقائيًا، لأن مسار الأمور واضح: أولًا مسار الأزمة الاقتصادية يتفاقم يومًا بعد آخر، ويؤثر على القدرة الشرائية. وطرابلس هي الأفقر. لكن الخوف هو بكيفية ترجمة هذا الغضب، وإن كان سيأخذ منحىً عنفيًا. والمسار الثاني، هو في آلية تشكيل الحكومة، من دون بوادر لتقبّل الشارع لها ووصفها بحكومة اللون الواحد. لذا، "تبقى مسؤولية الثورة في إدارة الشارع، لأنّ النزول المقبل إليه سيكون أيضًا ردًا على سياسة التجويع والشحّ المالي، وأن يكون التنسيق بين مجموعات المناطق عاليًا، منعًا لاستغلال المندسين وجمهور السلطة لها".

كذلك، يحذّر قاسم الشارع في طرابلس والبقاع الغربي من الانجرار خلف خطاب "المظلومية السنية"، ويرى أنّ ثمّة فريقًا سياسيًا يسعى لاستغلال هذا الخطاب والتماهي مع مطالب الشارع، من أجل الرجوع إلى السلطة وتقوية حظوظه داخلها. يضيف: "في طرابلس مثلًا، يسعى تيار المستقبل في الأسابيع الأخيرة إلى السيطرة على الشارع عبر ظهور مفاتيح انتخابية وتعزيز دورها في التأثير على الناس، بينما لم نرها ولم نسمع بها في بداية الثورة".

حتّى الآن، تتجلى أزمة الحراك الشعبي في طرابلس الذي لا يتجاوز عمره الشهرين، بحسب قاسم، أنّه لم ينجح في اختراق المناطق الشعبية بالصورة المطلوبة، رغم تبني مطالبها، نتيجة الضغوط وشبكة المصالح السياسية التي تحكمها. يعلق: "وهذه المعضلة تحتاج إلى قراءة متأنية والعمل على خطة واضحة تنتج حلًا سريعًا في كسب المناطق الشعبية واتقان سبل مخاطبتها".

"نكبة طرابلس بزعمائها ومسؤوليها"، يشدد قاسم على هذه القناعة، ويعتبر أن قيادات طرابلس لم تتقدم خطوة نحو الأمام باتجاه الناس، ولم تقدم شيئًا للشارع، ولم يفكّر نوابهم بتقديم استقالات جماعية من أجل البدء بإفقاد المجلس النيابي شرعيته. وطرابلس في المرحلة المقبلة "لن تستعيد زخمها إلا إذا قدمت مشروعًا سياسيًا، أو كانت جزءًا من مشروع وطني يساهم في تأطير ورقة سياسية جامعة للبنان".

لكنّ الأزمة الكبرى تتمحور على مستوى لبنان. يختم قاسم: "إذا أبصرت هذه الحكومة النور، ستواجه عدم ثقة شعبية، والتي ستتفاقم  مع أي حكومة، في ظلّ شح المساعدات الخارجية، ولا يوجد أي بوادر حول قدرتها تقديم البديل، أو حتّى تحقيق المطالب الشعبية الملحة على مستوى حلّ للكارثة الاقتصادية الواقعة".  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها