الأربعاء 2020/01/22

آخر تحديث: 00:49 (بيروت)

اعترافات شابة من "المرتزقة" و"مندسة" في مواجهات بيروت!

الأربعاء 2020/01/22
اعترافات شابة من "المرتزقة" و"مندسة" في مواجهات بيروت!
في معمعة المواجهة، اللغة هي "معك بصلة"، "شمي خل"، "خود نفس".. (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease

"أنا المدعو/ة فلان/ة الفلاني/ة، من منطقة كذا، مبارح شاركت، ورح شارك بكل مظاهرة أمام مجلس النواب، وبأي مكان بيتطلب كون موجودة فيه".

انتشر هذا الهاشتاغ تحت وسم # أنا - مندس # أنا - مرتزقة، على مواقع التواصل الاجتماعي، رداً على تغريدة لرئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري، وصف فيه المتظاهرين الذين شاركوا في تظاهرات ليلتي السبت والأحد 18 و19 كانون الثاني الجاري، بـ "المرتزقة".

وجاءت حملة المشاركين في التظاهرات ضد هذه التغريدة من المناطق كافة: لرفض التهم التي تكال للمتظاهرين من كلّ حدبٍ وصوب، وللقول إن أبناء المناطق لبنانيون كسواهم، ولا يمكن اعتبارهم "غرباء" عن بيروت أو "دُخلاء" عليها.

فلطالما كانت بيروت مقصداً لأبناء الأرياف والمدن الأخرى، للتعلم في جامعاتها ومدارسها، وللعمل في المجالات كافة. فإقامتهم فيها أولئك "المرتزقة"، شارعاً شارعاً وحياً حياً ومقهى مقهى. لكن النظام اللبناني البلدي والانتخابي المتخلف يعتبرهم أبناء القرى "الدخلاء" على المدينة، ومشوهين صورتها وكورنيشها. وأبناء القرى اليوم يردوّن جميل بيروت عليهم بمشاركتهم في التظاهرات التي ملأت ساحاتها لتحريرها من السلطات الفاسدة.

لقاءات نضالية فرحة
على الطريق البحرية في اتجاه جريدة "النهار" في وسط بيروت تنتشر رائحة الغاز المسيلة للدموع. الشبان المشاركون في الانتفاضة متفرقون في الأزقة المؤدية إلى المجلس النيابي. بعضهم يفترش الأرض محاولاً التقاط أنفاسه. آخرون يتابعون المستجدات الأمنية من بعيد. فئة ثالثة ممن لا يتعبون ولا يكلون، يحزمون أمتعتهم، يضعون أقنعتهم الواقية من الغاز، ويسرعون للحاق برفاقهم.

أترجل من سيارة أجرة قرب شابين على ظهريهما حقيبتين. أعينهما الحمراء تشي بأنهما خرجا تواً من جولة كرٍّ وفرٍ مع القوى الأمنية. أرافقهم كي لا أكون وحيدة، ريثما أجد أصدقائي. تلفتني لكنة الشابان (نشأت ورامي)، فأسألهما: "من وين جايين؟". أطرح سؤالي بلا ترددٍ ولا أي محاولةٍ للتبرير. والسؤال الذي طالما حمل في طياته دلالاتٍ طائفية، خرج من فمي ونزل على مسمعهما برداً وسلاما. وهذا ما أشعرني أن السؤال فقد وقعه القديم، وصار الجواب عليه مبعث فخر الانتماء إلى مكانٍ واحدٍ وبلد واحد، وفي سبيل هدفٍ واحدٍ: إسقاط السلطة الفاسدة. فنشأت ورامي اللذان جاءا من منطقة راشيا الوادي إلى العاصمة للمشاركة في كل تظاهرة، ويعودان إلى ديارهما البعيدة آخر الليل.

يجهز نشأت ورامي الكمامات العازلة، الشالات أو الكوفيات يلفان بها رأسيهما وعيناهما، ويعتمران خوذتين للوقاية من الرصاص المطاطي والحجارة. في أيديهما قفازان سميكان، وفي حقيبتيهما تجد دائماً البصل إضافة إلى أكياسٍ تحوي كمادات مغطسة بالخل، وبعض الحاجيات للإسعافات الأولية.

أُشاهد القنابل المسيلة للدموع تنهمر على المتظاهرين. نحاول الاقتراب قدر المستطاع، عابرين طرقاً فرعية. نعبر مرآباً لباصات النقل. أغان للمطربين علي حليل ووديع الشيخ تصدح من الراديوهات، حيث يجلس سائقون منتظرين الركاب، غير آبهين بما يجري، فيما يختنق الشبان من حولهم جراء تنشقهم الغاز.

تقاسم الغاز والدخان
ما أن اقتربنا من مكان التظاهرة، حتى وجهت القوى الأمنية قنابلها نحونا. هبة حامية تلسع وجهي. يجتاح لهبها حنجرتي. تمتلئ رئتي برائحة الغاز، فلا أعود قادرة على التنفس. أطبق أجفاني لا إرادياً وتمتلئ عيناي بالدموع.

يتوحد في هذه اللحظات من استهدفتهم القنابل. تتلاقى العيون الحمراء الدامعة، فيما يتفقد بعضهم الآخرين في صمت. فيتقاسمون البصل والخل، وهما يوصفان في التظاهرات بأنهما "مسحة الرسول"، ما إن يتنشقهما مختنق بالغاز حتى يبرأ من اختناقه. نسير على غير هدى. شبان وشابات من مناطق مختلفة، بلكنات مختلفة. وجهتنا واحدة: العودة إلى مسار التظاهرة للإنضمام إلى المتظاهرين. منهم من وقع أرضاً، ومنهم من يحيد عن مهوارٍ لمحه في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه. أغاني وديع الشيخ تصدح. نعود إلى الطريق الرئيسية مفضلين السير على الإسفلت، لئلا يتعثر ويسقط بعضنا. نسير في طرق خالية، غالباً ما تعبرها السيارات.

أصوات القرع على حديد الجسر يهدينا إلى الطريق. يحاول نشأت ورامي العثور على أصدقائهما، بعدما فرقتهم القنابل المسيلة. يلتقون بهم تباعاً. جميعهم في العشرين من أعمارهم، لا يعلمون من هو علي شعيب. لم يقرؤوا نظريات اقتصادية ولا فلسفات ولا ديالكتيكٍ جدلي. لكنهم يدركون طريقهم جيداً. وهدفهم واضح أمامهم.

تكافل وتضامن
في محيط بيت الكتائب استقر المتظاهرون بعد عمليات الكر والفر التي أبعدتهم قدر الإمكان عن محيط المجلس النيابي. شبان يقومون بتكسير إشارات السير. يهرول آخرون في اتجاههم محاولين ثنيهم عن فعلتهم. منهم من يقتنع ومنهم من يصرّ على التكسير. وحدها القنابل المسيلة للدموع تعود لتوحد الصف. يهرب شاب طرابلسي من مرمى القنابل، يضحك مع رفيقه. يسألني إن كنت أحتاج للمساعدة. يقول إن الوضع في طرابلس مغاير لما هو عليه في بيروت، متمنياً أن تشتد حدة المواجهات في الفيحاء كما في العاصمة. يعاين بعض الشبان مكان سقوط القنابل. يهرعون إليها محاولين إمساكها ورميها في اتجاه القوى الأمنية.

في هذه اللحظات تتجلى مقولة الفرد للجماعة والجماعة للفرد. يحرص الجميع على الإطمئنان على سلامة من حولهم. يتبنى الجميع لغة واحدة، هي لغة التظاهرة التي تتجلى في جملٍ محددة وداعمة: "معك بصلة"، "شمي خل"، "خود نفس"، "بلطجية"، وغيرها.

القوى الأمنية والمتظاهرون يتقاسمون جغرافية المكان والساحات. تتواصل عمليات الكر والفر. تستخدم عناصر القوى الأمنية أسلوب تكتيكي. يتقدمون ثم يتراجعون أمام المتظاهرين، الذين ما أن يقتربون منهم حتى تشن القوى هجومها بشراسة أكبر، قاضمةً أمتاراً من جغرافية المتظاهرين.

على مدى ساعات تستمر العملية. والهدف: "مين بقول آخ بالأول". لن تصرخ القوى الأمنية، على الرغم من ألمها. والثورة لن تهدأ، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة أشهر على اندلاعها. ثورة كشفت من هم "المرتزقة" الحقيقيين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها