السبت 2020/01/18

آخر تحديث: 00:09 (بيروت)

مأساة طرابلس السّعيدة بالانتفاضة.. المرثاة الوداعيّة للبنان

السبت 2020/01/18
مأساة طرابلس السّعيدة بالانتفاضة.. المرثاة الوداعيّة للبنان
أهذا كله محاولة يائسة للخروج من الجمود والتخثر؟ (المدن)
increase حجم الخط decrease

على مثالٍ شعري إعلاني راجَ في كتابات نزار قباني المتأخرة، وبعدها في كتابات محمود درويش، شاعت في أثناء حركة 17 تشرين الأول 2019 الاحتجاجية اللبنانية تسمية مدينة طرابلس "عروس الثورة". وفي شهادة شاب عن مشاركته في يوميات الحركة منذ بدايتها في بيروت - وهو ناشط يساري ديموقراطي في حركات احتجاجية بيروتية منذ 2011، وفي "شبكة مدى" لتأطير انخراط الطلاب وخريجي الجامعات في لبنان في النشاط السياسي، منذ تأسيس الشبكة عام 2013 - روى الشاب أن الحشود وحركتها اليومية في ساحة "النور" (عبد الحميد كرامي) الطرابلسية، ذكّرته بالثورة في مدينة حمص السورية في العام 2011.

لم يزر الشاب اللبناني حمص الثورة بالتأكيد، بل أبصر صورها على الشاشات التلفزيونية، أو على أشرطة الفيديو المصورة بكاميرات الهواتف المحمولة، سلاح الثورة السورية الإعلامي الأمضى والأبرز، قبل السلاح الناري. لكن الشاب ذهب إلى طرابلس مستطلعاً انتفاضتها التي بهرت يومياتها المصورة تصويراً تلفزيونياً مباشراً، شطراً واسعاً من اللبنانيين والناشطين في سائر ساحات انتفاضات المناطق اللبنانية. فأخذ بعضهم يزور "عروس الثورة" أو يرغب في زيارتها ليشهد الزائرون والمستطلعون ويعيشوا حسياً ذلك "العرس الثوري" الطرابلسي الباهر وغير المسبوق في تاريخ المدينة، على ما قيل كثيراً وتردد طوال أيام الانتفاضة.

لحظة من 14 آذار
أنا لا أدري حقا أيهما أقوى وقعاً وإبهاراً في انتفاضة 17 تشرين كلها: صورها المتدفقة على الشاشات التلفزيونية المنزلية، وتلك الفيديو كليبات الممنتجة فنياً في استديوهات المحطات التلفزيونية لمشاهد مظاهراتها في الساحات والشوارع، أم مشاهدها الحية أثناء حضور المتظاهرين والمعتصمين في ساحاتها وشوارعها مغمورين بالحشود، وسائرين وسط الحشود؟

لكنني فيما أفكر الآن في حالتي أثناء انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 - وقد ترددت مرات كثيرة على ساحاتها في وسط بيروت مستطلعاً ومشاركاً محايداً أو فاتراً، ومشيت في تظاهرات خمس أو ست من مظاهراتها البيروتية مؤيداً ومراقباً - أجدني أميل إلى قوة الإبهار التلفزيوني لمشاهد هذه الانتفاضة. وقد يحتاج تعليل ترجيحي هذا إلى توسيع النظر والمعالجة، ليس هنا مجاله أو سياقه.

أكتفي، إذاً، بالعودة إلى ما أتذكره من نهار 14 آذار 2005. ذلك النهار الفريد في تاريخ لبنان الحديث، والذي شهد ذروة ما سُمّي "انتفاضة الاستقلال" أو "ثورة الأرز".

حتى اليوم لا أزال أحسب أن شيئاً ما فيَّ تغيّر في ذلك النهار. ولا أدري أكان ذلك التغيّر آنيٌ، زال وانطوى، أم لا أزال أحتفظ منه بشيء ما، لا أعلم ماذا يكون.

حدث ذلك عندما شعرتُ أنني صرت فجأة غريباً عني بعض الشيء. والغربة تلك، على معنى الانفصال عن النفس أو الذات، والانسياب التلقائي وزوال الحدود، فيما كنت أمشي في مكاني طوال ساعتين أو ثلاث وحدي، ولا أعرف أحداً من أمواج الحشود البشرية، وتغمرني الحشود في حركتها البطيئة الهادئة، من دون أن أدرك مداها وامتدادها وحدودها. وقد توقف الزمن، وتلاشى العالم والمكان تماماً، واللحظات صارت سكونيّة، فيما أخطو في مكاني الذي يسير بي بلا إرادة مني، وتراءى لي أنني في بلاد غريبة وأليفة، لا أعرفها ولا تعرفني.

وخرجت من الحشد الكبير، ومشيت وحدي مبتعداً، ليس إلى هدف ولا مكان في البلاد الغريبة الأليفة التي خلتُ أنها صارت بلادي. وظللت أمشي لوقت لم أدرِ حينذاك ولا الآن كم مشيت ولا أين مشيت. وحتى المقهى الذي وجدتني أدخل اليه كان جلاّسه الكثيرون سعداء، وكلهم مثلي مدركون أنهم في لحظات من التاريخ واقفةٍ في الزمن الذي لا يعلمون أيجري بهم أم تجمد.

مأساة طرابلس
أستعيد تلك اللحظات الآن، لظني أن أهالي طرابلس عاشوا مثلها في أيام احتشادهم في ساحة مدينتهم التي صاروا غرباء عنها، وغريبة عنهم، بعض الشيء. لكن تلك الغربة لم يعشْها كلٌ منهم بمفرده وسط الحشد الذي يتهيأ لي في صورة حشدٍ أهلي جامع ومتماسك، على ما تراءى لي في صور البث التلفزيوني اليومي طوال أيام انتفاضتهم الكثيرة.

لقد كانوا منضوين في شخصية معنوية أو رمزية، أو في هوية جمعية عامة مفترضة لمدينتهم. هذا ما أوحت لي به مشاهد احتشادهم اليومي، شبه الثابتة والمتكررة، في ساحة النور. وقد تكون المنصّة المركزية العالية، الواحدة والثابتة، التي نصبوها في جهة من الساحة، واحتشدوا على أرض الساحة المنبسطة قبالتها، مسلطين أبصارهم إليها من أسفل، فيما راحت الكاميرات التلفزيونية تصوّر احتشادهم من على دكّة المنصة العالية - قد يكون هذا ساهم في إظهارهم على تلك الصورة الجمعية المتماسكة.

أما ما غيّره فيهم احتشادهم على هذا النحو، فيتراءى لي أنه ليس تغيّراً فردياً أو شخصياً، ولم يُشعِرْ كلاً منهم بمفرده أنه يتغيّر على هذا القدر أو ذاك، أو يخرج ويبتعد بعض الشيء من نفسه وذاته. وهم في خروجهم إلى الساحة الواحدة ومداومتهم على الاحتشاد فيها، كأنما كانوا يقولون لأنفسهم وللبنانيين الآخرين المنتفضين: ها نحن اجتمعنا وتوحدنا، انظروا. طرابلس كلها هنا في الساحة منتفضةٌ مثلكم. وهي على صورتها الشائعة عنها تنتفض، لأنها ليست على تلك الصورة. بل إن ما تشاهدونه الآن هو صورتها الحقيقية التي نصنعها زاهية هازجة، فرحة ونابضة بالحياة. انظروا ها نحن ننتفض كلنا ونثور، ونكسر تلك الصورة الكئيبة الشوهاء التي أُشيعت عنا وعن مدينتنا، وسُجنّا وسُجنت فيها المدينة، ونحن وهي براءٌ منها.

وكانت طرابلس سعيدة بصورتها الجديدة سعادة غامرة يصنعها أهلها المنتفضون على صورتها المكرّسة عنها مدينةً تقليدية محافظة، وموصومة بالتطرف الديني. وهي وأهلها ينتفضون أيضاً على هامشية مدينتهم في الجغرافيا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللبنانية. وطرابلس في هذا انتفضت لتكون في قلب الحدث الجديد الجميل وصدارته، ولم تعد حائرة إلى أي اتجاه تدير وجهها، وهي تقول إنها مدينة لبنانية كاملة ومكتملة، وغير منقوصة أو مثلومة اللبنانية.

لكن مأساة طرابلس قد تكمن في أنها تصل دائماً متأخرة. فهي يممت وجهها جنوباً في اتجاه لبنان وعاصمته بيروت، بعدما ابتعد لبنان عن نفسه وصار غريباً عنها، ولم يعد يتعرف عليها.

الانتفاضة مرثاةٌ وداعية؟
وقد تكون مأساة طرابلس هذه في وصولها متأخرة، مثالاً لمأساة انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. فالانتفاضة في وجه من وجوهها ووجوه قولها المضطرب، المتدافع والمتلعثم، أرادت استئناف صورة ما فائتة للبنان وتجديدها في لحظة غروب لبنان وأفول صوره كلها. فما صبّته الانتفاضة من عتب وتذمر وغضب وسخط وشتائم على منظومة الزعماء اللبنانيين الذين قال المنتفضون ورددوا أنهم قادوا البلاد وأهلها إلى الهاوية، إنما ينطوي على ما يشبه الرثاء لحالهم وحال بلدهم، ويشي برغبتهم المستحيلة في استعادة زمن لبناني فات وانطوى عهده، وصار من الذكريات. وكان شطر من ذلك الزمن وليد مخيلةٍ رومنطيقية طروبة آفلة. وقد يكون جيل الانتفاضة الشاب ورثها عن أجيال سابقة، ومزجها بطموحاته الجديدة.

وقد تكون انتفاضة 17 تشرين الأول في هذا المعنى، وفي وجه من وجوهها، مرثاة وداعية للبنان، واتخذت شكل كرنفالات فرحة، دامعة وزاهية، وتنطوي على حزن رومنطيقي دفين.

وهذا كله محاولة يائسة للخروج من الجمود والتخثر والضيق والاختناق الذي ألمَّ بلبنان وأهله منذ سنوات زئبقية يصعب تحديدها.

أما ذلك الزمن اللبناني الآفل، فكان على شيء من التفتح واليسر والسعة، ويسمح لفئات واسعة باحتمالات نجاح يولّده الجهد، وينجم عنه ارتقاء اجتماعي في جيل واحد أو جيلين. وهو في الحقيقة والواقع كان زمناً يجعل البلد الصغير، المؤتلف من بلدان وجماعات، على شيء من سعة ورحابة واتصال، تتيح للمخيلة والرغبة والإرادة الحرة في هذا البلد الصعب والسهل معاً، أن تتجول وتنسرح وتتدخل في صوغ سبل الحياة ومساراتها على مثالات ومعايير واختيارات وخُبرات مفهومة، تمكّن من شاء وأراد اجتياز الفواصل بين بلدان البلد الصغير وجماعاته الفسيفسائية القلقة الكثيرة.

 لم يبقَ في لبنان شيء من هذا تقريباً.

وقد تكون انتفاضة 17 تشرين الأول آخر ما تبقى منه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها