لكن غالباً ما يكون للديار التي يقطنها "الأمراء" لون آخر، وشكل آخر. هذا ما كرّسته القصص والأفلام الكرتونية من صورٍ نمطية، في الواقع، وفي الخيال.
ومناطق إقامة الزعماء والأمراء والبكوات في لبنان، نموذجية غالباً. وتتمتع بخدمات عالية. على عكس المناطق الأخرى المهملة والمعدومة. ففيما تكون الشوارع التي تحوط قصر البيك مضاءة بالكهرباء، تكون باقي الشوارع في البلدة أو المدينة معتمة. وفيما تستقبلك الورود والأشجارعلى مداخل بلدة زعيم، تمتلئ مداخل وشوارع بلدات أخرى بالنفايات أو الأتربة. ففي ظل غياب دولة خدماتية تهتم باحتياجات مواطنيها، وتوفر أدنى متطلباتهم، يكون العيش في محيط "الأمراء" و"الزعماء" من حسن الحظ، تحت شعار "بلكي بيلحقنا طرطوشة إنماء".
عزلة في محيط أجرد
لكن حال محيط قصر أمير خلدة الأرسلاني، مختلفة تماماً.
يقع قصر المير طلال أرسلان، وسط مساحة خضراء يحوطها عدد هائلٍ من الأبنية الباطونية الجرداء الحديثة التشييد. وهو في موقعه هذا واحة معزولة، تعيش في حديقته الصغيرة حيوانات عدة، وتشكل أشجار النخيل المحيطة بالقصر سوراً طبيعياً.
لكن منسوب مياه المجارير المبتذلة، يرتفع مع كل زخة مطر على الطريق البحرية القريبة من القصر في منطقة خلدة. فتتحوّل الشوارع سريعاً إلى مستنقعات لا يمكن عبورها. وعلى الرغم من انتشار المسابح والمطاعم الكثيف في الآونة الأخيرة، فإن الإهمال في المنطقة لا يزال ظاهراً للعيان.
واحة معزولة (المدن)
خطبة المطمر
في منتصف الشارع، ومقابل الجامعة الإسلامية، يشرف القصر الممتد حتى حدود شاطئ البحر، على العاصمة بيروت. أما على المدى الأقرب، وفي الاتجاه نفسه، فيشرف القصر على مطمر الكوستا برافا، الذي بارك المير إقامته على مدخل منطقة خلدة. لكنه في خطبته الشهيرة اشترط أخيراً متوعداً: لن أسمح بدخول "بحصة" إلى المطمر، من دون فرز. لكن مساحة المطمر تزداد يوماً بعد يوم بردم البحر وأطنان النفايات غير المفرزة، والتي تدخل إليه بلا رقيب أو حسيب. لم يضف المير على المنطقة التي يقطنها أي تحسينات تذكر، لا بل زيّن مدخلها الشمالي بمطمر نفايات.
فارس التاريخ
ما أن يتجاوز المرء/المرأة النفقَ في نهاية منطقة الأوزاعي في اتجاه خلدة، حتى يمتزج عبق المطمر بعبق التاريخ. فعند مفترق الطريق المؤدية إلى منطقة الشويفات، يرتفع نصب تذكاري لفارس يمتطي حصانه رافعاً رايةً خضراء. هو نصب المير مجيد إرسلان، بطل الاستقلال وأحد رجالاته. مشهد النصب منتصباً في هذا المكان، تبعث على الخذلان. فالعظمة الفولوكلورية للمير والاستقلال الذي صنع وطناً، لا تتناسب والإهمال والتعدي الظاهرين للعيان. على يمين النصب يمتد كورنيش بحري، لطالما كان مقصداً للمتنزهين من العائلات والأطفال والشباب، في الأزمنة الخوالي. أما اليوم فلا يصلح للمشاة العابرين حتى. فهو مليء بالحفر والحجارة التي تركها في المكان فساد أحد المتعهدين الذين حفروا لغرس الأشجار. لكن لا الأشجار نبتت، ولا الحفر سوّيت.
حوادث ورضات
على الرغم من أن منطقة خلدة وجوارها شهدت مؤخراً رضاتٍ عدة أثناء انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 - منها حادثة مقتل الشهيد علاء أبو فرج، إلى حوادث قطع الطرق في خلدة والناعمة - ظل قصر المير على حاله، هادئاً ساكناً. فعدا السيارات الرباعية الدفع، التي تخرج من القصر بين حين وآخر، لم تسجل أي حركة.
يمكن القول أن آخر ظهور له في المنطقة، جاء أثناء تجمع أنصاره وعراضاتهم، بعد نزهات جبران باسيل الأحدية المسمومة، والتي تسببت إحداها بحادثة قبر شمون الدامية، في تموز 2019. وذلك بين مناصري الحزب الديمقراطي الذي أسسه المير طلال في العام 2001، والحزب التقدمي الإشتراكي الجنبلاطي الذي سقط منه شابان. حينذاك ظهر مناصرو الحزب الديمقراطي، فقطعوا الطريق الرئيسية في خلدة، أمام قصر المير. فمكث العابرون في سياراتهم أكثر من ساعاتٍ ثلاث. استُعملت تلك الحادثة لتعطيل الحكومة، وأدت إلى أزمة سياسية حقيقة دامت لشهر كامل. فظهر أن باسيل يترأس حكومة ظل الثلث المعطل لرهطه في وزارة الخارجية.
إرسلان وأصدقاؤه (عزيز طاهر)
الوطنية بالتقشف
وقبل حوالى سنتين، افتتح المير طلال منتجع "السياستا"، بالشراكة مع رجل الأعمال مروان خير الدين، رئيس مجلس مصرف الموارد، متعديين على الأملاك العامة البحرية. وأثناء الأزمة المالية المتفاقمة، وحجز المصارف أموال المودعين وتحويلاتهم إلى الخارج ومرتباتهم الشهرية، حملت استفاقة خير الدين "الوطنية" على دعوة اللبنانيين إلى أن يستفيقوا من بذخهم وتبذيرهم ويتركوا له وحده البذخ والتبذير ورحلات السفاري في الغابات الإفريقية أو الآسيوية. فدعاهم إلى سحب ودائعهم الدولارية بالعملة اللبنانية التي فقدت ثلث قيمتها، لإظهار وطنيتهم!
اليوم يتفرج أبناء خلدة على البحر من بعيد، فلا يستطيعون ارتياده، إذ لم يبق لهم منفذ واحد للوصول إليه. وهكذا يرتفع منسوب تقشفهم ووطنيتهم!
وإذا كان رب البيت وأميره معتدياً، فما بالك في بباقي المستثمرين من أمثال خير الدين وسواه؟!

التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها