الجمعة 2019/09/20

آخر تحديث: 19:10 (بيروت)

مصائب التعليم الخاص على الأهل والمعلمين: "روضة الفيحاء" نموذجاً

الجمعة 2019/09/20
مصائب التعليم الخاص على الأهل والمعلمين: "روضة الفيحاء" نموذجاً
عمدت مدارس خاصة كثيرة إلى صرف جماعي لعدد كبير من الأساتذة (Getty)
increase حجم الخط decrease

في أيلول من كلّ عام، تتقدم أزمة القطاع التّربوي إلى الواجهة في لبنان. هذا القطاع، أصبح شبيهًا بأحوال البلد إلى حدٍّ بعيد، مع ما يعانيه من مشاكل لا تعدّ ولا تحصى: تعليم النازحين السوريين والفلسطينيين، اكتظاظ أعداد الطلاب في المدارس الحكومية، غلاء الكتب والقرطاسية، ارتفاع الأقساط بنسبٍ عالية، النزوح من التعليم الخاص إلى الرسمي، مشاكل المتعاقدين وعجز الدولة على توظيف المعلمين وتفريغهم، سيطرة المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية على القطاع التربوي، ارتدادات سلسلة الرتب والرواتب، وغيرها الكثير.

أسرار الميزانيات
ومع بداية هذا العام، تحولت أعداد كبيرة من أساتذة التعليم الخاص إلى كبش محرقة، ووقعوا ضحية إجحاف إداراتهم التي تُخبئ ميزانياتها تحت "سابع أرض" من دون أن تكشف عن أرقامها أمام لجان الأهل، فيما تحتجّ بـ"العجز" كمبررٍ لصرفهم. والمدارس الخاصة بمعظمها، إسلامية ومسيحية، رفضت تنفيذ القانون رقم 46 المتعلق بسلسلة الرتب والرواتب، الذي أقرّ في العام 2017، وكان من المفترض أن يعود بالفائدة على أساتذة التعليم الخاص، إسوة بأساتذة التعليم الرسمي، وانطلاقًا من مبدأ وحدة التشريع في القطاعين العام والخاص. لكنّ هذه المدارس التي تتبع لسلطةٍ دينية قائمة عليها بشكلٍ مباشر، رفعت الأقساط بحجة السلسلة على مدار خمس سنوات متتالية من دون أن تدفع السلسلة لأساتذتها! فما كانت النتيجة؟ من جهة، حرّضت لجان الأهل على المعلمين بطريقةٍ غير مباشرة وحملتهم مسؤولية ارتفاع الأقساط، ومن جهةٍ أخرى، جاهرت بعدم تطبيق القانون، لا سيما في صندوق تعويضات أفراد الهيئة التعليمية.

صرف بالجملة
الغريب في هذا العام الدراسي، كان إقدام عدد كبير من المدارس على صرف أعدادٍ من معلميها جماعيًا، ولحججٍ وذرائع واهية. فإمّا بسبب تدني أعداد التلاميذ، أو نتيجة العجز المالي في المدرسة، أو لتخلّف الأهالي عن تسديد أقساطهم. وقبل نحو شهرين، حذر نقيب المعلمين رودولوف عبود مما أسماه بـ"اتّساع أزمة صرف المعلمين"، بعد أن كان قد تبلّغ بصرف نحو 100 معلم ومعلمة من المدارس للعام الدراسي 2019-2020، وهو رقم استمر بالارتفاع حتمًا. أمّا إدارات المدارس، فهي لا تتوانى حيال هذا الاجراء التّعسفي عن اعتماد سياسة الترهيب في الصرف الجماعي، قبل قدوم تاريخ الخامس من تموز من كلّ عام، وهو آخر مهلة قانونية للتبليغ بالصرف. لكن ما يحدث في واقع الحال، هو إجبار الأساتذة على تقديم استقالاتهم مع تجاوزات فاضحة بالجملة لقوانين تنظيم المداس الخاصة.

"روضة الفيحاء" نموذجًا
الصدمة الكبرى تبقى بما تشهده مؤسسات تربوية تحمل اسمًا عريقًا ولها تاريخ يُعتدّ به. فما بالنا بما يحدث في صغار "الدكاكين" التربوية التي تستغل التلاميذ والأساتذة معًا تحت بدعة "التعليم شبه المجاني"؟

الأسبوع الماضي، تحولت ثانوية روضة الفيحاء شمالًا، إلى نموذجٍ يُدرّس عن معاناة الأساتذة المصروفين في قطاع التعليم الخاص. هذا المجمع التّربوي، وهو الأقدم والأعرق في طرابلس تأسس العام 1945، خرج بعض أساتذته المصروفين إلى العلن، وكشفوا عن آلية صرفهم التّعسفي والغبن الذي تعرضوا له من مدير المدرسة مصطفى المرعبي.

الأستاذة نظيرة مقدّم، وهي معلمة مسرح في "روضة الفيحاء" منذ 16 عامًا، كتبت على صفحتها في فايسبوك كيف استدعاها المدير المرعبي بحضور المديرة التربوية مايا علم الدين، والمدير المالي راشد زيادة، في 3 تموز الفائت، لوقف التجديد التلقائي، وقالوا لها حرفيًا:"نحن اجتمعنا البارحة ليلًا وقررنا إلغاء حصة المسرح ولم يعد لك مكان بيننا ونتمنى أن توقعي على استقالتك". رفضت المعلمة تقديم استقالتها مع أربعة آخرين من زملائها، محتفظةً بحقها بالرجوع إلى النقابة، وقد كُتب على ورقة صرفها أنّه جاء نتيجة الضائقة المادية، "علمًا أن الإدارة بالتزامن مع صرفنا قامت بتوظيف عشرة أساتذة جدد، وبمعاشات شهرية أعلى من معاشاتنا، فقط لأنهم يحظون بواسطة أو لأن لديهم صلة قرابة بالمدير".

وفي حديث لـ"المدن"، تشير الأستاذة نظيرة أنّها بعد 16 عامًا من التعليم في المدرسة، وهي معلمة المسرح الوحيدة في الشمال الحائزة على شهادة من كلية التربية، وعلى ست جوائز وشهادات تقدير، لم تتوقع من المدير الحالي الذي تسلم منصبه قبل خمس سنوات أن يكافئها بالطرد التّعسفي، بـ"حجة إلغاء مادة المسرح، بينما قاموا بتبديل اسم المادة وسلموها لإحدى معلمات اللغة الفرنسية". معلمة أخرى جرى طردها تعسفيًا من "روضة الفيحاء"، وكان حملها هو السبب، وقالت لها الإدارة: "نحن غير مستعدين للدخول في العام الدراسي مع معلمة حامل".

لم تكن الأستاذة نظيرة وحدها، وإنّما بلّغت روضة الفيحاء 24 أستاذًا وأستاذة طردهم تعسفيًا. 19 أستاذًا منهم رضخ لعملية الابتزاز ووقّع على استقالته، وهناك خمسة آخرون رفضوا التوقيع على استقالتهم فلجأوا إلى القضاء. تقول مقدّم: "اضطررت مع زملائي الأربعة أن أرفع دعوى بالطرد التعسفي، بعد شهر ونصف من إبلاغي بطردي، لا سيما أنني كنت أعوّل على مجلس الأمناء في الثانوية لكنني خسرت الرهان".
تأسف الأستاذة نظيرة على تاريخ روضة الفيحاء الذي عاصرت مرحلة كبيرة منه. فـ"في  عهد المدير رشيد ميقاتي كانت الروضة في أوجّ لمعانها، إلى أن جاء المرعبي وهو كان مديرًا لإحدى البنوك ولم يسبق له أن تعاطى في الشأن التربوي، وهناك عدد كبير من الأساتذة لا يعرفونه شخصيًا لأنه لا يلتقي بأحد".

أمّا فيما يخصّ ضائقة "روضة الفيحاء" المادية، تؤكد مقدم أنّ سبب الصرف من المدرسة يستحيل أن يكون ماديًا، لأنه منذ جاء المرعبي، وهو يتّبع سياسة صارمة تجاه التلاميذ الذين يتأخر أهلهم بدفع الأقساط. فـ"التلميذ الذي لا يدفع القسط أو يتأخر بدفعه، لا يدخل الصف، وحتى لو كان متفوقًا، ولا يقدم امتحاناً إلا في نهاية الصيف بعد تسديد المستحقات". ولو كان هناك أزمة مالية، "لم يكن صرفنا مقابل إدخال عشرة أساتذة جدد إلى الكادر التعليمي، فيما الثانوية تشكو من تخمة الموظفين الشكلين والإداريين الذين لا فائدة من وجودهم سوى بمنطق التنفيعات". في المقابل، حاولت "المدن" عدّة مرات أن تتواصل مع الأستاذ مرعبي، ومع إدارة المدرسة، لاستضاح وجهة نظرهم من هذا الصرف ومما يقوله الأساتذة المصروفون بحقهم، ولكن من دون جدوى. لم يردّ أحد علينا، وهم لا يردّون على أحد في هذا الموضوع، حسب ما علمنا.

كوارث السلسلة
أفظع ما في عملية الصرف التي تتبعها المدارس الخاصة تجاه أساتذتها، ومن بينهم "روضة الفيحاء"، أنّها تجري شفهيًا، بالاستدعاء أو عبر رسالة في البريد الإلكتروني، وهو خرق واضح وصريح للمادة 29 من القانون، التي تنصّ أنّ آلية الصرف للمعلم من الخدمة في أيّ مدرسة، "ترسل عبر كتابٍ مضمون مع إشعار بالتسلم قبل الخامس من تموز"، ولا تعترف بأيّ وسيلة تبليغ أخرى.

لكن، هل ثمّة آليات مثالية للتسريح والصرف؟

رئيس لجنة الأهل في مدرسة الشويفات الدولية sabis، الدكتور يحي الحسن، وهو عضو مؤسس في اتحاد لجان الأهل في لبنان، يشير في حديث لـ "المدن" أنّ جذور المشكلة بدأت منذ إقرار السلسلة قبل خمس سنوات، وما رافقها من ارتفاعٍ في الأقساط وضائقة اقتصادية كبرى طالت كلّ شرائح المجتمع اللبناني. فـ "معظم المدارس الخاصة ذات الأقساط المرتفعة، تشهد على تقلص أعداد الطلاب الجدد المقبلين عليها، مقابل نزوح أعداد كبيرة منهم إلى مدارس خاصة أقلّ كلفة في أقساطها، ومن هذه المدارس ينزح عدد كبير من الطلاب إلى التعليم الرسمي، الذي يشهد اكتظاظًا هذا العام لا مثيل له. وهكذا تكون عملية النزوح تدرجيّة". هذا العام أيضًا، "شهدنا على شريحة واسعة من الأهالي الذين وقعوا على سندات دين، مقابل الحصول على إفادات أبنائهم بعد أن عجزوا عن تسديد أقساطهم المدرسية".

المشكلة الأساسية بما يحدث في المدارس الخاصة، حسب الحسن، هو في غياب الرقابة وعدم وجود قوانين صارمة تضبط المخالفات وتسطّر عقوبات بحق المخالفين. أمّا لجان الأهل، فـ"هي تقيّم أرباح المدارس وخسائرها من خلال ميزانيتها، التي من المفترض أن تكون وفق القانون علنيّة، إلّا أنّها في معظم مدارس لبنان الخاصة، تكون سرًّا مقدسًا تمنع الإدارة لجان الأهل المساس بها والاطلاع عليها".

يهتمّ الحسن بقضية المعلمين المصروفين، ويعتبر أنّ آلية تسريحهم من مؤسساتهم التربوية، هي غالبًا لا تراعي ارتداداتها السلبية، لا على المستوى الإنساني، ولا على مدّة الإشعار الذي يتم تبليغه، ولا على مقدار تعويض نهاية الخدمة. كما أنّها لا تساهم في مساعدة الأستاذ لإيجاد فرص عمل بديلة، ولا تنظر بوضع أبنائهم المستفيدين من مجانية التعليم، ولا يسعى أحد لإيجاد حلول بديلة من الصرف".

أمّا إذا كانت المدرسة تعاني من تخمة في عدد أساتذتها، وتريد تسريح مجموعة منهم، فـ"من الضروري أن تأخذ عملية التسريح في الاعتبار معايير واضحة بشأن من سيتأثر بالقرار (كبار المعلمين أو أولئك الذين لديهم أقل قدر من الخبرة)، وجدول زمني مفصل يشمل الإخبار المسبق للأساتذة المقبلين على الصرف، والتواصل المسبق معهم حتى قبل أخذ القرار"، يضيف الحسن: "الممارسات الحالية بحقّ الأساتذة المصروفين، والقانون المعتمد في لبنان الذي على أساسه تبلّغ الإدارات الأساتذة صرفهم بحلول الموعد النهائي، وهو 5 تموز، يرمي الأساتذة بأزمة ضيق الوقت، فلا يستطيعون العثور على وظيفة أخرى، لا سيما أنّ المدارس عادةً ما تقوم بتعيين معلميها في وقت مبكر خلال فصل الربيع. وعليه، لا بدّ من إعادة جدولة الموعد النهائي من 5 تموز إلى تاريخ يسبقه بأشهر، حتّى يأخذ الأساتذة المصروفون فرصة إيجاد عمل بديل وتدبير أمورهم".

الوزارة ولجان الأهل والمجلس التحكيمي
وفي السياق، يشير مستشار وزير التربية أكرم شهيب، أنور ضوّ، لـ"المدن"، أنّ القانون وفق المادة 29 من نظام تنظيم أفراد الهيئة التعليمية  في المدارس الخاصة، "أعطت الحق لمالك المدرسة أن يستغني عن أيّ استاذ يريده قبل تاريخ 5 تموز. أمّا بعد هذا التاريخ، فـ "يمكن أن يلجأ الأستاذ المصروف إلى القضاء، للمطالبة بحقوقه كاملةً".  

في المقابل، ثمّة ما يشي أنّ وزارة التربية لا تلعب دورها الرقابي على أكمل وجه، لجهة مراقبة ميزانيات المداس الخاصة!

ولدى سؤال ضوّ عن الأمر، يؤكد أنّ وزارة التربية لها سلطة على مراقبة ميزانيات المدارس الخاصة، "التي يجب أن تقدمها قبل تاريخ 31 كانون الثاني من كلّ عام، حتّى تتحقق الوزارة من الأرقام". والدور الأول، وفق ضوّ، يقع على لجان الأهل، لأن الموازنة الفعلية لا يجب أن تجري من دون توقيعهم".

لكن، ماذا عن امتناع إدارات المدارس الخاصة السماح للجان الأهل بالاطلاع على ميزانياتها؟ يجيب ضوّ واصفًا الأمر بـ"موضوع طويل عريض"، وهو "اشكاليّ، وعلى لجان الأهل أن تلعب دورها جيدًا". إذ "يمكن لهذه اللجان أن تلجأ إلى المجلس التحكيمي، حين تُمنع من  الاطلاع على الميزانية، ويمكن أن لا يوقعوا عليها حتى تعتبرها وزارة التربية لاغية وغير نافذة قانونيًا". كذلك في مسألة زيادة الأقساط، "تتحدد الزيادات بناءً على القانون 515، وبموافقة لجان الأهل. وإذا وجدت الوزارة أن الزيادات غير صحيحة وغير منطقية، تطلب من المدرسة إعادة النظر وتعديلها، وإذا لم تلتزم تحولها إلى المجلس التحكيمي"، يضيف ضوّ.

ويبقى السؤال الجوهري برسم الوزير شهيب: هل يعقل أنّ كلّ هذه الزيادات التي بلغت في بعض المدارس حدود الـ 300 في المئة كانت صحيحة ومنطقية في نظر وزارة التربية؟!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها