الجمعة 2019/09/20

آخر تحديث: 00:01 (بيروت)

فتى الجرد والفدائيين.. في حضن امرأة بارات الزيتونة

الجمعة 2019/09/20
فتى الجرد والفدائيين.. في حضن امرأة بارات الزيتونة
وضعوا صورتي على البطاقة، فصرت مناضلاً في جبهة التحرير الفلسطينية (الصورة: فدائيون في حقبة السبعينات، الإنترنت)
increase حجم الخط decrease
في شبعا، مسقطي وضيعتي، وفي مدرستها الرسمية، كان عليَّ أن أبدِّد ما تطبّعت به في عين سعادة طوال ست سنوات من طفولتي تلميذًا متفوقًا في المرحلة الابتدائية في مدرسة الراهبات الأنطونيات المارونيات. فالطفل الذي كنته، بل صرته في البلدة المتنيّة ومدرستها الرهبانية في قلب جبل لبنان المسيحي، سرعان ما بدا في وداعة بنتٍ غريبة وتهذيبها وخجلها، بين فتيان شبعا، القرية الجردية الحدودية في جنوب لبنان.

جرد القسوة والشتائم
بعد أيام من عودتنا، شعرت بأن الجبل الصخري الأجرد، المنتصب كجدار ضخم قبالة بيوت الضيعة المعلّقة متقاربةً على منحدر صخري أجرد، يخنقُ بصري وروحي ويسجنهما. خشونة أولاد الضيعة في كلامهم ولهجتهم وسلوكهم وعلاقاتهم، قد تكون مستمدة من صلابة الصخور الصّلدة التي يتغنى أهل الضيعة ويفاخرون بانبثاق نبعين غزيرين منها، قائلين إن في صفاء مائهما ونقائه، مستمدان من صقيع الثلج على أعلى قمة - يسمونها قصر عنتر - في جبل الشيخ المنتصب في أقاصي جنوب لبنان الشرقي، عند مثلث الحدود اللبنانية - السورية - الإسرائيلية أو الفلسطينية؟

العامان الدراسيان الأولان من المرحلة المتوسطة في مدرسة شبعا الرسمية المختلطة، أمضيتهما منطويًا على نفسي وجسمي، منسحبًا من الاختلاط بالصبية التلامذة في صخبهم وألعابهم الخشنة، غير قادر على مجاراتهم فيها. السنون الست في عين سعادة ومدرسة راهباتها، كانت قد انتزعت من ذاكرتي السنوات الخمس الأولى من طفولتي في ضيعتي الجردية، فلم تبق لي منها سوى صور ضبابية نائية. على إفريز اسمنتيّ في ملعب مدرسة شبعا، رحت أجلس منفردا أراجع دروسي في أوقات الاستراحة. صراخ التلامذة وأصوات تدافعهم وعراكهم وتشاتمهم في الملعب، كانت تتردد في سمعي كإيقاع خلفيّ يحاصرني في جلساتي المنعزلة، ويشعرني بأنني صبيّ بلا خشونة الذكورة التي في أجسامهم.

لهجتهم الحادة القاسية - فيما هم يتبادلون كلمات التحدي مثل: "شوووه؟! ولاااه، انقبر فل من هون، شو باك؟ شو بدّك يا ابن عمتي؟ عطيني قفا ظهرك أحسن م إلعن رب اللي نفضك"، وغيرها الكثير، ناهيك عن الشتائم التي يصبّونها على الله وعرشه، والدين والنبي والأخوات والأمهات - أخذت تصعقني، أنا من تعوّدت على أن أقول في تواصلي مع الآخرين: "نعم، عفواً، تكرم، على راسي، إذا بتريد، بتسمحلي؟ عن إذنك". بعضهم أخذ يقترب مني، فيقول لي ساخرًا هازئًا: "إنت بنت أو صبي، ولاه؟! إنت بنت". كأنه في هذا كان ينتقم لنفسه من تفوقي الدراسي عليه وعلى غيره، في مواد التدريس كلها، وخصوصا دروس اللغة الفرنسية التي كنت أجيد لفظ كلماتها أكثر من معظم المدرِّسين، وأصحِّح لهم بعض أخطائهم اللفظية فيها، والإملائية أحيانا.

كانت الحرب قد بدأت في بيروت ربيع 1975، حينما كنت أبحث عن سبيل أو منفذ يُخرجني من عزلتي وتوحدي، ويخلّصني من وصمي بالأنوثة بين التلامذة. بتقرّبي من شلة تكوّنت من بعض تلامذة صفي في أواسط العام الدراسي الثاني (1974 - 1975) من المرحلة المتوسطة، وجدتُ ملجأً أو حضنًا يُكسِبني مقدرة على تجاوز خجلي ووصمتي، ويساعدني في العثور على منفذ لي ودور على مسرح الحياة المدرسية. نجحتُ بتفوق في نهاية ذلك العام الدراسي، برغم أنني في الأسابيع الأخيرة منه، اندفعتُ في مجاراة تلك الشلة في سلوكها، ومع تلميذين تصدرناها. أحدهما التلميذ الذي عدت وإياه من عين سعادة، وعمل والده حلاّقًا في الضيعة، فيما استعاد والدي عمله القديم، تاجر مواشٍ ولحّامًا. أما التلميذ الآخر فكان قريبُه معلّمًا في المدرسة ومسؤولًا في المدرسة والضيعة عن منظمة حزبية ناصرية الهوى، تسمى اتحاد قوى الشعب العامل. استمال المعلّم قريبَه التلميذ، والشّلة تاليًا، إلى المنظمة. وبانتسابي الى هاتين الدائرتين، الشلة والمنظمة، تخلّصت من انزوائي، وصرت منظوراً بين التلامذة، فسمّينا أنفسنا، نحن متصدري الشلة في الصف، مثلّث الصمود. العبارة هذه قد تكون مستلّة أو مستوحاة من المناخ الحربي البادئ في بيروت وضواحيها.

في هذا الإطار المدرسي ومشاحناته ارتسمت الملامح الأولى لبدايات سلوكي ومساري الجديدين. فمن كان في السابق يقول لي "ولاه" أو يسخر من وداعتي ويصمني بالأنوثة، فأظل صامتًا منكفئًا غير قادر على أن أجاوبه بكلمة، أخذتُ أقول له "مئة ولاه"، مندفعًا مع بعض تلامذة الشلّة إلى مجابهته، مبرهنًا للجميع أنني لم أعد حملًا وديعًا، ولا بنتًا، بل صرت قادرًا على شتم أم من يشتمني وأخته وسليلته كلها، غير هيّاب من رفع صوتي بتلك الشتائم، بعدما كنت لا أجرؤ على التلفظ بها، وأشعر بأنها تنغرس في جسمي وروحي كطعنات، كلما سمعتُ التلامذة يتبادلونها أثناء جلوسي وحدي منعزلًا على الإفريز الاسمنتي في ملعب المدرسة. احتفى أقراني في الشلة بسلوكي الجديد هذا، وشجّعوني عليه، فصاروا يقولون: "محمد مشي حاله"، و"انفكّت عقدة لسانه، ولم يعد بنتًا". حتى أن أحدهم سألني مرة إن كان نبتَ شعرُ عانتي، فلم أفهم سؤاله إلا في وقت لاحق، بعدما تقدّمتُ في انتسابي الى الشلة وتصدّري نشاطاتها في ذلك الصيف، عقب انتهاء العام الدراسي، وقيامنا، نحن أعضاء "مثلّث الصمود"، بنشاط فاعل في منظمة اتحاد قوى الشعب العامل في الضيعة.

نداء بيروت وأبو العباس
في نهاية حرب السنتين (1975 - 1976)، وكنت قد صرت من فتيان تجمّع فتحاوي (نسبةً إلى منظمة فتح الفلسطينية) المسلح في شبعا، أشعرني بالفراغ وبشيئ من اليتم رحيل مؤسِّسي التجمع عن القرية، وعودتهم إلى بيروت. كان السلاح مصدر غوايتنا، وعشقِنا لما سميناه الثورة وسلاحها. كنت آنذاك في الخامسة عشرة من عمري، فألحَّ عليَّ نداء بيروت، فقلت لوالدي إنه من الأجدى لي أن أتابع تعليمي في مدرسة من مدارسها، وأقيم عند خالتي وزوجها في محلة بربور. أغريته بقولي له إنني سأجتاز الصفين الدراسيين الثالث والرابع من المرحلة المتوسطة، وأحصل على شهادة البروفيه، في عام دراسي واحد (1976-1977)، وفقًا لقرار وزارة التربية تكثيف البرامج التعليمية في مدارس بيروت الرسمية، ليعوّض التلامذة التعطيل القسري في السنة الدراسية الفائتة بسبب جولات الحرب. راقت الفكرة لوالدي، فوافق عليها مرحبًا بمغادرتي القرية وفوضى مدرستها الرسمية، وشلة فتيانها المأخوذين بغواية الثورة وسلاحها ومخلفات نكاياتها بين الأهالي.

بعد أيام على وصولي إلى بيروت، تعرّفت إلى شاب من الضيعة يعمل حارسًا يجلس على مدخل كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، قرب وزارة التربية في منطقة الأونيسكو. أغواني مسدس التوغاريف الذي كان يحمله، وأخبرني بأنه سيعرّفني إلى شاب فلسطيني يعطيني مسدسًا مثله، ومرتبًا شهريًا كمرتبه، إن التحقت، مثله، بـ"جبهة التحرير الفلسطينية" التي عيّنته حارسًا على مدخل الكلية. ما لك والمدارس، وبماذا ستفيدك؟ قال لي، حين أخبرته بأنني تسجّلت في المدرسة.

في النهار التالي عرّفني، على مدخل الكلية، إلى شاب فلسطيني قال إن اسمه صبري، واصطحبني إلى محلة الفاكهاني خلف المدينة الرياضية، حيث أدخلني إلى ملجأ تحت الأرض، بدا لي كأنه كراج لتصليح السيارات. قادني إلى ما يشبه مكتب في زاوية الملجأ - الكراج، وقدّمني إلى رجل معلّقة خلفه على الجدار خريطة فلسطين، وقال لي إنه الرفيق أبو العباس، قائد "جبهة التحرير الفلسطينية"، وقال له إنني مناضل جديد قادم حديثًا من شبعا في العرقوب. هبّ أبو العباس ورحب بي قائلًا: "أهلن بالرفيق محمد، أنا حبيتك دغري من أول ما شفتك، أهلن بالرفيق". أحسست بقوة كفِّ يده الضخمة وهو يصافحني مضيفًا بأنه سيعينني مساعدًا للرفيقة غادة في قطاع العرقوب. وفيما هو يخرج مغادرًا التفت إلى صبري، وقال له أن يهتم بي. بعد دقائق أبلغني صبري بأنني منذ الآن صرت عضوًا مناضلًا في "جبهة التحرير الفلسطينية"، وعليَّ أن أُحضر معي غدًا صورة فوتوغرافية، لوضعها على البطاقة التي ستصدرها لي الجبهة. قبل مغادرته قال لي صبري أن أنتظره لحظة، وحين عاد أخبرني أن الرفيق أبو العباس شاء أن أقبض مرتبي الشهري سلفًا، وأخرج من جيبه مبلغ 500 ليرة لبنانية من فئة المئة ليرة، وأعطاني إياها. خذها، خذها، إمسك، قال لي، حينما وقفت حائرًا مرتبكًا، وشعر بأنني أتهيب الموقف غير مصدق ما يحدث، ثم تابع قائلًا إن مهمتي مع الرفيقة غادة ستكون توصيل مرتبات مناضلي الجبهة في العرقوب في نهاية كل شهر. والآن ماذا يمكنني أن أفعل؟! سألته، كأنني في ما يشبه منام. لا شيء، لا شيء، يمكنك أن تذهب أينما تريد، وتأتي غدًا، جاوبني، ثم حذرني من اجتياز خط التماس إلى المناطق المسيحية الانعزالية في بيروت الشرقية.

مسحورًا خرجت من الملجأ - الكراج، فصفع ضوء النهار عيوني، كأنني كنت غائبًا عن الدنيا، في مكان بعيد وغريب، أو عدت من رحلة غامضة، متحسسًا مبلغ الخمسمئة ليرة في جيبي، طائرًا على أجنحة فرح تمازجه ريبة، ولا أدري ماذا يمكنني أن أفعل. راكضًا بلا توقف توجهت الى حارس كلية الآداب، عماد، ابن ضيعتي، إذ مَن سواه يمكنني أن أخبره بما حدث، كي أصدّق حدوثه؟ أنا الذي لم أكن في حياتي كلها قد رأيت قط ورقة نقدية تتجاوز الخمسين ليرة. "يقبرني الله، يقبرني المصحف، يا عماد. حبيبي انت وأبو العباس"، قلت له هاتفًا لاهثًا، ثم طبعتُ قبلة على جبينه، لما وصلتُ ورأيته جالسًا على كرسيّه أمام مدخل الكلية. أريتُه الخمسماية ليرة، وأخبرته بما حدث، فذهب إلى مقهى قريب، وأحضر منه زجاجتي بيرة جلسنا نشربهما على المدخل، وسط جموع من الطلاب والطالبات العابرين والعابرات. كنت للمرة الأولى في حياتي أتذوق طعم الكحول، وبعدما شربنا زجاجتين أخريين من البيرة، سألت عمادًا عما يمكننا أن نفعل، بعد، وأين نجد فتيات جميلات مثل هؤلاء البنات على مدخل الجامعة؟

بار في الزيتونة
في المساء اصطحبني عماد إلى منطقة قريبة من خط التماس، قال إن اسمها الزيتونة، وفيها نساء في البارات، فأذهلني ما رأيت في تلك الأماكن الشبحية المغلقة وسط الإضاءة الحمراء الكثيفة الشحيحة التي دوّختني، وأذهلني عري أجساد نساء يلبسن ثيابًا غريبة تكشف من أجسادهن أكثر مما تستر. أنا الذي لم أكن قد لامستُ أيَّ موضع من جسم أنثى، ما خلا تلك القبلة على خدّ تلميذة مدرسة راهبات عين سعادة، كدت أضيع مخدَرًا، حين اقتربتْ مني امرأة في البار، وغمرتني قائلة لي في لهجتها المصرية: "اسمك إيه، يا حبيبي ياضناي؟ تسلملي يا وحشني يا قشطة".

الآن، الآن فقط، في روايتي وقائع يومي البيروتي ذاك، أنتبهُ للشبه بين وقع ما قاله لي أبو العباس في لقائي به في الملجأ - الكراج، وما قالته لي المرأة المصرية التي غمرتني في البار، وقادتني إلى غرفة داخلية ضيقة أشحّ إنارة منه أخذتني وراحت تنزع عني ثيابي، بعدما أعطيتها 25 ليرة من راتبي الثوري الأول، فانتشيت وفجأة قذفت قبل أن أنزع بنطلوني.

في النهار التالي ذهبت الى كراج "جبهة التحرير الفلسطينية" حاملًا صورتي الشمسية، فسألني صبري، قبل إلصاقها على بطاقتي الثورية، أن أختار اسمًا حركيًا. لم أدر من أين حضرني اسم إحسان ابو ناصيف الذي طبعوه على البطاقة مسبوقًا بكلمة المناضل. لكنني بعدما تزوّجت وأنجبت طفلي البكر سميته إحسان. كنت آنذاك قد ذهبت بعيدًا في الثورة، طاويًا الكثير من منظماتها، ومنها جبهة أبو العباس التي لم أبقَ منتسبًا اليها أكثر من ثلاثة أشهر أو أربعة، مداومًا على تردّدي يوميًا إلى كاراجها في الفاكهاني، في العاشرة صباحًا، ثم أغادره في الثانية بعد الظهر، مسلّمًا مهمة المناوبة فيه لمناضل فلسطيني لا يزال اسمه، أبو القاسم، وعينه المفقوءة المطفأة، قويّي الحضور في ذاكرتي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها