الخميس 2019/09/19

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

إطفاء تلفزيون"المستقبل": قطع أوصال الحريرية السياسية

الخميس 2019/09/19
إطفاء تلفزيون"المستقبل": قطع أوصال الحريرية السياسية
تزامن إعلان إغلاق تلفزيون المستقبل مع تكريسٍ مشاعر الغبن لدى طائفة بأكملها (المدن)
increase حجم الخط decrease

في السياسة، ثمّة ما هو أبعد من إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري تعليق العمل في "تلفزيون المستقبل"، وتصفية حقوق العاملين والعاملات فيه، للأسباب المادية نفسها التي آلت إلى اقفال جريدة "المستقبل" أيضًا. القضية لا تقتصر على حقوق موظفين وموظفات، أفنوا عمرهم وحياتهم في مؤسسات إعلام الحريري، حتّى يكون عربون "الوفاء" لهم مجرّد بيان اعتذارٍ من رئيس الحكومة شخصيًا، بعد أن كان طوال فترة حرمانهم من رواتبهم، يكابر على ملاقاتهم للوقوف على جرحهم ومعاناتهم، ولو معنويًا.

كليشيهات تالفة
كأنّ من "وشوش" للحريري ناصحًا إيّاه أنّ التفلزيون والجريدة لم يعد بحاجةٍ لهما، هو نفسه من نصحه بإصدار هذا البيان، حفظًا لماء الوجه، وللتبشير أنّ "شاشة تلفزيون المستقبل لن تنطفئ والمحطة لا تتخذ قرارًا بوقف العمل لتصبح جزءًا من الماضي، بل هي تعلن نهاية مرحلة من مسيرتها لتتمكن من معالجة الأعباء المادية المتراكمة، وتستعد لمرحلة جديدة تتطلع فيها إلى العودة في غضون الأشهر المقبلة".

هذا التبشير، يحمل في واقع حاله رقم اثنين، بعد التبشير الأول الذي تبع إقفال الجريدة، فكانت خلاصته إنتاج ما يُسمى بـ "موقع مستقبل ويب"، من دون أن يرقى لمستوى "بديل" فعلي من جريدة سياسية لها مشروع ورؤية. قد يكون الأمر ليس مهمًا، وتحديدًا في نفوس موظفين وموظفات وصحافيين وصحافيات أدركوا أنّ ذاك المشروع السياسي و"السيادي" الذي كانوا يناضلون لأجله، من خلاله عملهم في مؤسسات الحريري الإعلامية، لم يبق منه غير بعض "الكليشيهات" والشعارات التي لم تعد صالحة سوى للتلف، بعد زمن التسوية الرئاسية، في العام 2016.

ما تبقى هو مجرّد إجراءات قانونية، ولو استغرقت مسارًا زمنيًا طويلًا، يسعى فيه المصروفون لاستحصال حقوقهم المتراكمة كاملةً، والتّصدي لكلّ محاولات قضمها تحت أيّ ذريعةٍ أو حجّة. أمّا عمق أزمة الحجْب، في الشاشة وعلى الورق، فيتجلى في مضمونها كضربةٍ معنويةٍ لتيارٍ سياسيٍ عريض مع ما يمثله طائفيًا، أكثر ممّا هي خسارة ناتجة عن أزمةٍ مالية ضبابية وغير واضحة، بات فيها السؤال مشروع: أين هي موارد الحريري وماذا حلّ بها؟

موت المنظومة الإعلامية
لا شكّ أنّ تلفزيون المستقبل والجريدة، وكلّ المنظومة الإعلامية التي أسسها الرئيس الراحل رفيق الحريري، دخلت في مرحلة "كوما" منذ سنوات، ولم تعد فاعلةً على الإطلاق نتيجة تقهقرها عامًا تلو آخر، قبل وصولها إلى مرحلة إعلان الدّمار الكليّ. لكنّ هذا القطع لأوصال المنظومة الإعلامية الحريرية، لا يمكن فصله عن قطع أوصال "الحريرية السياسية" نفسها التي جاء بها رفيق الحريري الأبّ مع اتفاق الطائف، وهي فائض من المؤسسات والمشاريع المنتشرة داخل الوطن وخارجه. وقبل الوصول إلى إعلام المستقبل، بدأ الانهيار من الامبراطورية الكبرى في "سعودي أوجيه" التي بناها رفيق الحريري، قبل أن يستلمها سعد الحريري، ليكون شاهدًا، للانهيار الاقتصادي والإعلامي والسياسي معًا.  

حان الوقت للاعتراف ربما، أنّ "الحريرية السياسية" بمعناها التّاريخي، قد انتهت في دولة المحاصصات والشراكات الخاصة. وإذا كان الأمر صعبًا، ويجري التّعاطي معه بإنكارٍ وتجاهل، لا سيما لدى طائفةٍ فقدت كامل أذرعها ومظلاتها الداخلية والإقليمية، إلّا أنّ فيه حقيقة كفيلة أن يكرّسها الزمن بكثيرٍ من الحقائق والوقائع.

ثقوب في المظلة
في لبنان الطائفيّ، لكلّ مكونٍ وحزبٍ عدّته ووسائله. أمّا تيار المستقبل الذي يرأسه سعد الحريري كممثلٍ لأكبر طائفةٍ في البلد، فأصبح بلا إعلام، وبلا صوت. وهو مسار طبيعي بعد أن أصبح بلا مشروع، أيّ بعد أن صار فاقدًا لـ"الحريرية السياسة". وهنا الضربة المعنوية الكبرى، التي لا تحتاج سوى الاعتراف ثمّ التفتيش عن مخارج لها. وإذا كان تحقيق الزعامة الفعلية في لبنان، يحتاج إلى قوة في الدّاخل تقوم على قاعدةٍ شعبية عريضة، وفي الخارج عبر "العلاقات" والامتداد الإقليمي، إلّا أنّ ذلك بدأ يتقلص منذ أن تحالف الحريري وعقد التسوية مع ألدّ خصوم جمهوره (التيار العوني)، وبعد أن كشف احتجازه في السعودية في العام 2017 ثقوبًا كبرى في مظلته الإقليمية. هكذا، صار الحريري بلا أرضية، وبلا مؤسسات إعلامية كفيلة بتعبئة ناسه وقاعدته الشعبية. ومثلما تحول إلى رئيس حكومة مسلوب القرار وبسلطةٍ ناقصةٍ في مضمونها، يديرها في العمق "صديقه" وزير الخارجية جبران باسيل، هو اليوم أيضًا من دون تلفزيون وجريدة، وقد يضطر للرضوخ إلى ابتزازات مالية من مؤسسات إعلامية أخرى لنشر تحركاته وأخبار بيت الوسط.

الصمت مع المحكمة الدولية
قبل أيّام، أصدرت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان القرار الاتهامي في قضية محاولة اغتيال مروان حماده والياس المرّ واغتيال جورج حاوي، واتّهم قرار المحكمة سليم جميل عياش ومصطفى بدر الدين (أعلن ​حزب الله​ مقتله في ​سوريا​ في أيار 2016)، و​حسن حبيب مرعي، وأسد حسن صبرا، وحسين حسن عنيسي الملاحق. وهم كانوا ملاحقين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لم يأخذ هذا القرار الاتهامي صخبه ووزنه إعلاميًا. ومعظهم الوسائل الإعلامية الرئيسة في البلد، مرّت عليه مرور الكرام، من دون أن تفرد له حلقات وبرامج ونقاشات، علمًا أنّ "المحكمة الدولية" لتحقيق العدالة هي قضية "المستقبل" المركزية منذ العام 2005، وقد رُفع شعارا "الحقيقة لأجل المستقبل" ومن ثمّ "العدالة" فوق لوغو تلفزيون المستقبل لسنواتٍ طويلة. وهنا لا بدّ من السؤال: كيف تعاطى "المستقبل" المحجوب عن الإعلام مع جمهوره فيما يخصّ قرارات المحكمة الدولية التي ينتظرها؟ وكيف ستُترجم هذه العدالة أصلًا في دولةٍ يحكمها حزب الله ويديرها عصب التيار الوطني الحرّ؟ أو بالأحرى، أين أصبحت "الحريرية السياسية" برمتها؟

تزامن إعلان إغلاق تلفزيون المستقبل، مع فضيحة العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري الذي مرّ عبر مطار "رفيق الحريري الدولي"، من دون أن تحرك الدولة ساكنًا، وبلا أي موقفٍ حازمٍ ورسميٍ مُعلن. وتزامن أيضًا، مع تكريسٍ لمشاعر الغبن لدى طائفةٍ بأكملها تتخبط بنفسها، وتسأل عن سبب بقاء مئات موقوفيها متروكين من دون محاكمات منذ سنوات، ومن دون سندٍ ولا منبر، من منطلقٍ إنساني وحقوقي بالدرجة الأولى. مقابل ذلك كلّه، ثمّة مضي واضح لدى "المستقبل" في مسار التّخلي والإنهزام، فيما "العملاء" يسرحون ويمرحون في البلد، فقط لأنّهم جزءٌ من "المكتسبات الطائفية" لسطلة "العهد القوي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها