الأربعاء 2019/09/18

آخر تحديث: 00:10 (بيروت)

في ذكرى "المقاومة الوطنية": ثلاث نساء جنوبيات

الأربعاء 2019/09/18
في ذكرى "المقاومة الوطنية": ثلاث نساء جنوبيات
نساء المنطقة بغالبيتهن كن يمارسن المقاومة الشعبية العفوية (Getty)
increase حجم الخط decrease

تحتضن مكتبة والدي كتاباً عن شهداء "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، الذين سقطوا خلال مواجهة العدو الإسرائيلي. كتاب هو عبارة عن صورٍ لأشخاصٍ غالبيتهم في العشرينات من أعمارهم، يبتسمون بسلام وطمأنينة، مئات الشبان والشابات لديهم السيرة الذاتية نفسها تقريباً. ففي اسفل كل صورة دونت عبارات قليلة تعرّف بصاحبها، تاريخ ومكان ولادته، تاريخ انتسابه إلى الجبهة، مكان وتاريخ تنفيذ العملية التي أدت إلى الشهادة.

كان هذا الكتاب هو المفضل لي ولإخوتي. فهو كثير الصور، سهل القراءة، وفيه العديد من "الأبطال" و"البطلات"، نتفحص وجوههم/ن بتمعن، نتساءل ترى هذا كثير الشبه لأمه أم لوالده؟ وهل كان يبتسم للحياة أم لأطفالٍ سيتمعنون بصورتهم/ن بعد موتهم/ن. كنا نتوقف طويلاً أمام صورة الشهيدة لولا عبود. نشعر بالفخر والزهو غير مفهومين المصدر. وعندما تأتي صورة الشهيد "عمّار قوصان" نقول: "هيدا إبن إم إبراهيم خيّها لنجاح" صديقة والدتي ورفيقتها.

الأم الروحية
أم إبراهيم وابنتها نجاح وأم جلال، هن من هؤلاء النساء اللواتي شكلّن في منطقتهن محوراً مقاوماً، هن ربات منازل كرّسن وقتهن ومنازلهن لخدمة المقاومة الوطنية ومقاتليها، وكان لهنّ الفضل في إنجاح عملياتٍ عسكريةٍ عدة، وفي إنقاذ مقاتلين كثرمن الوقوع في الأسر أو الاستشهاد.

لمنزل أم إبراهيم مكانة خاصة، على الرغم من أنها كانت الأم البيولوجية للشهيد عماّر، إلاّ أنها كانت بمثابة الوالدة الروحية لمعظم المقاتلين، الذين كانوا يتوافدون إلى منزلها المواجه للمراكز الإسرائيلية في المنطقة، حيث كانت تكثر العمليات العسكرية. فكانت تأوي المقاتلين، تخبئ السلاح في حزمة الحطب وتنقله من مكانٍ إلى مكان، تنتظرهم لحين عودتهم: "كانوا يجوا لعندي عالبيت لهون، كثير منهم ما بعرفهم، إفردلهم أوضة بالبيت. فضّيها. حط فيها فرش حتى يناموا. وحضّرلهم أكل، يجوا ياكلوا ويفلوا بطلوع الضوء، وكنت روح انقل السلاح من الوعر، يوصفولي وين مخبيينهم. إنزل عالدابة. وأني حافظة المنطقة كلها، إنزل إحزمهم بالحطبات وطلعهم".

أولاد إم إبراهيم وأطفالها كان لهم/ن حصة في النضال منذ نعومة أظافرهم/ن، فكانت ترسل إبنها الذي لم يتجاوزالعاشرة من عمره، يتجول في الوادي يردد أغان متفق عليها مسبقاً كي يطمئن بال المقاتلين إليه.

المقاومة الجوالة
أما إبنتها نجاح فكانت تجول في الوديان لإيصال "زوادة" الطعام للمقاتلين، كانت  تنقل الأخبار والمعلومات من قريةٍ إلى أخرى، تروي نجاح كيف اضطرت إلى قطع مسافة طويلة سيراً على الأقدام في ظل الحواجز الإسرائيلية ونقاط التفتيش لإيصال مبلغٍ من المال لشراء السلاح. وفي كثير من الأحيان كانت النساء يتصرفن من تلقاء أنفسهن، إذا ما وجدن خطر يحدق بالمقاتلين، من دون انتظار التعليمات. تروي نجاح كيف اضطرت، عندما وقع بعض المقاتلين في الأسر، أن تجوب القرى لإبلاغ رفاقهم بالابتعاد وتغيير مكان السلاح، خوفاً من أن يدلي المعتقلون بأي معلوماتٍ جراء عمليات التعذيب.

يحدثنا عباس .غ. المقاوم السابق في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، عن منزل إم إبراهيم: "كانت داعمة أساسية. كنا ننطلق من بيتها وطول ما نحن بالوادي عيونا عالبيت، كانت تودعنا وتستقبلنا وتدعيلنا بالتوفيق، نحن تركنا أمهاتنا بلا قبلة وداع، فكانت أم إبراهيم تخفف عنا وطاة هذا الفراق".

ويقول: "نساء المنطقة بغالبيتهن كن يمارسن المقاومة الشعبية العفوية بفعل حسهن الوطني، من دون طلب من أحد. كنّ يتواطأن مع المقاومين وهم أبناء منطقتهن وأقاربهن. فيقمن بأعمال مراقبة العدو ونقل المعلومات بطريقة سرية". ويعتبر أن مهمة النساء كانت أساسية وفعالة، وكانت أصعب من مهمة تنفيذ العمليات العسكرية. إذ كان عليهن التنقل عبر نقاط التفتيش حاملات الأسلحة أو الأوراق السرية. كان عليهن مراقبة العدو وإنشاء شبكة من العلاقات كي يحصلن على المعلومات، معرضات أنفسهن وأطفالهن للخطر.

شتلة الحبق
تتحسر أم جلال وهي أم لثلاثة أطفالٍ، على تلك الأيام "الجميلة" برأيها، كانت أماً تملك متجراً صغيراً في إحدى البلدات الحدودية، وكان عليها أن تمر يومياً عبر نقطة تفتيش إسرائيلية رئيسية في بلدة الغندورية. منحها هذا الواقع المعاش نقطة قوة. إذ أنها باتت وجهاً مألوفاً لدى عناصر الحاجزالإسرائيلي، فباتوا لا يتشددون في تفتيشها، ما سهل عملية نقل السلاح والمعلومات وحتى المقاتلين عبر الحاجز.

تقول أم جلال: "كنت أبلغ المهام عن طريق شخص واحد لا أعرف غيره، وكانت الإشارة المتفق عليها هي أن يضع لي ورقة في شتلة الحبق أمام منزلي، كنت أراقب نبتة الحبق في كل الأوقات وأحرص أن لا تغفل عن عيني، وكانت هذه الإشارة تعني أن عليّ إخلاء المنزل في هذه الليلة كي ينام فيه المقاتلون، كانت أحضر لهم الطعام وأجهز فراشهم. بعدها أخرج وأطفالي كي ننام عند أحد الأقرباء".

ومن أصعب المهام وأخطرها، تقول أم جلال، هي عندما يوكل إليّها نقل المقاتلين العالقين في الوادي بسيارتها الخاصة: "كنت أحمل أولادي وإحدى رفقاتي في الحزب، ونقصد النقطة المتفق عليها، حيث يصعد المقاتلون ويضعون الأطفال في أحضانهم. وقمة التوتر كانت عند المرور بهم عبر نقطة التفتيش".

أم جلال، أم إبراهيم، نجاح وغيرهن كثر، مقاتلات عملن في السر. ما شكل عبئاً إضافياً عليهن. فكان عليهن الحذر من أهالي القرى المنتسبين للأحزاب اللبنانية الأخرى ومن الوشاة بينهم على حد قولهن، أكثر من حذرهن من العدو ذاته. عبارة أخيرة قالتها أم ابراهيم "لو هلق بترجع المقاومة الوطنية أنا وبالعكازة برجع بعمل نفس الشي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها