الجمعة 2019/05/24

آخر تحديث: 01:06 (بيروت)

المحامون يفتحون معركة ضدّ القضاة المعتكفين

الجمعة 2019/05/24
المحامون يفتحون معركة ضدّ القضاة المعتكفين
اعتكاف القضاة ينطلق من مبدأ رفض إيراد نصوص تتعلق بالسلطة القضائية في مشروع قانون الموازنة (محمود الطويل)
increase حجم الخط decrease
يستمرّ قضاة لبنان في اعتكافهم، تصديًا لمحاولة المسّ بـ"أمن القضاة الاجتماعي"، وفق ما ينقل عنهم، في ظلّ توجه الحكومة إلى الاقتطاع من مخصصاتهم، بدءًا من تخفيض مساهمة خزينة الدولة في صندوق التعاضد العائد إليهم، وصولًا إلى تخفيض في مختلف التقديمات، من منح تعليمية واستشفائية وغيرها. لكن، يبدو أنّ اعكتاف القضاة الذي دخل أسبوعه الرابع في لبنان، تزامنًا مع جلسات مجلس الوزراء، التي تبحث إقرار مشروع الموازنة العامة، قبل إحالته إلى مجلس النواب، يأخذ منحىً تصعيديًا بالغ الخطورة، بدأت بوادره يوم الأربعاء، مع دخول المحامين على خطّ المواجهة ضدّ اعتكاف القضاة. والأخيرون سارعوا ووضعوا تحرّك المحامين ضدّ اعتكافهم في إطار "تعليمات السلطة السياسية القائمة" من أجل ضرب تحركهم الاعتراضي وتطويعهم.

تصعيد غير مسبوق
نفذ يوم الخميس، في 23 أيار 2019، محامو الشمال "وقفةً احتجاجية" على استمرار اعتكاف ​القضاة​ في دار النقابة، وسلّموا نقيب المحامين في ​طرابلس​ و​الشمال​ ​محمد المراد​ بيانًا بعد تلاوته علناً، تضمن "لائحة مطالب في ضوء استمرار اعتكاف القضاة عن ممارسة أعمالهم"، معلنين أن تحركهم ليس موجهًا ضد ​القضاء​ كسلطة، وإنما موجه ضد الأداء العام الذي لا يستطيع أحد إنكاره والذي انعكس سلباً على البلد عمومًا".

وفي خطوةٍ لافتةٍ غير مسبوقة في لغة الخطاب بين المحامين والقضاة، سطّر المحامون بيانًا شديد اللهجة، أخذ طابع "التحذير" بأنّ هذا البيان هو بمثابة "تمنٍ" أخير(!)، قبل اللجوء إلى إجراءات يتيحها القانون، وفق البيان الصادر عنهم، ومنها:

  1. التوجه لمجلس القضاء الأعلى للقيام بواجباته تجاه القضاة المخالفين لتوجهاته الرافضة لبدعة الاعتكاف، والداعية لممارسة القضاة لأعمالهم.
  2. التوجه لمجلس نقابة المحامين عند عدم التجاوب ضمن مهلةٍ محددة، لاتخاذ الإجراءات التي نصّ عليها القانون والتي تبدأ بتوجيه الإنذارات إلى القضاة المتخلفين عن أداء وظيفتهم القضائي، وصولًا إلى مداعاة الدولة عن ممارسة القضاة.
  3. تحفيز مجلس القضاء الأعلى لتفعيل العمل القضائي عبر: التطهير الداخلي لمنتسبيه، وتوسيع الملاك القضائي، وتعديل طريقة اختيار القضاة، وزيادة أيام العمل والحضور في قصور العدل وفي عقد الجلسات، وتقصير المهل القضائية، والعمل على تقصير العطلة القضائية، والتشدد في وجوب الإلتزام  بالأصول، التي تنصّ عليها قوانين أصول المحاكمات.

هذا البيان الذي أخذ وقْعه طابع "الصدمة" والاستياء في صفوف القضاة، وفجّر السجالات بين المحامين والقضاة على صفحات التواصل الاجتماعي، بلغت حدود الاتهامات المتبادلة بالتواطؤ والفساد والتخوين، ترك ندوبًا وآثارًا سلبية قابلة للتدهور والتفاقم، ورفع منسوب الضغط في الأيّام المقبلة داخل السلك القضائي والعدلي. وإذا كان القضاة يضعون تحرك المحامين كـ"سابقةٍ خطرة بحقّهم" في خانةٍ "مشبوهة" وغير بريئة تخدم "تعليمات بعض القوى المسؤولة عن نهب البلد"، وفق النقاشات المتداولة فيما بينهم، إلّا أنّ المحامين استطاعوا إلى حدٍّ ما أن يتمترسوا بتحركهم خلف "مصلحة العدالة والمتقاضين والموقوفين"، لا سيما أنهم عمليًا أول المتضررين باعتكاف القضاة، الذي يتنج عنه تعطيل عملهم في قصور العدل.

نقيب المحامين في الشمال محمد مراد الذي توجه للمحامين المحتجين بالتأكيد على أنّه ليس ضدّ تحرك القضاة، وفي الوقت نفسه ليس معه، اعتبر أنّ ثمّة ضررًا واضحًا للمحامين والمتقاضين على حد سواء، جراء هذا الاعتكاف، ولكن "علينا أن نعترف بأن المشكلة ليست في حقوق القضاة وحسب. فهناك أزمة مالية اقتصادية حقيقية، ظهرت بشكل أو آخر عند إعداد مشروع الموازنة". وفي حديث لـ "المدن"، يشير مراد أنّ موضوع اعتكاف القضاة لم يكن مسألةً مُجمع عليها بأنّها الوسيلة الفُضلى لسببين: "السبب الأول، هو في طريقة التعبير التي لا تعتبر دقيقة، لأنّ القاضي هو جزء من السلطة والسلطة لا تعتكف. والسبب الثاني، لا يمكن للقضاة في السلطة القضائية أن يوجه رسالة للسلطة السياسية عبر ضرب مصالح الناس والمحامين معًا". فـ"مطالب القضاة حقّ مشروع، ونحن نتطلع أن يكون القضاة على قدرٍ كبير من الارتيارح على المستوى المادي والمعنوي تعزيزًا لاستقلالتيهم، لكنّ الاعتكاف هو تعطيل للمرفق العدالة في البلد، وأصبح يشكل ضررًا مباشرًا وحقيقيًا لمصالح المتقاضين والمحامين، ونحن إن كنّا نقف إلى جانب القضاة، لكننا نختلف معهم في وسيلة تعبيرهم".

ينطلق مراد من مبدأ أنّ "القاضي يعكف لإصدار الحقّ ولا يعتكف عن إحقاق الحقّ"، ويأسف أنّ قصور العدل أصبحت مكفهرّة ومقفلة، معتبرًا أنّ من حقّ المحامين التعبير عن مطالبهم ومعاناتهم "لأنّه ليس لديهم راتبًا كلّ آخر شهر"، ويسأل: "إذا اعتكف القضاة وفقدنا الحكم القضائي لمن نترك العدالة؟".

يستغرب مراد وضع القضاة لتحرك المحامين في إطار التوجيه السياسي، ويستند إلى موقف مجلس القضاء الأعلى الرافض لاعتكاف القضاة، باعتباره الجهة القانونية والرسمية والشرعية التي تتلاقى نقابتي المحامين معه في موقفه.

القضاة يطالبون بالاستقلالية
وفي سياق معركة المحامين مع القضاة المعتكفين، يصف مصدر قضائي رفيع المستوى بيان المحامين عبر "المدن" بـ "المُدان"، ويذكر محامي الشمال تحديدًا، أنّهم سبق أنّ اعتكفوا منذ فترةٍ قصيرة عن العمل، أمام أحد القضاة نتيجة خلافٍ معه. ويؤكد أنّ اعتكافهم كقضاة قد أُكرهوا على ممارسته: "لأننا لسنا من دعاته وهواته، ونحن نستثني فيه قضايا الموقوفين والقضايا الملحة التي يكون ضررها غير قابلٍ للتعويض". فـ"لا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي أمام مشروع موازنةٍ يتعرض لحقوق القضاة ومكتسباتهم، ويمسّ بمبدأ فصل السلطات، ويعمل لإقرار تشريعات تطال القضاة بمنأى عن مجلس القضاء الأعلى، لا سيما أنّ المادة 5 من القانون العدلي يفرض موافقة مجلس القضاء الأعلى على أيّ تشريع يخصّ القضاة، فيما أن من يتحمل مسؤولية عجز الدولة هي سياستها المالية المتعاقبة، وليست مكتسبات القضاة المحقّة التي يجب أن تضمن عدم تطويقه بالقرار السياسي". 

يوم الخميس، نشرت صفحة "نادي قضاة لبنان" على فايسبوك جزءًا مقتطفًا من تحقيقٍ نشرته "المفكرة القانونية" تحت عنوان "أيّ موازنة للهيئات القضائية من مجموع النفقات العامة؟"، يُبيّن أنّ نسبة النفقات القضائية من مجموع النفقات العامة بلغت وفق موازنة العام 2017 مستواها الأدنى خلال العقدين الأخيرين أيّ 0.47 في المئة. وسأل النادي: هل يصدّق عاقل أنّ التعرّض لضمانات  القضاة المالية هدفه خفض عجز الموازنة؟ معتبرًا أنّ هذا الرقم يفضح مخطط تقويض استقلال السلطة القضائية. 

اعتكاف القضاة، ينطلق من مبدأ رفض إيراد نصوص تتعلق بالسلطة القضائية في مشروع قانون الموازنة والموازنات الملحقة لعام 2019. ويؤكد المصدر القضائي أنّ المطلب الأساسي للقضاة المعتكفين في المرحلة المقبلة، يرتكز على المطالبة بـ "إقرار قانون استقلال السلطة القضائية الذي يكرّس الاستقلال الإداري لناحية إجراء التعيينات والمناقلات، والمالي بموازنة خاصة مستقلة بعد انتخاب القضاة لمجالسهم".

أين مجلس القضاء الأعلى؟
عمليًا، غياب موقف مجلس القضاء الأعلى من الأزمة الواقعة بين المحامين والقضاة، قد يؤدي إلى توتير الوضع بينهما، بمنحى سلبي جدًا لدرجة فقدان "الهيبة القضائية" في لبنان. فحالة الصراع القائمة بين القضاة والمحامين، قد تكون نموذجًا عن محاولات السلطة السياسية لضرب القطاعات ببعضها، وفق منطق "فرّق تسد". وإذا كان ثمّة لجوءاً مفرطًا من القضاة بتكريس سلطتهم في الاعتكاف، فقد قابله المحامون بحملةٍ على القضاة، بدأت تظهر ملامحها بتراشق التهم بصورةٍ علنيّة. لكنّ السؤال يبقى: أين هو مجلس القضاء الأعلى من كلّ ما يحصل وما سبب التبيان الحاصل بينه وبين القضاة؟

للتذكير، فإنّ مجلس القضاء الأعلى، المسؤول عن سير القضاء في لبنان، يُعيّن من السلطة السياسية بأكثرية 8 أعضاء من أصل 10 أعضاء. وهناك عضوان ينتخبهم قضاة التمييز، الذين يُعيّنوا في الأصل بتشكيلات مفصّلة برضى الطبقة السياسية. في البدء، وحسب المعطيات، حاول مجلس القضاء الأعلى أن يقف في وجه اعتكاف القضاة، ولم ينجح بذلك. كذلك فعلت السلطة السياسية، و"حرضت" جزء من القضاة التابعين لفلكها من أجل الامتناع عن الاعتكاف، لكن القسم الأكبر لم يستجب.

وبما أنّ رئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد، هو المؤثر الأول في المجلس، إلّا أنّه أصبح فاقدًا لثقة جميع الأطراف، وفق ما أشارت مصادر قضائية لـ "المدن". فـ"مجلس القضاء الأعلى سُلبت صلاحياته، نتيجة سوء إدارة رئيسه، وتدخل السلطة السياسية، فهو منذ انطلاق العهد الجديد، أصبح الرئيس فهد محاصراً سياسيًا، بتهديده بتغيير اسمه، ما أدى إلى رضوخه لمطالبهم، وهو ما تبيّن في التشكيلات القضائية، التي جاءت مفصلة على مقاسات القوى السياسية الحاكمة".

هذا، وتشير معلومات "المدن" أنّ الرئيس جان فهد، ومنذ الأيام الأولى لبدء القضاة باعتكافهم، طلب موعدًا من رئيس الحكومة سعد الحريري من أجل لقائه، لكنّ لم يتحدد له حتّى اليوم(!)، وهو ما قد يُثبت أنّ مجلس القضاء الأعلى، فقد فعليًا قدرة الإمساك بزمام الأمور، وهنا طامة "العدالة" في لبنان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها