الخميس 2019/05/16

آخر تحديث: 00:02 (بيروت)

إحياء "نكبة الموارنة" في الحملة المملوكية: الغرق والحرق والسحل

الخميس 2019/05/16
increase حجم الخط decrease

قبل أيّام قليلة من خسارة لبنان والموارنة أهمّ بطريرك ماروني عرفه التاريخ المعاصر، البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، قام خمسة وأربعون شخصًا بتقفّي أثر البطريرك لوقا البنهراني، أي لوقا من بنهران، استنادًا لنصّ ورد في "تاريخ الأزمنة" للبطريرك اسطفان الدويهي، أب التاريخ الماروني. على مدى يومين، سلك سمير غصن وفريقه الدرب نفسها التي سلكها الموارنة هربًا من مجازر المماليك في العام 1283، في مبادرة هي الأولى من نوعها في تاريخ لبنان. تحت عنوان "الحملة المملوكية على جبّة بشرّي – من الكتلة إهدن إلى عاصي الحدث"، انطلقت المسيرة التي هدفت إلى إحياء ذكرى أكبر مجزرة عرفها تاريخ الموارنة، والتي ارتكبت بحق الموارنة من أتباع البنهراني. سمير غصن هو أستاذ فلسفة ولد في الديمان في قضاء بشرّي، ويمضي الجزء الأكبر من وقته، منذ أكثر من 15 عاما، في وادي قنّوبين.

الحملة كما رواها الدويهي
جاءت الرواية حول الحملة المملوكية في "شْحِيمة"، كتاب الصلاة في اللغة السريانية، وجدها البطريرك الدويهي في مغارة قطّين الرواديف، ووثقّها في "تاريخ الأزمنة"، ونصّها الحرفيّ كما نقله الدويهي: "في شهر أيار (العام 1283)، سارت العساكر الإسلامية إلى فتح جبة بشري فصعد شرقي طرابلوس العسكر في وادي حيرونا وحاصر إهدن حصاراً شديداً، وفي نهار الأربعين ملكها بشهر حزيران، فنهبوا وقتلوا وسبوا ودكوا للأرض القلعة التي بوسط القرية والحصن الذي على رأس الجبل، ثم انتقلوا إلى بقوفا وفتحوها في شهر تموز، وقبضوا على أكابرها وأحرقوهم بالبيوت ونهبوا وسبوا ودكوها إلى الأرض، وبعدما ضربوا بالسيف أهالي حصرون وكفرصارون في الكنيسة، توجهوا في الاثنين وعشرين من شهر آب إلى الحدث، فهربوا أهلها إلى العاصي، وهي مغارة منيعة فيها صهريج للماء، فقتلوا الذين لحقوهم وخربوا الحدث، وبنوا برجاً قبال المغارة، وابقوا فيه عسكر يكمن عليهم، ثم هدموا جميع الأماكن العاصية. واذ لم يقدروا يفتحوا قلعة حوقا التي قبال الحدث، أشار عليهم ابن الصبحا من كفرصغاب بجر النبع الذي فوق بشري وتركيبه عليها، فملكوها بقوة الماء لأنها داخل الشير، وأذنوا لابن الصبحا بلبس عمامة بيضه يانس وان تقيم العبيد بخدمته. ولما رجع العسكر وتاب عن سوء فعله عمر دير سيدة حوقا لسكنة الرهبان، وهو بالقرب من برج الذي كان في الشير".

يشير الدويهي في نصّه إلى "القلعة وسط القرية" وهي "الكتلة" في إهدن، أي التلة التي تقوم فوق ساحتها كنيسة مار جرجس الكبرى، والذي نوى (وربما لا يزال ينوي) مجلس كهنة رعية زغرتا-إهدن تجويفها برّمتها، هدم أسوارها الدهرية واستبدالها بجدران جديدة من حجر التلبيس، بهدف إقامة موقف كبير للسيارات داخلها، وسط اعتراض شعبي كبير. أمّا "الحصن الذي على رأس الجبل"، فهو كنيسة سيّدة الحصن التي أطلق المسيحيون عليها هذه التسمية كي تشفع العذراء مريم لمن يلتجئ إليه كملاذ أخير في فترات الحروب منذ المماليك، والتي تعرّضت منذ حوالى ثماني سنوات لخطر تشويهها عبر فكرة مشروع يقضي بإنشاء مبنى من ثلاث طبقات من الباطون المسلح على رأس الجبل وراء كنيسة السيدة شرقاً، وصولاً إلى الكوع على مساحة 3000 متر مربع، لكنه لم يبصر النور. أمّا العاصي فهي مغارة في وادي قاديشا، المدرج على قائمة منظمة يونيسكو للتراث العالمي. وهو الوادي الذي يُعرف محلياَ بـ"الوادي المقدّس". في الوقت الذي ينكب فيه الموارنة، قادة سياسيين وروحيين، إلى تحويل كل بقعة من الأرض التي لجأوا إليها إلى مواقف للسيارات، أو مقلع للصخور أو فندق بنجوم كثيرة لا لزوم لها، تجمّع فريق سمير غصن على ساحة الكتلة عند الساعة الخامسة صباحًا ومشى.

اقتفاء أثر البنهراني
"اسمعوا صراخ النساء، بكاء الأطفال وأنين العجزة"، قال سمير غصن لفريقه في طريقهم إلى عاصي الحدث. في حديث لـ"المدن"، يقول غصن أن رواية الدويهي تفيد بأنّ المماليك شنّوا في العام 1283 حملة على جبة بشري في شمال لبنان، وحاصروا إهدن، ثم توجّهوا إلى الحدث: "لا تحدّد الرواية ما إذا كانت الكتلة سقطت أولا أو الحصن الذي على رأس الجبل، لكن الأكيد أن الكتلة صمدت في وجه المماليك أربعين يوماً، فيما سقط الحصن في غضون أيام معدودة"، ويضيف: "كان سقوط الكتلة فاجعة كبيرة إذ تفاجأ الموارنة بامتلاك المماليك لسلاح المنجنيق، وهو عبارة عن مدفع بدائي يُطلق الحجران والصخور، حيث تمكّن المماليك من إحداث ثغرتين في سور الكتلة ودخول القلعة عبرهما".

يتحدث غصن عن فرقة عسكرية تابعة للمماليك أطلق عليها تسمية "التركمان"، وكانت مؤلّفة من صبيان احتفظوا بهم المماليك أثناء غزواتهم الكثيرة، فدرّبوهم وحوّلوهم لآلات للقتل. يقول غصن أنّ "التركمان فرقة من الخيّالة، لا يترجّلون عن الخيل. يقاتلون عليه ويموتون عليه". عندما دخل المماليك إلى القلعة، يقال إن بعض المقاتلين الموارنة تمكنوا من الفرار عبر نفق يربط القلعة بالحصن، لم يتم التأكد من صحة وجوده، فيما قطع "التركمان" رؤوس المقاتلين الموارنة. بعدها، وحسب غصن، وضعت جماجم المقاتلين الموارنة على رؤوس الرماح وجابوا فيها قرية إهدن مروّعين الأهالي، قبل أن يضرموا النار بالقرية، فبقيت إهدن تحترق لثلاثة أيام متواصلة. عندها، هرب الأهالي نحو بقوفا، لكنها سقطت بعد يومين أو ثلاثة كحدّ أقصى. فلجأوا من بعدها إلى جبة بشري من دون أي قدرة قتالية.

"سفر خروج" الموارنة
قبل انطلاقة المسيرة من الكتلة في إهدن، قام كل من أعضاء الفريق البالغ عددهم 45 شخصا بتقديم وردة بيضاء تخليدًا لذكرى المقاتلين الذين دفنت أشلائهم في ساحة الكتلة. ووجه الفريق تحية خاصة إلى الأرملة الهدنانية، وهي رواية حاضرة في الذاكرة الجماعية للأهالي، والتي تجرأت وحيدة على دفن أشلاء المقاتلين الشهداء عند الكتلة قبل أن تتجه نحو كفرصغاب، حيث قرعت جرس كنيسة مار أوتل حزنًا، إكراما للأموات وإنذارًا للأحياء كي يلوذوا بالهرب. يعلّق غصن: "إذا كان للموارنة في تاريخهم سفر الخروج، فهذا هو".  

عندما لجأ الموارنة إلى مغارة عاصي حوقا، عمد المماليك إلى إغراق المغارة بالمياه، فمات الأهالي غرقًا. أمّا الذين خرجوا منها هربًا من الغرق، فقتلوا فورًا. في مغارة عاصي الحدث، حيث انتهت المعركة بتسليم البطريرك لوقا البنهراني نفسه، عمد المماليك إلى قطع المياه عن هذه المغارة المنيعة التي تحوي صهريجا للماء. لكن المياه المخزنة كانت تكفي الأهالي أياماً عدة. وبما أنّ المماليك كانوا على عجلة من أمرهم لإنهاء الحملة والقبض على البطريرك، إذ كاد يقترب فصل الشتاء ولا قدرة قتالية لهم في الثلوج على عكس أبناء الجرود، عمدوا إلى تسميم المياه عبر رمي جثث الحيوانات فيها، فتوفي الأطفال والعجزة وسلّم عندها البنهراني نفسه للماليك.

الذاكرة والجغرافيا
في هذا السياق، يذكّر غصن بالدعاء الشهير لدى المسيحيين الموارنة "ربي لا تمتني لا حريق، ولا غريق، ولا تشحشط عالطريق"، ويتساءل: "من أين للموارنة، في عزلتهم في الجرود، هذا الخوف من الغرق، هم الذين لم يعرفوا البحر يوما؟". حسب غصن، يعود هذا الدعاء للحملة المملوكية هذه، فالحريق يشير إلى إضرام القرى بالنار، والغريق إلى تغريق المغارة، و"التشحشط" إلى ربط الأهالي بالخيل وسحلهم خلفه طوال الطريق إلى أن يموتوا.

استمرت المسيرة ليومين عبر فيهما سمير وفريقه أربعين كيلومترا. يصف غصن التجربة بالرائعة، وهي في حسبانه نوع من إحياء للذاكرة الجماعية، في صلب وجدان المسيحيين الموارنة. يقول: "كنّا نصرّ على أنّ يكمل الفريق كاملا الدرب كما فعل الموارنة في العام 1283، لكن 18 شخصا فقط وصلوا إلى عاصي الحدث، تماما كما لم ينج من المجزرة سوى القلائل". يعتبر سمير غصن، الذي أعاد خَلْق المسار من خلال اقتفاءه لأثر المسارات في الوادي من قرنة الحريقة، إلى درب المشاحر والبيدر الخربان مرورا بهوّة ميليا، أن "لا تاريخ للموارنة من دون الجغرافيا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها