الأحد 2019/05/12

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

سنا حمزة.. ثلاثون عاماً في علاج ضحايا التعذيب

الأحد 2019/05/12
increase حجم الخط decrease
بعد فوز الدكتورة سنا حمزة من طرابلس، وهي المستشارة الطبيّة لمركز "ريستارت" (Restart) لإعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب في لبنان، بـ"جائزة باربرا تشستر" (Barbara Chester Award)، التي تمنحها للسنة الثامنة على التوالي مؤسسة The Hopi Foundation في الولايات المتحدة الأميركية للسنة الثامنة، أجرت "المدن" مقابلةً معها للحديث عن الجائزة الأهم في العالم، التي تُمنح للمعالجين النفسيين، الذين يتبعون معايير عالمية تُعنى بالشفاء النفسي لضحايا العنف والتعذيب، وتحديدًا لأشخاص حققوا إنجازات بارزة وتقدميّة على هذا الصعيد.


27 ألف ناجٍ
تكللت مسيرة الدكتورة حمزة في العمل الإنساني، الذي دام نحو 30 عامًا، في خدمة الضحايا الخارجين من معتقلاتهم، لا سيما في بلدان الحروب والنزاعات، بهذه الجائزة العالمية، التي جاءت تقديرًا لنهجٍ ابتكاريّ أرسته في التعاطي مع الناجين من التعذيب والعنف، وفي مقاربتها المتعددة الأوجه التي تركز على الضحايا، بهدف إعادة بناء حياة الناجين من أعمال التعذيب وتأمين الحماية اللازمة لهم.

رشحت مديرة مركز "ريستارت" سوزان جبور الدكتورة حمزة لهذه الجائزة، التي من المفترض أن تستلمها في 5 تشرين الأول المقبل في ولاية أريزونا في أميركا، بعد أن وقع خيار اللجنة عليها مع اثنين آخرين من بين عدّة شخصيات ناشطة في مجال الشفاء النفسي. ونتيجة إجابتها على أسئلةٍ وُجّهت لها عبر سكايب، أظهرت الدكتورة حمزة مهارةٍ  وحرفيةً لافتتين، لا سيما أنّها تعاملت منذ تأسيس مركز "ريستارت" في العام 1996 مع نحو 27 ألف ناجٍ من ضحايا التعنيف والتعذيب، يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب، وغيرها الكثير من الحالات النفسية، بالتعاون مع فريق متخصص في مختلف المجالات.

الصمت والعمل
تجلس الدكتورة حمزة البالغة 57 عامًا على أريكةٍ دائريّة برتقاليّةٍ مريحة في مركز "ريستارت"، تتماشى مع متطلبات عملها، وتعود إلى بدايات تأسيس مركزها الخاص في العام 1984، حين لم تكن منتشرة ثقافة "المعالجة النفسية" لضحايا العنف والتعذيب. غير أنّ شغفها الكبير بتخصصها في ذلك الوقت، دفعها إلى خوض غمار التّحدي رغم كلّ الصعوبات التي واجهتها: "في السنوات اللاحقة، بنينا ثقة كبيرة مع المدارس، التي أصبحت ترسل لنا الحالات، وعقدنا عددًا كبيرًا من المؤتمرات والندوات وحملات التوعية عن الصعوبات التعليمية التي هي خللٌ وظيفي وحسيّ، كان يعاني منه حتّى آينشتاين. من هنا كانت انطلاقتنا".

تتسم الدكتورة سنا بصفة "الصمت" والعمل في الظلّ. ثلاثون عامًا من العمل الدؤوب حول العالم، لم تبحث فيها عن شهرةٍ ولا عن تسويقٍ ذاتي مجانيّ. فـ"ليس لديّ ترف الوقت في الظهور على الإعلام والحديث عن نفسي، بينما أستغلّ اللحظات لإنجاز واجباتي". ولدى سؤال بعض العاملين في "ريستارت" عن "مُلهمتهم"، يلخصون مشاعرهم تجاهها بعبارتين: "أخلاقيات عالية استثنائية، وإنسانيّة كبيرة غير محدودة". تعتبر الدكتورة سنا أنّه من خلال العمل في مركز "ريستارت" بفرعيّه في طرابلس وبيروت، استطاعت أن تخلق هويةً خاصةً ونمطًا مختلفًا في معالجة ضحايا التعذيب، "انطلاقًا من حاجتهم" في العلاجين الفردي والعائلي.

الحرب السورية
ما قبل الحرب في سوريا، ليس كما بعدها. تركت الحرب السورية في نفس الدكتورة سنا أثرًا بالغًا، وتحول المركز على إثرها إلى "حالة طوارئ" دفعت إلى توسيع فريق العمل وتدريبه ليلًا نهارًا. قبل الحرب في سوريا، "عملتُ مع آلاف العراقيين والفلسطينيين. لكن خلال الحرب الأخيرة، شعرنا بالخطر عدّة مرات مع بعض الحالات الذين لم يكن لديهم شيء يخسرونه، وصرتُ أوثّق الحالات".

التجارب الشخصيّة لضحايا التعذيب والعنف في سوريا، "كبّرتني"، تقول الدكتورة سنا: "التجربة السورية علّمتني كيف اسمع وجعهم بطريقة مختلفة". تتذكر بعض الحالات والقصص التي لا تُمحى من ذاكرتها. "أحد المعتقلين في سوريا، كان جلّاده يُعذّبه بحرمانه من النوم. وكلّما أراد أن يغفو بشكلٍ لا إراديّ، يرمي عليه الماء. لقد مات بعد فترة نتيجة حرمانه من النوم. ولدى سؤالي أحد أطباء الأعصاب عن الحالة، أكّد لي أن الجسد حين يُحرم من النوم رُغمًا عنه لفترة طويلة ومتواصلة، يدخل في حالة هذيان وتبوّل لا إرادي، ثمّ يفقد توازنه ووعيه لدرجة الموت".

أحد الناجين من التعذيب، "أخبرني أنّه بعد خروجه من معتقله الذي تعرض فيه للتعذيب، لم يعد يقوى على الركوع والصلاة. فعندما قاموا بتعذيبه، كانوا يُجبرونه مع عددٍ كبيرٍ من المعتقلين أن يركع عاريًا على الأرض لوقتٍ طويل، وإذا رفعوا رؤوسهم من دون ترديد أصوات حيوانية، يكسرون عليه الزجاج". تقول الدكتورة سنا: "مساعدة الناجين على التحدث عن تجاربهم أمر بالغ الحساسيّة والأهمية، لأن التعذيب يؤثر بشكلٍ دائمٍ عليهم، وليس شعورًا مؤقتًا يمكن نسيانه فقط".

التوثيق والتعويض
خلال عملها، استطاعت الدكتورة سنا أن توثّق مئات الحالات بطريقة مدققة وعلمية. ويقوم العمل على اتّساق وتطابق كبير بين ما يقوله الناجي أنّه خبره في معتقله وبين ما أقوم بتوثيقه: "هذه الأدلة الموثّقة، تعزز قضية ضحايا التعذيب قانونيًا، وتسمح لهم باتخاذ الخطوات للتعرّف على حقوقهم للتحول من مفهوم الضحيّة إلى مفهوم الناجي، ومن ثمّ تقديم شكاوى في بلادهم ولدى المجتمع الدولي، من أجل الحصول على تعويضاتهم. لكنّ للأسف، معظهم يخاف من الإقدام على هذه الخطوة". تفتخر الدكتورة سنا بإنجازٍ حققتهم في حزيران 2018، بدورٍ كبيرٍ لعبته في تمكين 18 عراقيًا من الحصول على تعويضات لهم من الحكومة الدنماركية. وهذه التعويضات التي استندت على الأدلة الموثقة، "حصل عليها هؤلاء العراقيون بعد أن قررت المحكمة العليا في شرق الدنمارك، إدانة وزارة دفاع في الدنمارك بتهمة التواطؤ في تعذيب عراقيين أثناء الغزو الأميركي للعراق في العام 2004، وقضت بحكمها أن تعوّض لـ 18 عراقيًا من أصل 23، معنويًا وماديًا، بعد حصول المدعّين على اعتراف بالجريمة المرتكبة بحقهم".

مسؤوليات أخرى
إلى جانب عملها في مركز "ريستارت"، تعمل الدكتورة سنا مشرّعة ومدربة ومنفذة في "بروتوكول اسطنبول"(دليل التقصي والتوثيق الفعالين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة)، وتشغل منصب نائبة رئيس المجلس الدولي لتأهيل ضحايا التعذيب، كما أنّها خبيرة في الصحة العقلية في منظمة Physicians for Human Rights الحقوقية غير الحكومية الأميركية، وعضو مؤسس لـ"رابطة شرق المتوسط للطب النفسي للأطفال والمراهقين والمهن المرتبطة به".

اللافت في جائزة العالمية التي حصدتها الدكتورة سنا حمزة، أنّ الدولة اللبنانية لا علم لها بها، رغم أنّ قنوات التعاون مفتوحة بين مركز "ريستارت" ووزارات الحكومة ومجلس النواب، في قضايا حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، وقد سبق لعناصر من قوى الأمن الداخلي ومخابرات الجيش أن خضعوا لتدريبات مع الدكتورة سنا على ماهية تطبيق "بروتوكول اسطنبول"، وآلية التعاطي مع المعتقلين والتحقيق معهم من دون اللجوء إلى التعذيب والتعنيف.

فقدان الوالدة
ولدتْ الدكتورة سنا حمزة في بيتٍ سياسي يضجّ بالزوار والنشاط العام في طرابلس، وكان والدها النائب محمد حمزة، الذي اشتهر بنضاله وشجاعته وجرأته ودفاعه عن الحقوق المدنية، وانتخب لأول مرّةٍ نائبًا في العام 1953. وحين بلغت الـ 16 عامًا، توفت والدتها. "كان هذا الحادث الأقسى والأصعب في حياتي، لدرجةٍ كنت أريد الموت من بعدها". بعد فترة، تأقلمت مع الفكرة واندمجت بالحركة الكشفيّة، وصارت تؤسس مخيمات في عدد كبير من المناطق، في وقتٍ موازٍ لتخصصها الجامعي في علم النفس والأدب الفرنسي، ثمّ أسست مركزًا للصمّ.

وعن فرحتها بالجائزة تختم الدكتورة سنا قائلةً: "الجائزة كبيرة، لكنّ محبّة الناس بدتْ أكبر منها بكثير، وقد ذُهلت بها وعشت لأول مرّةٍ غبطةً وفرحة لا يمكن وصفها، أعطتني دافعًا للإصرار في المضي على مزيدٍ من الإنجازات في مساعدة ضحايا العنف والتعذيب وتوثيق حالاتهم".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها