الإثنين 2019/03/25

آخر تحديث: 00:08 (بيروت)

عنصرية اللبنانيين تلاحق العاملات الأجنبيات إلى داخل المستشفى

الإثنين 2019/03/25
عنصرية اللبنانيين تلاحق العاملات الأجنبيات إلى داخل المستشفى
تلقى العاملات الأجنبيات في لبنان معاملة غير إنسانية حتى من قبل من يمتهن أعمالاً "إنسانية" (Getty)
increase حجم الخط decrease
منذ قرابة الشهر دخلت إلى إحدى المستشفيات اللبنانية لإجراء عملية جراحية. تقاسمت غرفة مع فتاة سمراء نائمة تبدو عليها آثار كدمات. إلى جانبها جلست آنسة أخرى. تبيّن أنهما عاملتان من الجنسيّة الأثيوبيّة. سبقني ظنّي وأخبر عقلي إنّها قضيّة تعنيف، فللأسف كثرة قضايا تعنيف العاملات الأجنبيات والإساءة إليهن في مجتمعنا هي السبب في ظنّي هذا، الذي لم يكن في مكانه، لأنّ المريضة تعرّضت لحادث سير، ولم يمضِ على وجودها في لبنان أكثر من أسبوع.

الكفيل والممرضة
على مدى ما يقارب الأسبوع تجاورت مع المريضة سارة. أسبوع عرّى لي تجذّر العنصريّة في بعض النفوس اللبنانيّة، حتّى إن كانوا في مهن من المفترض أن ترمز للعطاء والإنسانيّة. أو لنقل على أصحابها أن يلتزموا بالشروط والمعايير الإنسانيّة على الأقلّ في تعاطيهم مع الآخرين.

في العادة أسمع عبارة "ارتاحي" تقال للمريضة، إلّا أنّه في حالة سارة العاملة الأثيوبيّة أكثر عبارة ترددّت على مسامعي من جميع زائريها من اليوم الأول لدخولي المستشفى هي عبارة "قومي يا سارة". كانت محاولات حثيثة من كفيلها وقريب السائق الذي دهسها والممرّضات لجعل سارة تنهض من السرير وتمشي ليطمئن بالهم أنّها قادرة على المشي "لغاية في نفس يعقوب": أي التخلص من همها ومن مسؤولياتهم تجاهها.

الكفيل، حسب ما توّجه بالكلام إلي: "بهمني إذا طلعت من هون تقدر تخدم حالها بالبيت، ما في مين يخدمها". قريب السائق الذي دهس سارة همّه أن تقوم سارة بالسلامة بأسرع وقت ليخرج قريبه من السجن. وبدا متوجسًّا من فكرة الانتحار التي تروّج لها مكاتب استقدام العاملات عنهن، لذا كان مصرًّا دائمًا على إقفال باب الشرفة ليلًا كي لا تقفز منها سارة، العاجزة عن الحركة. وكان يشدّد عليّ برجاء أن "خلّي عيني عليها". والممرّضات اللواتي قد أعيتهنّ خدمة سارة غير القادرة على الذهاب إلى المرحاض بنفسها، فهي في سبات، تستيقظ على إلحاحهم لتعود للنوم من جديد بفعل الأدوية والألم. إلّا أن أقسى "قومي يا سارة" كانت من الممرضة التي نفذ صبرها من تغيير حفاضاتها، فدعت عليها بـ"الله يعمي قلبك" بدلاً من "الله يشفيكِ"، بذريعة أن ظهرها يؤلمها وسارة تتعبها.

رحمة
معاملة الممرضات لسارة تكشف عن عنصريّة المجتمع اللبناني، بدءاً من التذمر المستمر من تغيير حفاضاتها، وصولاً إلى الإهمال الملحوظ في التعامل معها. إذ كانت وجبات الطعام تصلها فتوضع على طاولة بعيدة عنها، ومن دون سؤالها إذا كانت جائعة أم لا. فهي غير قادرة على القيام ولا تجيد تكلّم العربيّة، وتجهل حتّى كيفية طلب جرس المساعدة أو الطوارئ.

هكذا كان حالها حتّى طلبت إحدى الممرضات من عاملة أثيوبية في المستشفى، تعمل في قسم التنظيفات، أن تكون الوسيط المترجم مع سارة، كي تفهمها أنّ عليها ابلاغ الممرضات عندما ترغب في استعمال المرحاض.

رحمة، اسم مستعار للعاملة الأثيوبيّة التي تعمل في المستشفى، عبارة عن أرشيف بشرّي حيّ يوثّق معاناة العاملات الأثيوبيّات في لبنان. رحمة، التي تكرّس أوقات استراحاتها لخدمة بنات بلدها، اللواتي يدخلن المستشفى، تخبرني عنهن قصصًا يدمع لها الضمير. تخبرني بهمس، بعد خروج الكفيل وقريب السائق، كيف أنّ إحدى العاملات أدخلت إلى المستشفى لتلد وكانت بخير، إلّا أنّها تفاجأت بوفاة السيدة الأثيوبيّة في اليوم التالي، وكيف أنّ الطبيب "جنّ بس عرف"، فقد كانت بخير ولا تشكو من أي شيء. وتخبرني عن عاملة أخرى أدخلت إلى المستشفى ولم يزرها أحد ليطمئن عليها، وكيف أن بعض الممرّضات بلا ضمير. تتوقف عن الحديث لتغيّر لسارة حفاضها، وتنظّف جسدها، وتسرّح شعرها وتغيّر لها شراشف السرير. أليست هذه من واجبات الممرّضة؟ الحجّة جاهزة سارة لا تتجاوب معنا.

حوار ضمائر
في اليوم التالي يغضب الكفيل من الممرّضات، ويرفع الصوت لأنّ سارة ما زالت في الفراش ولا أحد منهنّ يساعدها على النهوض إلى المرحاض. تنصاع الممرضة الغاضبة للواقع وتدخلها إلى الحمام لتحميمها، وهي غير قادرة على الوقوف على رجلها المصابة. تتذمّر الممرضة وأسمع دعواتها "الله يعمي قلبك"...تعيدها للسرير، وتغيّر لها ملابسها، وتحاول إكمال واجبها تجاه "سادو" فترش لها العطر ولا تنسى تعطير الجروح التي لا زالت في بدايتها ومكشوفة فتتألم سارة، وتبكي بصمت، وتتأوّه. أنظر إلى وجه الممرّضة فأقع على وجه بلا أي تعابير، بلا أي روح، بلا أي إحساس.

حاولت التواصل مع سارة بلغة الإشارات. صرت أنهض من فراشي لأطعمها فتأكل، في حين أنّ إفادة الممرضات أنها لا تريد الطعام. أحاول تعليمها الضغط على جرس الإنذار لا تفهم، فأخبرها إن أردتِ الدخول إلى المرحاض نادي لي باسمي لأعلم الممرضة. أضع يدي على صدر "سارة" وأعيد يدي إلى صدري "زينب" فتبتسم وأبتسم... حوار ضمائر ربّما!

فيما بعد يكتشف الطبيب المعالج لها أن لا مشكلة في رأس سارة بل في قدمها، على الرغم من كون المريضة تعرّضت لحادث سير "قوّي" على حد تعبير الجميع، إلّا أنّها لم تخضع لمعاينة أخصائي في العظام!

في اليومين الأخيرين تحسّن وضع سارة، إذ جل ما كانت تحتاجه قليلًا من رحمةِ رحمة، وحوار ضمائر. أغادر المستشفى وسارة لا تغادرني، شابّة غريبة جاءت لتأمين لقمة العيش، تعاني الألم والغربة والخوف بصمت. تبكي بصمت، وتبتسم بصمت. وربّما ترّحل غدًا بصمت، أيضًا قبل أن تشفى. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها