الأربعاء 2019/02/20

آخر تحديث: 00:36 (بيروت)

المحاكم الدينية: من ينقذنا من دهاليزها المظلمة؟

الأربعاء 2019/02/20
المحاكم الدينية: من ينقذنا من دهاليزها المظلمة؟
هي قضية مساسٍ مباشر بمصالح المؤسسات والمحاكم الدينية، وليس الدين نفسه (Getty)
increase حجم الخط decrease

قبل ثماني سنوات، دخلتُ لأول مرّة المحكمة الشرعيّة، لإتمام عقد زواج على يد شيخٍ نسيتُ اسمه. كلّ ما أتذكره، أنّه كان طويل القامة، قويّة البنيّة، يرتدي عباءةً رماديّة اللون، ويحمل مسبحة "فاخرة"، ويضع على رأسه طربوشًا أحمر لُفَّ بعمامةٍ بيضاء. وهذا ليس إضافةً تلقائية من ذاكرة المشهد، بقدر ما هو من إشارات القواسم المشتركة بين الشيوخ، شكلاً و"قيافة"، قبل أن نذهب إلى المضمون.

طابور الحماسة والكآبة
أتذكر أنّه كان يضعُ عطرًا مميزًا، لم أنسَ رائحته حتّى اليوم، لا لحساسيتي الشديدة تجاه الروائح وحسب، بل لأنه عطرٌ مقرونٌ بذاكرة المشهد، وواحدٌ من أوجه تناقضاته. مشهدٌ يبدو جميلًا في ظاهره، وقبيحاً، قبيحاً جدًّا في خباياه ومآلاته.

يومها، كنّا نقف في باحة المحكمة الخارجيّة، مع طابور المنتظرين، نساءً ورجالًا. وجوهنا جميعاً جزءٌ من أوجه هذا التناقض. بعضها متفائل ومتحمسٌ وسعيد، وبعضها الآخر (الأغلب) يائسٌ وغاضبٌ وحزين. هناك من جاء ليعقد زواجه، وهناك من جاء ليفسخ هذا العقد بورقة طلاقٍ أو خلع. وهناك أيضًا، من جاء لتسوية أوراق الميراث، أو قضايا النفقة والحضانة، أو لحل نزاع بين آباء وأمهات، ضاقت سبلُ العيش بينهما. وبالطبع، غالبًا ما كانت تخرج الأمهات مكسورات تحبسن دموعهن، أو لا تقوينّ على الانفجار بالبكاء. مشاهد متسارعة ومتلونة ومتناقضة في ساعةٍ من الانتظار فقط. فجأةً، وأنا أقفُ متسمرةً بالتفرّج منشدهة، قبل أن يأتي دورنا. "تطحش" سيدة أربعينيّة بين جموع المنتظرين مثلنا. تُمسك يدي وتزيحني بالقوّة. أستنكر بردّ فعلٍ سريع: "يا عمي روقي شْبِكِ؟". لم تكترث لسؤالي، الذي وجدته ربما ساذجًا وسخيفًا مقارنةً مع مصائبها، فردّت عليّ بسؤالٍ ساخرٍ فيه كثير من اللؤم: "يا طانط أنتِ جاية تتزوجي أو تطلقي؟". أجيبها مصدومةً: "كتب كتاب". فتربت على كتفي قبل أن تمضي قائلةً: "أيه تتهني هاهاهاها". انزعجتُ منها كثيرًا، لكنّني عدت وعذرتها.

السطوة والغش
حين دخلنا لإتمام عقد الزاوج لدى الشيخ (الذي نسيت اسمه)، كان يقف مستعجلاً. نادى لشاهدين لا نعرفهما، بعد أن تعذّر مجيء شاهدين من طرفنا:"يلا يا أخوان عندي شغل كتير". نظرتُ إلى الأعلى نحو وجهه. وفي تلك اللحظة، ولم أكن أتجاوز فيها 18 عامًا، تكثّفت مشاعري إزاء سطوته. أو بالأحرى، ما يطلقون عليه تعبيرًا مُلطفًا: "الهيبة". شعرتُ بعدم التوازن، وأنني أمامه أرضخ لمعادلة "الأقوى والأضعف". وبالطبع، لم أكن أملك جرأة التعبير عن ذلك. بدأ الشيخ يردد العبارات إياها، التي تسبق توقيع عقد الزواج، ونردد معه: "زوجتك نفسي، بمُقدّمٍ قدره كذا ومؤخرٍ قدره كذا..". همس الشيخ لكاتب عقد الزواج بعبارة: "أكتب المقدّم واصل"، وهو كان "غير واصل" أصلًا! ونتيجةً لحماسة إجراءات ما قبل الزفاف، لم أكترث حينها لأمرٍ ظننته تفصيلًا بلا أهمية، وبصرف النظر إن كان نتيجة تواطوء ما مع "الشيخ"، لكنني دفعتُ ثمنه لاحقًا، أثناء إجراءات الانفصال. نعم، لقد غشّني الشيخ وزوّر في عقد زواجي.

النفق المظلم
بعد ثلاثِ سنوات، عدّتُ أدراجي إلى المحكمة الشرعيّة نفسها، ودخلت في نفق دعاوى الانفصال المظلمة، في محكمةٍ لم أرَ فيها سوى الظُلم والظلام. وفي هذه العودة، صرتُ من فئة اليائسين والغاضبين والحزينين. وصرتُ أيضًا، مثل تلك السيدة الأربعينية، بعمر 21 عامًا، من دون أن "أطحش" ومن دون أن أرتب على كتف أحدٍ، ساخرةً من دخلوه إلى هذه المحكمة بهدف إتمام عقد زواج. كنت مثلها، ولكن بصمتْ. أمضيتُ شهورًا طويلة أتردد فيها إلى قوس المحكمة، بعد أول دعوى "تفريق" رفعتها، وقبل أن أصل مرغمةً إلى دعوى "الخلع"، التي تجرّدتُ بها من كامل حقوقي وحتّى أبسطها، مثل حرماني من أغراضي الخاصة، التي بقيت أسيرةً في المنزل الزوجي. وهذا الحرمان، من كلّ تلك الحقوق، التي يُتحفوننا بنظرياتٍ حول الامتيازات التي حصلنا عليها، من خلال عقود الزواج الدينية، كانت حلًا لا بديل منه من أجل "إطلاق سراحي"، على يد قاضٍ شرعي أتذكر اسمه، ولكن، لا يستحق الذكر. وهو حتمًا، لن يتذكر واحدةً من مئات النساء، اللواتي تجردن من حقوقهن على يديه، ويد غيره، بمخارج وفتاوى "شرعيّة" مُبرر لها سلفًا، مقابل إطلاق سراحهن.

في تلك الشهور، التي تحتاج فصولًا لسرد حكاياها، رأيتُ العجائب في قوس المحكمة. فوضى في المعاملات. تسويف ومماطلة في الدعاوى. رجالٌ يهمسون "هيدا القاضي صاحبنا". أمهات يقاومن قرار سلخ أطفالهن من أحضانهن. "بعض" القضاة ينحازون ويرتشون. وسيدةٌ أتذكر صوتها من أربع سنواتٍ تصرخُ بوجه قاضٍ "شرعي": "الله يظلم ولادك متل ما ظلمتني".

من فساد المحاكم إلى الزواج المدني
أستعيد هذه المشاهد من ذاكرتي رغم أفولها، في وقتٍ شهد البلد "حفلة جنون" إثر سجالٍ عقيمٍ ومعقدٍ، أعقب تصريح وزيرة الداخلية ريّا الحسن، عن إمكانية فتح نقاشٍ مع المرجعيات الدينيّة، حول الزواج المدني. بدت الحسن كأنها فتحت نار جهنم على إشكالٍ عنيفٍ وموصولٍ بتهمٍ، كادت تدقّ باب إهراق الدم. وإذا وضعنا نقاش الزواج المدني جانبًا، في بلدٍ مثل لبنان، منفصم على نفسه دستوريًا وتشريعيًا وسياسيًا، نسأل لماذا لا نشهد الحماوة نفسها في فتح ملفات الفساد داخل المحاكم الشرعية، والروحية، التي ندفع فيها ظلمًا أثمانًا باهظة من جيوبنا وحياتنا؟

على أهميته، قد يبدو السؤال ساذجًا في التركيبة اللبنانية، المليئة بالسذاجة والكليشيهات الشعبوية. أمّا المفارقة الأكثر انفصامًا، هو أنّ المحاكم الشرعيّة السنيّة، والتي تشترك معها المحكام الجعفرية الشيعية والمحاكم الدرزيّة والمحاكم الروحية المسيحية، وفقًا للدستور، هي جزءٌ من "النظام القضائي اللبناني". لكنّ الفرق الجوهريّ بين المحاكم الدينيّة مجتمعةً، وبين المحاكم المدنيّة في القضاء اللبناني، هو أنّ الأخيرة، تصدر أحكامها "باسم الشعب اللبناني". أمّا هي، أيّ المحاكم الدينية، فتصدر أحكامها "باسم الله" أو "الطائفة". وعندما تقتضي الحاجة، يتدخل القضاء المدني لمواكبة القضاء الطائفي، تنفيذًا لقرارات المحاكم الدينية!

في البيان الذي صدر ردًّا على طرح الوزيرة الحسن، كان لافتًا ما جاء في مطلعه أنّه ردّ على "المتسائلين" عن موقف مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، ودار الفتوى والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، من موضوع الزواج المدني الذي أعيد طرحه. ومع ما يحمله وصف "المتسائلين" من دلالاتٍ عميقة، بدا كأنه جاء إرضاءً لمن يسألون عن بياناتٍ تُشبع غرائزهم المذهبيّة، وقمعًا أو نبذًا لمن يتساءل أو يطرح فكرة الزواج المدني، خصوصًا أنّ البيان خُتم، بأنّ دار الفتوى الذي يرأسه دريان، وهو أيضًا كان رئيسًا مديرًا عامًا للمحاكم الشرعيّة منذ العام 2005 (!) "مؤتمن على دين الإسلام ومصلحة المسلمين"، أيّ أنّه أدرى بمصلحتهم. وإذا ما جرّب "الملوّعون" من المحاكم رفع الصوت، إمّا يُرد عليهم بغمغة إنشائية عن ضرورة الإصلاح، أو يتم وضعهم في خانة "المتحاملين" مجانًا. وكلّ ذلك بذريعة أنّهم الأدرى في مصلحتهم وتدبير شؤونهم.

عود إلى صفر
المسألة الأخطر، هو في مضمون الخطاب ونوعيّته، الذي يزداد حزمًا وعنفًا، في كلّ مرّة يُعاد فيها طرح "الزواج المدني"، ويقطع الطريق فورًا على النقاش حول الفساد المستشري في المحاكم الدينية، إلى أن نعود للمعادلة نفسها: المواطن اللبناني، من منظور طائفي، هو ناقص الأهليّة، وغير قادرٍ على اتخاذ قرارات في شأن مصيره. وهو بالتالي، مجبرٌ على القبول، أو مضطر للخضوع إلى الترهيب، ما دام كلّ طرف يستخدم نصوصه الدينيّة المقدّسة، بغية إكساب سلطته مشروعيّة إلهية. أمّا الواقع، فأنّ الخروج على هذه السلطة، يهدد امتيازات المؤسسات الدينية، ماديًا ومعنويًا وسياسيًا، إذا أفلتت سيطرتها على الأفراد والجماعات والمنظومة الأسريّة.

إذن، هي قضية مساسٍ مباشر بمصالح المؤسسات والمحاكم الدينية، وليس الدين نفسه، في ظلّ رفض مجرد النقاش بفكرة الزواج المدني، المشرّع في معظم بلدان العالم، والذي يجريه مسلمون ومسيحيون. رفض من دون محاولة فهمه وشرحه. وإن كان النقاش فيه مع الجهات الدينية هو عودة إلى الصفر، لأنّ المشكلة فعليًا، في النظام اللبناني نفسه.

واقع الحال، هو أنّ اللبنانيين مربوطون بحبل غليظ، تشدّه على أعناقهم مؤسسات طوائفهم، في ظلّ توافقها (العجيب) بما يحفظ استئثارها بقوانين الأحوال الشخصية، خلافًا لبقية الأمور، حتّى تحكم السيطرة عليهم، منذ ولادتهم إلى ما بعد موتهم.

لذا، لا عجب أن يستعيدوا لنا "قولًا مأثورًا" لأحد المفتين، يصدر فيه حكمًا أنّ من يتزوج مدنيًا "لا يُغسّل ولا يدفن في مقابر المسلمين". وإن غضينا النظر عن فسادهم وفساد مؤسسات ومحاكمهم، وعن بشاعة وفظاظة هذا "القول المأثور"، لا بدّ من السؤال: عفوًا؟ ماذا ستفعلون بكلّ هذه الجثث؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها