الإثنين 2019/12/09

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

حسين الذي أخرجته "الثورة" من الضاحية إلى وسط بيروت

الإثنين 2019/12/09
حسين الذي أخرجته "الثورة" من الضاحية إلى وسط بيروت
أمضى حسين السنوات الثلاث الأخيرة من حياته بلا عمل ولا مصروف (المدن)
increase حجم الخط decrease
ولد حسين سنة 1999 في الرمل العالي. أبوه ولد سنة 1961 في شمسطار، وغادرها سنة 1977 إلى بيروت، رغماً عن إرادة والده الذي كان يعمل في تجارة الماشية والأراضي. في الرمل العالي حلَّ والد حسين ضيفاً مقيماً في بيوت أعمامه وأخواله، واقتنى شاحنة صغيرة (بيك آب) لنقل المازوت وتوزيعه والاتجار به. وسرعان ما امتلك تراخيص (نمر) ثلاثة فانات للنقل العمومي، فأجّرها لقاء بدل مالي شهري ثابت، واستأجر بيتاً مستقلاً وأقام فيه، ثم تزوج نساءً ثلاث على التوالي، اثنتين منهن تجمعه بهما صلة قربى، واستأجر لكلٍ منهن بيتاً لإقامتها، فضاعفت زواجاته غضب والده منه.

من زوجتيه الأوليين أنجب صبيين وابنتين، ثم طلّقهما، واستقرت حياته الزوجية مع الثالثة، والدة حسين التي أنجب منها صبيان ستة وبنات ثلاث، وتوفي بذبحة قلبية سنة 2014، وكانت أحواله المادية قد ساءت إلى درجة عجز أسرته عن تأمين كلفة مراسم عزائه، لولا نجدة ابنه البكر الذي قدِم إلى بيروت من مهجره في السعودية، حيث يعمل ويقيم منذ ما بعد حرب تموز 2006، واستقدم إليها شقيقه الأصغر منه بسنتين، فيما كان شقيقٌ ثالث لحسين قد هاجر إلى كندا. أما أخواه الآخران، الأكبر والأصغر منه، فمكثا في الرمل العالي: أحدهما يعمل سائق فان عمومي، والثاني امتهن في محل قريبه حرفة جمع أبواب ونوافذ الألمينيوم وتركيبها في البيوت، قبل فتحه محلاً مستقلاً للحرفة نفسها في الرمل العالي. وصبيتان من شقيقات حسين الثلاث، تزوجتا، والثالثة الصغرى لا تزال مقيمة مع حسين وأخيه وأمه في بيت الأسرة المستأجر.

الضاحية والطريق الجديدة
إخوته جميعاً تعلموا حتى المرحلة المتوسطة في الرمل العالي، ثم عملوا في مهن وحرف متنوعة، قبل هجرة اثنين إلى السعودية وثالث إلى كندا. أما حسين فتعلم سنوات ثلاث من المرحلة الابتدائية في مدارس بئر حسن الرسمية، لأن والده أراد إبعاده من بيئة الرمل العالي التي كان يدرك أن التعليم سيّء في مدارسها. واستكمالاً لإبعاده تعلم حسين سنوات عشر في مدرسة "الأرغواي" المهنية القريبة من مستشفى المقاصد في طرف محلة الطريق الجديدة. وهو مدرك أنه نشأ وعاش طفولته وفتوته وحيداً في بيئة مختلفة تماماً عن بيئته في الرمل العالي، إبان حقبة الاحتقان والنفور الطائفيين بين السنّة والشيعة، منذ اغتيال رفيق الحريري وحرب تموز 2006، وحتى اليوم.

لكنه يقرّ أنه طوال تلك الحقبة كان يعيش في بيئته المدرسية بالطريق الجديدة أكثر من عيشه بين أهله في الرمل العالي، التي كان يغادرها صباحاً، وأحياناً سيراً على قدميه، إلى مدرسته، ليعود منها في الثانية بعد الظهر إلى بيت أهله، فيتغدى وينام حتى الخامسة مساء، ثم ينكب على واجباته المدرسية في السهرة، فينام بعدها ويذهب صباحاً إلى المدرسة.

على الرغم من دخوله إلى مدرسته وصفّه شاهراً قلادة سيف الإمام علي (ذو الفقار) في أيام عاشوراء، لم يتعرض للنبذ من زملائه التلامذة السنّة، لأنه لم ينجرف إلى صولات النعرات والعداوات والصدامات الطائفية في الشارع وجولاتها آنذاك. وعندما كان التلامذة السنّة يتحدثون بالسوء عن الشيعة، كان يقول لهم: لست مسؤولاً عما يفعلونه، ولا تحاسبوني على ما لم أقترفه وارتكبه. لكنه في المقابل كان يشعر في دخيلته أنه مذنب ذنباً ورثه، ولا صلة له به، وأن الشيعة والسنّة يتبادل كل منهما عن الآخر صوراً سيئة مغلوطة.

الكوميديا والألمينيوم
لكن حسين قد لا يدرك أن حاله هذه، كانت وليدة تعلقه المراهق بفتاة من الطريق الجديدة، وزميلة صفه المدرسي، وتتعلم مهنة التصوير والإخراج، ورغب أن يجاريها ويتعلم التمثيل الكوميدي أو التصوير، بدل مهنة الميكانيك، فحالت دون رغبته تلك إرادة والده الذي أراده أن يكون رجلاً ناضجاً ويتحمل مسؤولية نفسه، وهو لا يزال صبياً صغيراً. وحين حاول والده نقله من مدرسة الطريق الجديدة إبان تفاقم الاحتقان الطائفي، رفض الانتقال، وتابع دراسته حتى نال البكالوريا المهنية.

كان والده ينفر من الحزبية والتحزّب، وإخوته الكبار كانوا مناصرين لحزب الله من دون انخراطهم التنظيمي في صفوفه، على خلاف أبناء عمه وخاله المقاتلين المتفرغين في حزب "المقاومة". وحسين نفسه يناصر حزبها في دفاعه عن لبنان، وفكّر مرة مجاراة أقاربه، لكنه عزف عن الفكرة ولم يفعل، مستجيباً قول والده إن من يلتحق بالأحزاب يفشل في حياته.

بعد تخرجه من المدرسة المهنية عمل سنوات أربع متدرباً لا يتقاضى أجراً في محل ابن خاله لجمع أبواب ونوافذ الألمينيوم وتركيبها في البيوت، فصار معلماً محترفاً في المهنة. وفي العام 2013 افتتح مع أخيه الأكبر منه محلاً للمهنة نفسها، وعملا فيه سنوات ثلاث، ليقفلاه سنة 2016، بسبب كساد أصاب المهنة إلى حد عدم قدرتهما عن تسديد بدل إيجار المحل.

فتيان البطالة و"أمل"
وحال حسين وأخيه هذه تنسحب على عدد كبير من أمثالهما الفتيان الشبان في أحياء الضاحية الجنوبية، كالرمل العالي وحي السلم: بطالة وانسداد أفق العمل والتحصيل، عوز وملل واختناق في بيئة مغلقة، وتفلت في الشوارع والأحياء، وشقاء وتفكك وتذرر أسريان وعائليان. وهذا ما يستغله الثنائي الحزبي الشيعي، وخصوصاً حركة "أمل"، التي يعمل مسؤولوها النافذون في الأحياء على استمالة الفتيان والشبان العاطلين وتنظيمهم في مجموعات، ويعدونهم بايجاد فرصة عمل ما لهم. غالباً ما يملك هؤلاء الشبان والفتيان دراجة نارية وهاتفاً خليوياً، هما سبيلهم الوحيد إلى التنقل والتواصل وتسجية الوقت. يحملهم مسؤولو "أمل" في أحيائهم على ملء قسائم بأسمائهم وأرقام هواتفهم، في انتظار أن يتصل بهم لتشغيلهم في شركة ما، مثل متاجر ABC، أو في خدمات المطار المتواضعة، حمالين أو عمال تنظيفات، أو في إقفال الطرق في أيام عاشوراء ومجالسها الحسينية في الأحياء. وعلى هذا النحو تتشكل شلل فتيان وشبان الدراجات النارية التي تستخدمهم حركة "أمل" في الاستنفار والتحشيد عندما تحتاج إلى ذلك. وهكذا تصير كل من هذه الشلل عصبةً متآزرة، إذا افتعل شاب منها عراكاً سرعان ما ينجده الآخرون.

وبما أن حركة "أمل" لم يعد يسعها تأمين أعمال لشبان هذه الشلل وفتيانها في السنوات الثلاث الأخيرة، بسبب الأوضاع الاقتصادية المأزومة وندرة فرص العمل، راحت تتزايد حالات افتعال هذه الشلل مشاكل في الشوارع والأحياء.

عزلة البيت الكئيبة
أمضى حسين السنوات الثلاث الأخيرة من حياته بلا عمل ولا مصروف، وأحيانا لا يتوافر لديه ما يكفي لتشريج هاتفه الخليوي. لم ينضوِ في شلّة من تلك الشلل، بل انكفأ على نفسه في عزلة بيتيّة كئيبة. ينام طوال النهارات، ويستيقظ في الثامنة مساء، فيتسلى حتى العاشرة ليلاً مع أخته واخيه اللذين ينامان، ليأنس بوحشة الهدوء الليلي في البيت، منصرفاً إلى مشاهدة مسلسلات على جهاز اللابتوب، وينام في الثامنة صباحاً.

استمر على هذه الحال سنتين، ونادراً ما خرج ليبصر نور الشمس في النهار، حتى "نشف الدم في جسمي - قال - وإذا طرق عليَّ صديق باب البيت لا أجد ما يدفعني إلى فتحه. وإذا اتصل بي أحدهم هاتفياً لا أجد سبباً لأردَّ عليه، ما دمت لا أملك ثمن فنجان قهوة أو شاي في مقهى، إذا دعاني أحد للخروج. وأخيرا فكرتُ أن اعتزل الحياة في بلدتي شمسطار. وهذه كانت أيضاً حال أخي الذي يكبرني بسنتين، وأقفلنا معاً محل تجميع أبواب ونوافذ الألمينيوم وتركيبها، فيما استمر أخي الأكبر يعمل على الفان، وبالكاد يحصل مصروفه".

خيبة وقفزة في الهواء
لخوفها عليه في عزلته الكئيبة، ولإخراجه منها، شجعت والدة حسين ابنها على الخروج من البيت والبحث عن عمل. أمضى نحو شهر يخرج من البيت في النهار، ويجول على مطاعم ومتاجر ومعامل وشركات طالباً تشغيله في أي عمل. وفي أسبوع واحد صرف 40 ألف ليرة أجرة تنقله في بيروت، ووصولاً إلى جونيه وضبيه بحثاً عن عمل. يقولون له إملأ طلباً ونحن نتصل بك. كان يعلم أنهم لن يتصلوا به، ما دام اسمه يدل على أنه شيعي. "فأي سائق سيارة أجرة بيروتي تقول له إنك ذاهب إلى الضاحية، يمتنع عن توصيلك إليها"، قال حسين معتبرا أن الناس لديهم صورة سيئة عن الضاحية، وينفرون منها.

ربما يعذبه انقسامه بين بيئتين، وقد يمنحه شعوراً بتميزه. فهو يرى أنه ابتعد من بيئة الرمل العالي واستقل عنها، بعدما أمضى سنوات عشر يتعلم في بيئة الطريق الجديدة، وعاشر كثرة زملاء مدرسته المهنية، ودخل إلى بيوتهم، وأحياناً نام فيها، وأخذه هوىً مراهق بتلميذة في تلك المدرسة.

في وصفه الفرق بين البيئتين يرى أن كل شيء فيهما مختلف: الإسفلت في الطريق الجديدة مختلف عنه في الرمل العالي، حيث الفوضى وكثافة البشر وتبطّل الشبان الذين يختلف نمط حياتهم وأكلهم وكلامهم وملبسهم عنه في الطريق الجديدة. في الضاحية الجنوبية قبضة حركة "أمل" و"حزب الله" شديدة الوطأة على الناس. والحزبان الشيعيان يصران بقوة متشددة على السيطرة على شعبهما، وربط أوضاعه وأعماله وحياته بسيطرتهما. وهما يعلمان أن من يعمل ويعيش مستقلاً عنهما، يتحرر منهما. لذا يريدان أن يظل الناس مرتبطين بهما ارتباطاً وثيقاً في أعمالهم ومصالحهم، فلا تتغير أحوالهم المادية والمعنوية في منأى عن ذلك الارتباط الوثيق. أما في الطريق الجديدة فلا شيء من هذا: ليس من حزب يحكم أهلها ويربط مصيرهم بمصيره. والعاطلون عن العمل لا يتكدسون في الشوارع ويفتعلون المشاكل، والحياة اليومية أهدأ ولا يشوبها ذينك العنف والفوضى.

وبعد شهر من جولاته باحثاً عبثاً عن عمل، عاد حسين إلى عزلته وكآبته وانقطاعه في البيت، ونسي تماماً أنه تعلم في مدرسة مهنية وعمل سنوات كثيرة في مهنة، وكان لديه محلاً لحرفة تجميع أبواب ونوافذ الالمينيوم وتركيبها. وهو كان على هذه الحال عندما سمع بفرض الضريبة على خدمة الواتس آب، واتصل به مساء 17 تشرين الأول الماضي، شقيقه الذي يعمل سائق فان، وقال له: ولعانة على طريق المطار، حيث الشباب يشعلون حرائق. ارتدى ثيابه وركب دراجته النارية متوجهاً إلى طريق المطار. ومنذ تلك الليلة خرج من عزلته وكآبته، وقفز قفزة واسعة في هواء "الثورة": اشترى خيمة لا يزال مقيماً فيها في ساحة الشهداء بوسط بيروت، وصار من شبان ثورة 17 تشرين الأول.

(يتبع)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها