السبت 2019/12/28

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

توزيع "إعاشات" الذل في طرابلس كسراً لكبرياء الثورة

السبت 2019/12/28
توزيع "إعاشات" الذل في طرابلس كسراً لكبرياء الثورة
الحصة الغذائية لن تغيّر من الواقع شيئاً (مديرية التوجيه)
increase حجم الخط decrease

أوصلت وقاحة السلطة وفسادها لبنانَ إلى أسوأ أحواله، في وقتٍ يغرق فيه اللبنانيون بمصائب اقتصادية ومالية لم يشهدوا لها مثيلًا في تاريخهم الحديث. هكذا ببساطة، خرجنا جميعًا من دائرة الأمن الاجتماعي، لأننا ضحايا بلدٍ تحكمه المصارف وأربابها الجشعين، شركاء السلطة في الفساد والوقاحة. يومًا بعد آخر، تتمادى المصارف في عملية سطوها الممنهج على أموالنا. الليرة تنهار وتفقد قميتها الشرائية، أسعار السلع الأساسية ترتفع بنسبة تفوق 50 في المائة في ظلّ انفلات التجار من دون حسيب ولا رقيب. مئات المؤسسات تقفل أبوابها وآلاف اللبنانيين يُصرفون من أعمالهم، أو في أحسن الأحوال يتقاضون نصف راتب!

تعب اللبنانيين
هذا الواقع الذي هو نتاج طبيعي لمسار السلطة وفسادها، جعلتْ منه أداة طيّعة لصالحها، فأعلنت حربًا اقتصادية على اللبنانيين تقودها المصارف وأذيالها، من أجل كبح الانتفاضة الشعبية التي انطلقت شرارتها في 17 تشرين الأول. والسلطة التي لم تستوعب بعد أنّ ما قبل هذا التاريخ ليس كما بعده، وأنّ حربها البشعة تُشعل نار الثورة من جديد، تستشري بوقاحتها، حتّى توهم اللبنانيين أنّها الداء والدواء.

في الأسابيع الأخيرة، بدأت أحزاب السلطة وتياراتها ببذل جهودها في مساعيها للاستفادة من فترة ما قبل الأعياد، ولاستغلال تعب اللبنانيين واستنزافهم وهم يقفون على أبواب المصارف كمن "يشحد" أمواله وراتبه. وهذه الأحزاب والتيارات السياسية التي تهدف من نهجها الاستغلالي إلى تكريس نفسها بالمرتبة الأقوى في ميزان السلطة والشارع، لجأت سريعًا إلى استنهاض نفسها بنظام الحصص الغذائية، كوسيلةٍ لا مفرّ منها لاستعطاف القواعد الشعبية وكسب تأييدها. ففي معظم المناطق اللبنانية، من الشمال حتّى الجنوب، تحاضر رموز السلطة نوابًا ووزراء وحزبيين بـ "التكافل الاجتماعي" وضرورة تعزيزه. فانطلق معظمهم إلى البدء بتوزيع الحصص الغذائية، أيّ "كراتين" الإعاشات.

وكما حال جميع الأعياد والمناسبات المرافقة لظروف اقتصادية قاهرة، لا ترى أحزاب السلطة وسيلة لـ "الطبطبة" على أوجاع اللبنانيين ومعاناتهم، سوى بتوزيع الحصص الغذائية في مناطق نفوذها، تحتوي على بضع كيلوغرامات من السكر والأرز والطحين والزيوت والمعلبات والمعكرونة. وبدل إظهار قليلًا من الخجل، ولو إدعاءً، تجاه كلّ سوء تقترفه بحقّ اللبنانيين، تتفاخر بالإعاشات وتوقعها بأسمائها.

حبة مورفين
يوم الجمعة، وفي مشهدٍ بدا غريبًا وغير مألوف لجهة اقحام الجيش في مثل هذا المهمات، انتشرت صور وحدات من اللواء الثاني عشر في  الجيش اللبناني، بمؤازرة فرع مخابرات الشمال في الجيش، قاموا بتوزيع نحو 1000 حصة غذائية لمصلحة عدد من العائلات في مناطق طرابلس: باب الرمل والقبة وباب التبانة وجبل محسن والزاهرية والغرباء والحارة البرانية والميناء، وذلك في إطار برنامج التعاون العسكري – المدني (CIMIC)، وبتمويل من منظمة "Spirit of America" وبعض الجهات المانحة اللبنانية وبحضور ضباط من الجيش.

هذا المشهد، مرّ عاديًا وبديهيًا لدى نسبة كبيرة من أهالي المدينة واللبنانيين، ربما لأنّ ثقافة "الإعاشة" ليست غريبة، لا بل قد تكون مستحسنة ومُطالب بها، وتحديدًا لدى شريحة من الفئات التي تعيش في أوضاعٍ اقتصادية صعبة، أو ترزح تحت خطّ الفقر وتعجز عن تأمين لقمة عيشها، ولا يربطها بأحزاب السلطة سوى السعي للحصول على خدمة أو مساعدة. لكن هذا المشهد، طرح علامات استفهام لدى كثيرين، عن سبب "المبادرة" وتوقيتها ودوافعها، وإن كانت حبّة "مورفين" إضافية لامتصاص غضب الناس والسيطرة على دوافعهم بالنزول مجددًا إلى الشارع، ليصرخوا صوتًا واحدًا: "يسقط حكم المصرف، يسقط حكم الفاسد".

أسلوب مرفوض
يذكر الناشط الاجتماعي نزيه فينو في حديث لـ"المدن"، وهو واحد من المشاركين الفاعلين في انتفاضة طرابلس، أنّ معظم الأحزاب لجأت مؤخرًا إلى توزيع الحصص الغذائية باسمها مباشرةً، أو من قبل جمعيات تابعة لهم. يقول: "رأينا شخصيات في طرابلس تعمل لدى بعض التيارات تقوم بتوزيع الطعام، وقد درجت هذه الممارسات وبدأت تتفاعل على نطاقٍ أوسع بعد تكليف حسان دياب لرئاسة الحكومة، من أجل إعادة الإمساك بالشارع وإثبات وجودهم وربط الناس بهم من جديد. والاستعانة بالجيش هذه المرة، ربما لأنه يملك الامكانات اللوجستية، أو على الأرجح بهدف تحسين علاقة الناس به، وبكل الأحوال هذا الأسلوب مرفوض، لأنها ليست من مهام الجيش في الأصل".

من جهته، يرى الباحث والناشط الاجتماعي في ثورة طرابلس قاسم الصديق، أنّ استعانة المنظمة الأميركية بالجيش لتقديم الإعاشات يضعنا أمام نموذج الدعم الأميركي للبنان في ظلّ أزمته. يقول لـ"المدن": "من خلال هذه الإعاشات، يصبح من الواضح أمامنا نموذج الدعم أو المساعدة المتوقعة من أميركا، والتي لخصها وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل حين قال إن المساعدات ستكون عينية وليس مالية". والمفارقة الأهم، وفق الصديق، تكمن في تسريع نوعية هذه المساعدات. فـ"هي أتت باكرًا، ما يدفعنا للسؤال إن كانت للتأكيد على أن الأزمة بدأت وهذه طريقة المساعدة المتاحة". يشدد الصديق على ضرورة رصد هذه المساعدات على اختلاف الجهات الداعمة لها، من باب الأزمة التي دخل فيها لبنان بعد 17 تشرين الأول، "لأنّ أيّ منظمة دولية عندما تنطلق ببرنامج دعم معين، تكون قد حضرت له على الأقل قبل شهر، وهذه الاجراءات تأخذ وقتًا، ليبقى السؤال الجوهري: لماذا عن طريق الجيش وليس عن طريق الانجي أوز الممولة أميركيًا؟".

العودة إلى الحظيرة
من جهته، يؤمن فينو أنّ اللجوء إلى الحصص الغذائية لن يسعف السلطة في نسف الثورة، لأن رقعتها تتسع مع تمدد الأزمة الاقتصادية واشتداد وطأتها. فـ"هذا النوع من المساعدات، تسعى من خلاله السلطة إلى تأمين حاجات الناس البسيطة وتلبيتها من دون عمل ولفترة وجيزة جدًا، وتلجأ إليه أحزاب السلطة لتعزيز شعبيتها، بينما أحد أهداف الثورة هو انتفاضة اللبنانيين على هذا الأسلوب، لأنّ الحصة الغذائية لن تغيّر من واقعهم شيئًا، ولن تكون طريقًا لتخطي الأزمة".

إذن، وبينما تحاول رموز السلطة تعويم نفسها في الشارع، عبر إعادة السيطرة على الناس وإرجاعهم إلى ما يشبه "الحظيرة" الفاسدة، يبقى التحدي الأكبر في آليات التصدّي لكلّ هذه المحاولات، والإصرار أنّ الخيار البديل عن الشارع لن يكون إلاّ بنسف هذه السلطة ومحاسبتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها