الأحد 2019/12/01

آخر تحديث: 00:23 (بيروت)

"ملحمة" مسيرة السلام النسائية بين جسر الرينغ والخندق الغميق

الأحد 2019/12/01
increase حجم الخط decrease

بعد نحو نصف ساعة من الانتظار والهتاف على مدخل "الخندق الغميق"، كنَّ قد بدأن يقتنعن بأن عليهن المغادرة، والعودة إلى حيث تجمعن وانطلقن في مسيرتهن من على "جسر الرينغ". فمسؤولي "حركة أمل" في الخندق الغميق الذين استقبلوهن على مدخل الحي "الشيعي"، لم  يشاؤوا السماح لمسيرتهن أن تدخل إلى الحي. تذرعوا بأن رسالتهن السلميّة التي تحمل الورود والوئام والمحبة والرغبة في "الوحدة الوطنية"، قد وصلت، ولا لزوم لأن تجوب مسيرتهن في الشوارع الداخلية من الحي. وذلك "حفاظاً على سلامتهن".

وجوه مكفهرة
نصف ساعة مضت على وقوفهن وهتافهن، واستغرقتها مفاوضات ورجاءات، لم تُقنع رجال الحركة المكفهري الوجوه، بثيابهم الداكنة، مثل السلسلة البشرية من شبان الخندق الغميق الذين اصطفوا في عرض الشارع على مدخل الحي، للحؤول دون دخولهن، وخلفهم عشرات من دراجاتهم النارية، إياها التي استعملها أولئك الشبان والفتيان وأمثالهم من أقرانهم، في الهجمات الليلية، قبل أيام، على المعتصمين فوق الجسر إياه (الرينغ)، وعلى مخيم الاعتصام في ساحة الشهداء، وصولاً إلى حي الصيفي الباذخ وشارع "مونو" للسهر الليلي، واعتدائهم على بعض سكانهما، وتحطيمهم عدداً من السيارات المركونة على جنبات الشوارع.

كنّ قد تجمعن مئات من النسوة والأمهات والصبايا على الجسر في الثالثة من بعد ظهر يوم السبت 30 تشرين الثاني، متداعيات لمسيرة تتوجه إلى الخندق الغميق، معقل "حركة أمل" الشيعية، وخزان شبانها وفتيانها "التاريخي"، أولئك الذين تعودوا، بل امتهنوا، أقله منذ العام 2015، بل قبله بسنوات عشر، الهجوم العنيف على المتظاهرين والمتظاهرات في ساحة رياض الصلح خصوصاً، وفي مناسبات كثيرة.

شبان "أمل" بين المسيرة ومدخل "الخندق الغميق (مصطفى جمال الدين)


نساء المسيرة الملونة
هدف المسيرة النسائية الملونة (أكثر من 90 في المئة من المشاركين فيها نساء، وجاوز عددهن الخمسمئة)، هو ردم هوة العداوة والعنف اللذين فجّرهما شبان الخندق الغميق ضد متظاهري ومتظاهرات الجسر في تلك الليلة، قبل أيام. وردمهم تلك الهوة يطاول أيضاً الخروج من خنادق الحرب الأهلية القديمة (1975-1990)، ومن الخنادق التي تلتها ما بين العام 2005 والعام 2009، مروراً بغزوة 7 أيار 2008 التي قامت بها ميليشيات "الممانعة" لبيروت، وتركت جرحاً عميقاً بين تلك الميلشيات وأهل المدينة.

"واحد واحد واحد، الشعب اللبناني واحد"، راحت تهتف نساء مسيرة المحبة ونبذ العنف في مسافة الثلاثمئة متر تقريباً، بين جسر الرينغ ومدخل الخندق الغميق. استعرن هذا الهتاف الذي اشتهرت به ثورة الشعب السوري على الطغمة الأمنية الدموية الأسدية في سوريا. وحملن وروداً بيضاء رفعنها عالياً، ومنشدات النشيد الوطني اللبناني، وهتافات أخرى ضد الحرب والعنف.

نصف ساعة انقضت على وصول المسيرة النسوية الملونة إلى مدخل الخندق الغميق، من دون أن يُسمح لها متابعة طريقها إلى داخل الحي. وهي مسيرة ملونة، وقد تكون "نخبوية" و "باذخة" في المعايير الاجتماعية اللبنانية. فمعظم المشاركات فيها من الطبقة المتوسطة اللبنانية، المتحررة والمتعلمة تعليماً عالياً، والمداومات على الحضور في ساحات الاعتصام والتظاهر في بيروت، وربما في سواها من المدن والمناطق، منذ بدايات انتفاضة 17 تشرين الاول المنصرم. وكثيرات منهن من نساء وفتيات الحركة النسوية البارزة بقوة في الانتفاضة اللبنانية المستمرة. ومعظمهن شاركن قبل يومين أو ثلاثة في المسيرة المماثلة التي كانت غايتها ردم الهوة بين عين الرمانة (المسيحية) وشارع أسعد الأسعد (الشيعي) في ضاحية بيروت الجنوبية، بعد ليلة من ذلك العنف والصخب الذي فجره شبان وفتيان "حركة أمل" المتنقلين على دراجاتهم النارية.

لقاء على مدخل الخندق
في بداية نصف الساعة تلك، لدى وصول نساء مسيرة المحبة والوئام ومحو آثار الحرب والعنف، كان جمع من نسوة الخندق الغميق في ثيابهن التقليدية غير الملونة وحجاباتهن، تتقدمهن امرأة في شادورها الأسود، قد وقفن على مدخل الحي لاستقبالهن، بوصفهن "عينة" تمثل نساء الحي الشيعي، فدار عناق وقُبلٌ بين الطرفين، تخلله تبادل الورود والكلام عن أننا "كلنا أهل وأحباب، وأبناء بلد واحد". لكن سلسلة الشبان والفتيان التي وقفت حائلاً دون تقدم مسيرة النساء الملونات السافرات، كانت تقول إن حدود "المحبة والوئام ومحو آثار الحرب والعنف" تقف هنا على مدخل الحي. وفي الأثناء ظهر شخص يبدو أنه مسؤول "مدني" في "حركة أمل"، وقيل إن اسمه حسين قبلان، وأخذ يحدّث نساء المسيرة بكلام خطابي، شارحاً أهمية مبادرتهن ورسالتهن، ومبطّناً كلامه بضرورة عدم الدخول إلى الحي، لأسباب تتعلق بسلامتهن. وفي الأثناء كان مسؤولو "أمل" الأمنيون يحادثون ضابط قوى الأمن الداخلي الذي رافق المسيرة منذ انطلاقها من على جسر الرينغ. وحصل أن شاباً من السلسلة البشرية شتم مصوراً بكلام بذيء شديد العنف، كاد يُتْبِعُه بلكم الشاب المصور، لأنه كان يصور شبان السلسلة البشرية.

أخيراً تدخل قسّ أو راهب مسيحي كان بين نساء المسيرة، وأخذ يفاوض أحد مسؤولي "حركة أمل" الذي حار ماذا يفعل، وأخذ يجري اتصالات هاتفية، ثم قال للقس أن يمهله دقائق خمس ليعلم ماذا يمكن أن يفعل.

فرحة النساء لحظة دخولهن إلى الحيّ (مصطفى جمال الدين)


مللٌ بعد عناق
لكن كثرة من نسوة المسيرة كنّ في الأثناء قد بدأن يتفرقن، مترددات حائرات، ويرضين أنفسهن، وتتبادلن عبارات الرضى، قائلات إنهن أنجزن شيئاً لا يستهان به بوصولهن من جسر الرينغ إلى مدخل الخندق الغميق، وعناقهن "عينة" من نسائه الأمهات.

لم ترتسم ابتسامة واحدة على وجوه مسؤولي "حركة أمل"، ولا على وجوه شبان السلسلة البشرية. كانت وجوهُهم كلها مقطِّبةً عابسة، فيما نساء المسيرة وصباياها فرحات مسرورات بحيويتهن الفائضة اللاهية، ومحاولاتهن التقرب من الشبان ومحادثتهن، ثم الهتاف عالياً لوحدة الشعب اللبناني وخروجه من خنادق الحرب والعنف.

وفي آخر نصف الساعة تلك بدأت مجموعات من نساء المسيرة بالمغادرة، مكتفيات بانجازهن. وبعد ابتعادهن حوالى عشرين متراً، عائدات في اتجاه جسر الرينغ، تصاعدت من مقدم المسيرة خلف السلسلة البشرية صرخات الفرح والابتهاج. لقد سُمِح للمسيرة بالدخول إلى شوارع حصن الخندق الغميق. وهكذا اندفعت المسيرة في شارع يمتد عامودياً من الشارع الأساسي في الخندق. البنايات المصطفة على الشارع الذي انطلقت فيه المسيرة، قديمة وتراثية كلها، لكنها لا تزال خالية مهجورة منذ أيام الحرب، وتكسوها آثار من ثقوبها وحرائقها. بنايات تذكّر بجمالها المعماري القديم، وراحت أصداء الهتافات تتردد في الشارع الضيق المهجور.

نساء الشرفات السجينات
وحول المسيرة، على جنباتها، مشى شبان "حركة أمل" في عبوسهم القاتم. وهي انعطفت في شارع داخلي كثيف السكان في الحي. هنا، في هذا الشارع، تتكاثر النسوة على الشرفات. نسوة كاللواتي استقبلن المسيرة على مدخل الحي، رحن يقذفن النساء الملونات في الشارع بالأرزّ وأوراق الورود، فتعالت هتافات نساء المسيرة قوية فرحة. ثم انعطفت مسيرتهن نحو الشارع الرئيسي من الخندق الغميق. هنا تكاثرت النسوة على شرفات بنايات الحي، وانهمر الأرز كثيفاً على النساء في الشارع، يحيطهن شبان الخندق وفتيانه.

بدت نسوة البنايات والشرفات، وكأنهن سجينات في بيوتهن، وممتلئات فرحاً ورغبة في الخروج من سجنهن المنزلي إلى المسيرة. أمهات وأخوات وزوجات في البيوت العتيقة الكامدة، وفي حراسة أبنائهن وإخوتهن وأزواجهن الذين يحيطون بالمسيرة الملونة الحرة الفرحة التي حركت مشاعر نسوة الشرفات ورغباتهن السجينة في البيوت.

استمرت المسيرة في شوارع الخندق الغميق نحو نصف الساعة، وقد تكون دهراً في حساب مسؤولي "حركة أمل" في الحي، أولئك الذين استمرت وجوههم مقطبة وعابسة. كأنهم في مأتم. بينما كانت نسوة الشرفات في مشهد من مشاهد الأعراس الأهلية في الأحياء المدينية المتواضعة، أو في ساحات القرى.

والحق أن نساء المسيرة في سيرهن من جسر الرينغ حتى مدخل الخندق الغميق، كنّ أيضاً في ما يشبه موكب عرس أهلي، كذاك الذي تقام طقوسه التقليدية في القرى، وتُحمل فيه العروس إلى حي أهل عريسها الذين ينتظر جمع منهم وصول العروس وأهلها لاستقبالهم بالزغاريد على مدخل الحي. والمسيرة في اجتيازها شوارع الخندق الغميق كثر فيها تبادل الزغاريد بين نساء شرفات البيوت اللواتي رمين الأرز بكثافة على نساء المسيرة.

وقال أحد الصحافيين المواكبين للمسيرة إن الارز غالٍ في هذه الأيام.

(الفيديو: علي علّوش)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها