الثلاثاء 2019/10/29

آخر تحديث: 01:07 (بيروت)

الانتفاضة تنشر الحب التلقائي في ساحات لبنان

الثلاثاء 2019/10/29
الانتفاضة تنشر الحب التلقائي في ساحات لبنان
الاندفاع والحماسة والإصرار والتعاطف والحميّة والحب (Getty)
increase حجم الخط decrease
انتفاضة اللبنانيين البادئة في 17 تشرين الأول الجاري، والمنتشرة في ساحات مدن وبلدات المناطق اللبنانية وشوارعها كلها، قد تكون انتفاضة "مجنونة". وصفة الجنون هنا تعني أن هذه الانتفاضة، غير مسبوقة في سِعتها و"شعبويتها" واندفاعها العاصف والتلقائي، وفي شمولها وتعرضها المباشر لأركان السياسة والحكم والزعامة في لبنان. ففي منعطفاته السياسية والاجتماعية، ومحطاته الاحتجاجية والمطلبية وساحاتها الكثيرة، لم يشهد لبنان مرة في انتفاضاته الشبابية والشعبية، هذا القدر من الاندفاع والحماسة والإصرار والتعاطف والحميّة والحب.

إيقاع الحياة الجديدة
المتنقل منذ 17 تشرين الأول في ساحات الانتفاضة وشوارعها الكثيرة والمتباينة، يلاحظ أن الناس - بفئاتهم وأعمارهم ومناطقهم ومشاربهم وانتماءاتهم المتعددة - يخرجون من أطر حياتهم اليومية العادية، ويقبِلون تلقائياً على التعارف والكلام، والتشارك في طقوس احتفالية يومية، خصوصاً في أوقات بعد الظهر والمساء، وحتى ساعة متأخرة من الليل.

ترى امرأة خمسينية من الأشرفية، بورجوازية الملامح، تراقص في ساحة الشهداء بوسط بيروت، شابّا عشرينياً من البقاع، فيما جندي يحاول، دامع العينين، فتح طريقٍ بالقوة الناعمة (على ما طلب منه).

وترى نساءً تتحلقن فجأة، مبتسمات مشرقات الوجوه، حول جنود، وترحن توزعن الورود والقبل على الجنود. وترى أيضاً جنوداً يحيطون بالمتظاهرين، ثم يروحون يوزعون الماء على المتظاهرين. وهناك في ساحة الشهداء، نصب المتظاهرون خيماً، كُتِب على إحداها: "أكلٌ وماء مجاني للمتظاهرين، تفضلوا".

أما في أوتستراد جل الديب، الذي تحوّل شطر منه ساحة كبيرة التظاهر والاعتصام وموقفاً للسيارات، فترى نساءً وأمهات في البيوت القريبة من الساحة، تستيقظن باكراً لتحضير الفطور للمتظاهرين والمعتصمين. ومنهن من ترسل الفطور مع بناتهن الصغيرات، فيمكثن أوقاتاً مع الشبان والشابات اللذين/اللواتي يبيتون في خيم الاعتصام.

هورمون الحب
أمس، في السهرة، كنت مع صديقتي ورفاقنا، نحن الآتين من زحلة وسن الفيل، جالسين أرضاً إلى جانب التمثال في ساحة الشهداء. اقتربت منا مجموعة من شبان برج البراجنة (هكذا عرفوا عن أنفسهم لاحقاً)، وبدؤوا بالرقص على قرع طبل يحملونه. فجأة وجدتني أبادر تلقائياً إلى حمل صديقتي على كتفيّ، وأروح أرقص بها وسط حلقة شبان برج البراجنة على إيقاعات قرع الطبل. ثم بدأنا جميعاً برقص مختلط. شبّان وفتيات  يرقصون بلا تعارف سبق هذا اللقاء المفاجئ. ولو التقيت بهم في يوم ووقت عاديين، لربما استقيظت رجولتي الشرقية، لحماية رفيقتي من نظراتهم.

هذا هو هورمون الحب التلقائي المتصاعد في هذه الانتفاضة.

أهل طرابلس يتضامنون مع أهل صور. شبان من بيروت يهرعون إلى جل الديب، للوقوف إلى جانب أهلها في الساحة المرتجلة على الأوتوستراد. هتافات من زحلة متضامنة مع النبطية وأهلها. وشبان وفتيات من زحلة وجل الديب يرقصون في ساحة الشهداء مع شبان وفتيات لا يعرفون من أي منطقة جاؤوا إلى الساحة.  

وداع الكراهية
هل يرى الزعماء ما ما نراه في الشوارع والساحات؟ هل يشعرون بما نشعر به؟ تساءلنا، فقال شاب لا أعرفه: "ستين عمرن ما يشوفوا ولا يحسوا"، فيما رفع آخر صوته بالهتاف الشهير ضد جبران باسيل. فقال ثالث: "فليتركوا كراسيهم خجلًا، ويرحلوا". وعلا صوت شاب رابع: "علمونا أن نكره بعضنا ونخاف من بعضنا. قالوا لنا إن الشيعي يريد أن يحتل لبنان، والسني يريد أن يقتل المسيحي، والمسيحي يكره الدرزي".

في هذه الانتفاضة تجاوز الشبان والطلاب والتلاميذة في وعيهم رجال الدين والسياسة. كسروا قوالب وجدران الكراهية التي وضعوها بيننا.  

هكذا نحن اليوم، وهذه مشاهد قليلة من يومياتنا في الانتفاضة، في ثورتنا. وهذه هي أيامنا في ساحات لبنان وشوارعه: استبدال حواجز الكراهية المكتومة أو الصامتة، والمنفجرة في مناسبات كثيرة، بالتعارف والحب التلقائيين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

مقالات أخرى للكاتب