السبت 2019/01/05

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

الدولة اللبنانية تحب "فلسطين".. تكره الفلسطينيين

السبت 2019/01/05
increase حجم الخط decrease
لم يكن الطفل محمد وهبة، هو الطفل الفلسطيني الأول الذي مات عند باب مستشفى بلبنان، في الشهر المنصرم، لعدم امتلاك المال الكافي للعلاج. فقد سبقه أطفال كثر من بينهم الطفل محمد الطه، من مخيم عين الحلوة، وآخرون من مخيمي برج الشمالي والرشيدية وغيرهما. وعلى الأرجح، لن يكون وهبة الطفل الفلسطيني الأخير، الذي تنقطع الأنفاس عن فمه، لعجز عن إيصال الدواء إليه. فالأسباب التي أدّت إلى وفاته، ما تزال فاعلة، وليس هناك من تغيير جذري بمسارها، وهي: استهداف السلطات اللبنانية وأحزابها للواقع الفلسطيني، وتراجع خدمات الأونروا، وعجز "فصائلي" غير مسبوق.

خنق المخيمات
الدولة اللبنانية، بعد الطائف، مستقيلة تماماً من الواقع الفلسطيني، وكأن المخيمات الفلسطينية هي دولة جارة، لا لاجئين على أرضها. تُلغي عام 1987 اتفاق القاهرة، وترفض أي بديل لتنظيم العلاقة، حتى لو كان منح الحقوق مقابل تسليم السلاح الفلسطيني، والدخول إلى المخيمات، كما هو الاتفاق بين الفلسطينيين واللبنانيين بُعيد اتفاق الطائف. ربما هي سابقة أن ترفض دولة سيادتها على بقعة من أرضها مقابل التزامها باتفاقات حقوقية دولية وقّعت عليها.

أصرّت الدولة اللبنانية على قرارات اتخذتها في مراحل سابقة، حرمان الفلسطينيين من مزاولة أكثر من سبعين مهنة، في وقت كان لبنان يحسم صورة وجهه العربي، وتكاد تكون فلسطين حاضرة في خطابات معظم القادة اللبنانيين أكثر من حضورها على لسان الفلسطينيين أنفسهم. وكلما كبرت "فلسطين" في الخطاب تقلّصت حقوق الفلسطينيين في لبنان.

كثر الاحتفاء بفلسطين، والإشادة بما فعله الفلسطينيون في مخيم الرشيدية خلال عدوان نيسان 1996 من مدّ العناصر المقاومة بالتموين والخبز، الأمر الذي عرّض المخيم لقصف إسرائيلي. مع هذا الاحتفاء كان قرار إغلاق معظم طرقات المخيم المطلة على الجوار مع طلوع فجر 1/1/1997. ومنع إدخال موادّ البناء، حتى لو كانت لتشييد قبر.

انسحب الأمر نفسه بعد ذلك على عدد من المخيمات، من بينها مخيم عين الحلوة (2002)، ثم سرى المنع على مخيم برج البراجنة (2010)، وكاد يُتخذ القرار في مجلس الوزراء ببناء جدار حول مخيمي برج البراجنة وشاتيلا إبّان حكومة ميقاتي، لولا تدخل وزراء اللقاء الديموقراطي. لكن الجدار أقيم حول مخيم عين الحلوة مع نهاية عام 2016، ثم جرى الإعلان عن التحضير لجدار حول مخيم الرشيدية. تقييد لحرية التنقل لم تشهده أسوأ تقييدات المكتب الثاني في الخمسينات والستينات حينما كان الفلسطيني بحاجة إلى تصريح للانتقال من مدينة لأخرى.

مع اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000 انطلق فيضان بيانات القوى اللبنانية المناصرة لحقوق الشعب الفلسطيني، لكن حقاً أصيلاً من حقوقه كان يُهدر في لبنان، حين أصدر المجلس النيابي اللبناني قانوناً على عجل، بتاريخ 21 آذار 2001، يمنع أي فلسطيني من التملّك أو التوريث. ولا يقل سوءاً عن القانون أنه صدر من دون أن يعترض عليه سوى نائب واحد، أي بإجماع الكتل النيابية.

تكاد تكون محاولة النائب وليد جنبلاط عام 2010 هي المحاولة اللبنانية الجدية والوحيدة لتعديل القوانين العنصرية بحق الفلسطينيين في لبنان. لكن فشلت هذه المحاولة نتيجة الضغوط الداخلية القوية، التي مورست على جنبلاط، والعراقيل التي وُضعت أمام التعديلات المطروحة، والاتهامات الموجهة إليه بأنه يسعى إلى التوطين، رغم أن التعديلات المطروحة تحاول أن تعيد بعض الحقوق التي كانت ممنوحة سابقاً للفلسطينيين.

الدولة اللبنانية ترفض الاعتراف بالفلسطينيين على أرضها، وبأي حق من حقوقهم، مهما كان بسيطاً، حتى لو كان تطعيماً لأطفال أو فحصاً لسرطان الثدي للنساء. إزاء كل ذلك لا تعود صادمة الأرقام التي توردها الأونروا من أن 66.4 في المئة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان فقراء، و 56 في المئة عاطلون عن العمل.

سياسة الأونروا وفسادها
وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، كما يشير اسمها، عليها مهمتان أساسيتان الغوث والتشغيل، ومنذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، بدا الفشل ظاهراً في تأدية ما أوكل إليها. فمثلاً مصاريف الوكالة الخاصة باللاجئين في مناطق عملها بلبنان وخارجه، كان 202.2 مليون دولار وذلك عام 1983، بينما انخفض عام 1984 إلى 193 مليون دولار، ثم 188 مليون دولار في العام الذي يليه، رغم الزيادة في عدد اللاجئين.

الحديث يدور حول وكالة دولية، تخضع لشروط المانحين وسياساتهم في المنطقة. فعندما بدأ الحديث جدياً عن تسوية سياسية بين منظمة التحرير و"إسرائيل"، وكان مقدمة ذلك الاتفاق الأردني الفلسطيني على كونفدرالية بين الأردن وفلسطين بعد زوال الاحتلال، انخفض التمويل الخاص باللاجئين.  

وعندما وُقعت اتفاقية أوسلو عام 1993، كانت الأونروا إحدى الأدوات الدولية لإشعار اللاجئين في غزة (70 بالمئة من السكان) والضفة (30 بالمائة) بحبوحة التسوية، فصبت معظم ميزانيتها في الضفة وغزة، أرض الدولة الموعودة. وأهملت اللاجئين خارج هاتين المنطقتين. فمثلاً في عام 1993 كانت ميزانية الصحة الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان 7.4 مليون دولار، وانخفضت في العام التالي لتصل إلى 5.5 مليون دولار، وأوقفت المساعدات لمرضى الفشل الكلوي، وامتنعت الأونروا عن دفع أية مساهمات مالية لمرضى القلب المفتوح فوق الستين عاماً. واقتصرت مساهماتها لمرضى القلب المفتوح دون الستين عاماً على مبلغ 1500 دولار.

الملاحظات لا تقتصر على سياسات الأونروا المالية، بل يتعدّى الأمر ذلك إلى وجود فساد مالي في معظم الصفقات التي أبرمتها الوكالة في المخيمات الفلسطيني، والتي كلّفت الكثير من الأموال المهدورة. فعلى سبيل المثال مشروع البنية التحتية الذي نُفّذ في مخيم برج البراجنة عام 2011، والذي كانت تكلفته أكثر من أربعة ملايين دولار، لم تستجب الأونروا لوفود أهلية عديدة زارتها، مدعّمة بالدراسات التي تثبت عدم جدوى المشروع، وأنه لن يحقق شيئاً للمخيم وسكانه. لكن الأونروا أصرّت، وتبين بعد ذلك حجم الفساد في هذا المشروع المموّل دولياً. وما يُقال عن مشروع مخيم برج البراجنة، يمكن أن يُقال عن معظم المشاريع الأخرى التي تنفّذها الأونروا في مخيمات لبنان.

الفصائل مسؤولة أيضاً
في مراحل زمنية سابقة كان لكثير من الأحزاب العاملة في الساحة الفلسطينية مشروعها الاجتماعي والاقتصادي، فلحركة القوميين العرب، بفرعها الفلسطيني، نقابات تدافع عن حق الفلسطينيين في العمل، وحقوق العمال الأخرى، كان ذلك في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ولما انطلقت فتح، وأصبح عدد أعضائها في لبنان 80 عضواً أوائل عام 1966، صار لها مشروعها الاجتماعي وسط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وكانت البنود الأولى في اتفاقية القاهرة بعد ثلاثة أعوام، تنص على حق العمل والتنقل للفلسطينيين.

وخلال السبعينيات، وعلى الصعيد الصحي، أُسست مستشفيات الهلال الأحمر الفلسطيني، وأبرزها مستشفى غزة في منطقة صبرا، الذي قُتل الكثير من طاقمه، ونُهب. وعلى صعيد التشغيل أُنشئت صامد، واشتغل في مؤسساتها ومصانعها حوالى 5000 فلسطيني. وعلى الصعيد التعليمي جرت محاولات لإنشاء مدارس، بدأت في سوق الغرب. وتطورت النقابات الفلسطينية بشكل كبير في كل المخيمات، والمناطق اللبنانية التي فيها تواجد فلسطيني.

كل ذلك اختفى تقريباً مع خروج الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982، وبداية الحديث عن تسوية سلمية، وانتقال الثقل السياسي إلى الضفة وغزة. فمع بداية التسعينات تم تسريح الآلاف من أعضاء المنظمات الفلسطينية. وتوقف تقريباً النضال المطلبي. وتحولت النقابات إلى تجمعات فصائلية، لا تظهر إلا وقت التنافس الحزبي في انتخابات وكالة الأونروا.

تُصدر السلطات اللبنانية قرارات تجريد الفلسطينيين من حقوقهم. فلا تسمع صوتاً فصائلياً قوياً في اعتراضاته. حتى تحرك النائب جنبلاط عام 2010 لم يقابله تحرك مطلبي فلسطيني مساند. لا رقابة على الأونروا، بمدارسها، وعياداتها، وإدارتها. وعند أي اعتصام فصائلي جدي عند مقرات الأونروا، تسري الحكايات عن رشى وظائفية تقدمها الأونروا لكثير من الفصائل، وينتهي الاعتصام. الأسوأ أن هذا التوظيف أدى إلى زيادة إدارات الأونروا سوءاً، خصوصاً في مجال التعليم.

أرقام البؤس
الفصائل الفلسطينية تغيرت نظرتها للفلسطينيين في لبنان، من قضية أخلاقية وحقوقية ووطنية، إلى ورقة سياسية يتم استخدامها في إطار صراع النفوذ بين هذه الفصائل، أو هكذا يبدو من طريقة تعاطيها مع قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. فعندما تُعلَن ميزانيات مليارية في الضفة وغزة، ولا يصرف عشر هذا المبلغ على لاجئين فلسطينيين، هم أكثر حاجة، فإن الأمر يدعو للتساؤل حتماً. لهذا لم يعد أمراً غريباً أن تجد عائلات فلسطينية في الضفة المحتلة تكفل مادياً عائلات فلسطينية في لبنان.

لكل ذلك لم تكن مفاجِئة الأرقام التي أوردتها الأونروا والجامعة الأميركية في بحثهما عام 2010، من أن ثلث الفلسطينيين في لبنان يعاني من أمراض مزمنة، و 21 بالمائة ممن شملهم المسح قالوا إنهم يعانون من الانهيار العصبي أو القلق أو الكآبة، و 95 في المئة من الفلسطينيين ليس لديهم تأمين صحي. هذا على الجانب الصحي، أما الجوانب الأخرى فلا تقل بؤساً.

خلاصة القول، إن توقع تحسّن في الواقع الصحي، أو الواقع العام، للاجئين الفلسطينيين في لبنان، هو للأمنيات أقرب، خصوصاً وأن القوى المتحكّمة بهذا الواقع، بنسب مختلفة، أي الأونروا والدولة اللبنانية والفصائل الفلسطينية، لا تبدي أية إشارات حول تغيير ما في سلوكها تجاه الفلسطينيين في لبنان. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها