رغم أن صناعة الفخاريات هي من الحرف التراثية ذات القيمة الفنيّة والجمالية في بلدنا، إلا أنها تشارف على الانقراض. مع ذلك، يستمر محبوها في المحافظة عليها وإن بلغوا معها الرمق الأخير.. هذه حال فوزي فاخوري، أحد القلائل الذين يتمسكون بماضيهم وتراثهم وبهذه المهنة التي عشقها منذ كان صغيراً.
في قبوه القديم في بلدة بيت شباب في جبل لبنان، تختبىء جرار فخارية صنعها فاخوري في معمله المجاور بكل الحب والشغف. تفوح في كل زاوية من زوايا المكان رائحة التراب المعجون بالماء والمشوي بالنار، كالعسل المنتظر "بجرارو لتجي أسعارو".. وقد ورث هذا السبعيني مصنعه للفخار عن جده وعائلته، ولم تمنعه التجاعيد ومتاعب السنين من الاستمرار في "هذه المهنة الصعبة"، كما يصفها فاخوري في حديثه إلى "المدن".
معمل من أصل 40 في بيت شباب!
يحمل فاخوري حكاية قديمة لحرفة تكاد تختفي من لبنان، تروي مسار حفنة تراب ومياه تتحوّل إلى أدوات فخارية نادرة ذاع صيتها في أنحاء البلاد. يقول: "عندما كنت صغيراً، كنت أرافق أبي وجدي بين حين وآخر إلى معمل الفخار هذا، حيث كانا يعملان، فتعلّمت المهنة وورثتها حتى تعلّقت بها، وهي في نظري من أجمل الحِرف التي عرفتها في حياتي". يضيف: "كانت بلدة بيت شباب مشهورة بوجود أربعين معملاً لصناعة الفخاريات، وكانت تمدّ لبنان والدول العربية بقطع الفخار من جرار وأباريق وقدور وغيرها. إلا أنها راحت تتراجع مع مرور الوقت، ورويداً رويداً أصبحتُ وحيداً في صناعة الفخار في البلدة. مع ذلك، أصرّ على الاستمرار في ممارسة هذه الحرفة حتى النفس الأخير".
يقضي العم فاخوري أكثر وقته في معمله. فهو هناك منذ بزوغ الفجر حتى غروب الشمس بكل نشاط وحيويّة لساعات طويلة، لا يكلّ ولا يملّ، واضعاً كل قواه الجسدية والعقلية في القطع الفخارية بين يديه. "لا شك أنها مصلحة جميلة، لكنها في الوقت عينه متعبة"، من انتقاء التراب وتجميعه إلى نحته يدوياً وصولاً إلى تجفيفه، مراحل عدّة تحوّل أكوام الطين إلى أوانٍ فخارية جاهزة للاستخدام، منها ما يُستعمل لتخزين الزيتون، العرق، الدبس، الزيت ومونة الشتاء على أنواعها.
ما أن تصل إلى المكان، يسترجع فاخوري معك ذكرياته من خلال صور والده وجده وأقاربه، المنتشرة والمعلّقة على جدران زوايا غرف هذا المصنع. يجذبك الطين الملتصق على ثياب هذا الرجل المرح أثناء عمله. يتنقل من غرفة إلى أخرى في المصنع الذي يتألف من غرفة كبيرة يصنع فيها الجرار وغرفة ثانية يحفظ فيها التراب، وإلى جانبهما مكان لعجن التراب في دولاب يحرّكه برجله. وهناك غرفة يضع فيها الجرار بعد خروجها من الفرن. وثمة نوعان من الأفران يستعملها فاخوري: "فرن قديم وآخر حديث يسمح بحرارة تفوق الألف درجة".
رجع إلى المهنة بعد عودته من أفريقيا
تحوّل فاخوري إلى رمز لحرفة صناعة الفخار في لبنان وبات اسمه مرادفاً لها. إنه "صانع الفخار الأخير"، يصف نفسه، "أقله في بلدتي المعروفة بهذه الحرفة، إن لم نقل في لبنان".
يروي فاخوري أنه بين ليلة وضحاها أعاد إحياء صناعة الفخار بعد عودته من أفريقيا مع انتهاء الحرب اللبنانية، "بناءً على طلب والدي العجوز لمساعدته في اتمام طلبية كبيرة من الخوابي لأحد معامل العرق، وهذا ما حصل".
ما هي المشاكل التي يواجهها فاخوري اليوم؟ يجيب: "المشكلة الأساس تتمثل في عدم إقبال الشباب على تعلّم هذه المهنة، حتى أنني أجد صعوبة في ذلك مع بناتي لكونها مهنة صعبة تتطلب مجهوداً كبيراً وعملاً مضنياً".
منذ شهرين يعاون فاخوري في عمله شاب من الجنسية السورية، "يبدو أنه رغب في المصلحة وأحبها"، ويأمل فاخوري أن يستمر في العمل معه.
"ختيرت"، يقول، "لكن، لن أستسلم وسأبقى حتى اللحظة الأخيرة أعمل في صناعة الفخار". لم تتعب يدا فاخوري من نحت التراب والطين ولم يجف شغفه بهذه الحرفة. يتحسّر على "حرفة تنقرض مع مرور السنوات، وسط انعدام الاهتمام الرسمي بها، وكذلك بلدية بيت شباب التي أهملت هذا الجزء من تراثنا اللبناني".
ومع أننا لم نعد نلاحظ إقبال أصحاب البيوت على اقتناء الجرار والفخاريات، إلا أن فاخوري مستمرٌ في تلبية طلبيات كبيرة من الخوابي لشركات العرق والنبيذ وغيرها من الشركات.. فهل من ينقذ هذه الحرفة من الانقراض قبل فوات الأوان؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها